هل تصدر محكمة الجنايات الدولية مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين؟ بقلم : ماهر الشريف
أصدر المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية كريم خان، في 3 أيار/مايو الجاري، بياناً صحفياً دعا فيه إلى “وقف جميع محاولات عرقلة عمل محكمة الجنايات الدولية، أو ترهيب موظفي مكتبه والتأثير عليهم”، وأضاف أنه “حتى لو لم يتم اتخاذ أي إجراء، فإن التهديدات تشكّل جريمة ضد إقامة العدل”، وأن القانون الجنائي لمحكمة الجنايات الدولية “يحظر الترهيب واستغلال النفوذ، سواء بالإكراه أو الإقناع، ويُعاقب على إعاقة سير العدالة بالسجن لمدة خمسة أعوام وبدفع غرامة مالية”.
وحذر البيان من أن ”استقلال المحكمة ونزاهتها يتم تقويضهما عندما يهدد أفراد بالقيام بأعمال انتقامية ضدها، أو ضد موظفيها”، بسبب “قرارات” قد تتخذها بشأن التحقيقات التي تدخل في نطاق ولايتها. ومع أن المدعي العام لهذه المحكمة لم يوجّه هذا التحذير إلى طرف محدد، إلا أن من الواضح أن تحذيره موجّه إلى الحكومة الإسرائيلية، التي يتخوّف رئيسها من أن تصدر محكمة الجنايات الدولية مذكرة اعتقال بحقه، وبحق وزير حربه يوآف غالانت ورئيس أركان جيشه هرتسي هليفي، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة (1).
ذعر بين المسؤولين الإسرائيليين
خلافاً لمحكمة العدل الدولية التي تنظر في النزاعات بين الدول، تتمتع محكمة الجنايات الدولية بصلاحيات محاكمة الأفراد المشتبه في ارتكابهم جرائم خطيرة تتراوح بين جرائم الحرب والإبادة الجماعية. وذكرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية اليومية أن هناك “ذعراً” في وزارة الخارجية الإسرائيلية من احتمال أن تصدر هذه المحكمة مذكرات اعتقال بحق المسؤولين الإسرائيليين المذكورين، وأن مكتب بنيامين نتنياهو يأخذ “على محمل الجد” هذا التهديد، بينما ذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يقوم بـ “حملة هاتفية متواصلة”، وخصوصاً مع حلفائه في واشنطن، يحثهم فيها على ممارسة الضغط على محكمة الجنايات الدولية كي لا تصدر هذه المذكرات، وأن أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي، من الديمقراطيين والجمهوريين على السواء، نقلوا مخاوف رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال “اجتماع افتراضي عقدوه مع كبار المسؤولين في محكمة الجنايات الدولية”.
وأوضح مراسل قناة “إن بي سي نيوز” الأميركية في تل أبيب أن مسؤولاً إسرائيلياً قال له: “إسرائيل تستخدم جميع القنوات الدبلوماسية لضمان عدم إصدار مذكرات الاعتقال هذه”. وكان بنيامين نتنياهيو قد ندد “بمحاولة منع إسرائيل من الدفاع عن نفسها ضد حماس”، وأكد، في تغريدة على موقع إكس (تويتر) نشرها في 26 نيسان/أبريل الفائت، أن إسرائيل لن تقبل أبداً “أي محاولة من محكمة الجنايات الدولية في لاهاي لتقويض حقها الأساسي في الدفاع عن نفسها”، معتبراً أن مذكرة الاعتقال بحقه ستكون بمثابة “صب الزيت على نار معاداة السامية”، كما هدد السلطة الفلسطينية، في حال تقديم لائحة اتهام من قبل محكمة الجنايات الدولية ضده، بوقف تحويل عائدات الضرائب التي تجمعها إسرائيل نيابة عنها بما يؤدي إلى انهيارها (2).
ودعا بنيامين نتنياهو “قادة العالم الحر” إلى “إدانة هذه الخطوة المشينة بشدة”، وذهب، في 30 من الشهر نفسه، إلى أبعد من ذلك بقوله: “سندخل رفح ولا نهتم بالمحكمة في لاهاي؛ فالمحكمة معادية للسامية” (3). بينما قال الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتزوغ، لدى استقباله وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 1 أيار/مايو الجاري، إن “محاولة استخدام محكمة الجنايات الدولية الدولية ضد إسرائيل، التي تحارب الإرهاب، تمثل خطراً واضحاً ومباشراً على الديمقراطيات والدول الحرة المحبة للسلام التي تحترم قواعد القانون الدولي”، وأضاف: ”أدعو حلفاءنا وأصدقاءنا إلى معارضة مثل هذه الأعمال ورفضها”، إذ إن لدى إسرائيل “نظام قضائي كفؤ للغاية” (4).
ما أهمية صدور مذكرات الاعتقال
على الرغم من أن إسرائيل ليست طرفاً في محكمة الجنايات الدولية، ولم تمنح هذه المحكمة صلاحيات تتعلق بأراضي سيطرتها أو بمواطنيها، فإن انضمام دولة فلسطين إلى هذه المحكمة، في سنة 2015، جعلها تمتع بصلاحيات في الأراضي الفلسطينية. وعليه، فقد اعتبر باحثان في “معهد دراسات الأمن القومي” الإسرائيلي، هما ينينا شرفيت – باروخ وتامي كينر، أن مذكرات الاعتقال التي قد تصدرها هذه المحكمة بحق المسؤولين الإسرائيليين ستكون “ذات أسنان”، ويمكن ان تفرض قيوداً على سفرهم، ولا سيما إلى الدول الأعضاء الـ 123 في نظام روما الأساسي لسنة 2002 التي أنشئت المحكمة على أساسه، كما يمكن أن “تؤذي صورة إسرائيل ومكانتها الدولية” وأن تُستخدم “لخطوات أخرى من أجل عزل إسرائيل بواسطة العقوبات والمقاطعات”. ومع أن هذين الباحثين أشارا إلى أن محكمة الجنايات الدولية “لا تقبل الشكاوى المقدمة لها، عندما يجري التحقيق في الحادثة بصورة مهنية من خلال السلطات الرسمية المعنية”، إلا أنهما حذرا من إسرائيل لا تستطيع “التباهي بأنها دولة ديمقراطية لديها منظومة قضائية محترمة، وتسمح من جهة أُخرى، بصدور تصريحات عديمة المسؤولية من وزراء وأعضاء في الائتلاف تتعلق بنيات إسرائيل في الحرب مثل، تسوية قطاع غزة بالأرض”، و “لا يوجد في غزة غير ضالعين في القتال”، أو القول إنه يوجد عدد كبير من المعتقلين، والتساؤل عمّا إذا كان من الممكن “قتل عدد منهم”” (5).
من جانبه، توقع المحلل عيدو روزنتسفايغ، في مقال نشره في صحيفة “معاريف”، أن يتوجّه المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، قريباً إلى هيئة القضاة في المحكمة ويطلب منها إصدار مذكرات بحق بعض المسؤولين الإسرائيليين، علماً بأن المصادقة على طلبه ليست تلقائية، إذ “يتوجب على الهيئة المكونة من ثلاثة قضاة أن ترى أن هناك مبررات وأدلة كافية من أجل إصدار مذكرات الاعتقال”. ومع قناعته بأن إسرائيل لن تتعاون مع المحكمة، في حال صدور مذكرات اعتقال، إلا أنه تنبأ بأن يُلحق صدورها “ضرراً كبيراً” بإسرائيل، ذلك إن لمذكرات الاعتقال الدولية “إسقاطات أكثر من مجرد تطبيقها فعلياً”، هذا بالإضافة إلى أن إصدار مذكرات الاعتقال “يمكن أن يعزز نيات الدول في الامتناع من بيع أسلحة وقطع غيار إلى إسرائيل، وربما يعزز كذلك وتيرة عزلتها الدولية القائمة أصلاً”. وبغية الحؤول دون حدوث ضرر في المدى البعيد، دعا المحلل نفسه السياسيين الإسرائيليين إلى أن يبدأوا “في التعامل مع قواعد القانون الدولي بجدية، وليس فقط بعد أن يدور دولاب العدل الدولي”، مقترحاً التشديد “على استقلالية القضاء الإسرائيلي، ونوعيته وعدم تعلقه بالسياسة المحلية”، ذلك إن محكمة الجنايات الدولية “تستطيع تطبيق صلاحياتها فقط في حال كان النظام القضائي في إسرائيل غير قادر أو غير معني بالعمل بصورة مستقلة ولائقة” (6).
حلفاء إسرائيل الغربيون يهرعون لنجدتها
ليست الولايات المتحدة الأميركية طرفاً في محكمة الجنايات الدولية، وقد رفضت منذ فترة طويلة ولايتها القضائية على الدول غير الأعضاء، علماً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن وافق مطلع هذا العام على مساعدة المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية في تحقيقاته في أوكرانيا، وهو ما مثّل نقطة تحوّل رئيسية في الموقف الأميركي. بيد أن الأمر اختلف عندما تعلق بفلسطين، إذ أكدت الإدارة الأميركية أنها “لا تدعم التحقيق الذي تجريه محكمة الجنايات الدولية” ضد إسرائيل”، وأضافت: “نحن نعتبر أن هذا ليس من مسؤولياتها، وكنا واضحين للغاية بشأن هذا الأمر”. وفي حين نفى البيت الأبيض ممارسة أي ضغوطات على المحكمة، فهو أشار، على لسان سكرتيره الصحفي، إلى أنه لا يعترف باختصاص محكمة الجنايات الدولية في التحقيق في الأراضي الفلسطينية (7).
وعلى الرغم من عضوية بريطانيا في محكمة الجنايات الدولية، فإنها تعارض، منذ سنة 2021، ولايتها القضائية على فلسطين، إذ اعتبر رئيس وزرائها في ذلك الوقت، بوريس جونسون، أن “الإجراءات القانونية الأحادية الجانب […] تؤدي إلى تفاقم التوترات وتقويض الجهود المبذولة لدفع حل الدولتين عن طريق التفاوض”. ومؤخراً، اتصلت الحكومة البريطانية بالمحكمة للتعبير عن قلقها بشأن قرب صدور مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، وذلك وفقاً لما نقلته صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين أميركيين. وفي حين أن جميع دول الاتحاد الأوروبي أعضاء في محكمة الجنايات الدولية، فقد رفضت خمس منها، هي: النمسا وجمهورية التشيك وألمانيا والمجر وليتوانيا اختصاص هذه المحكمة بشأن فلسطين، وذلك بذريعة عدم وجود دولة فلسطينية وتخوفاً “من تسييس المحكمة”. ويرى بعض المحللين أن القادة والمسؤولين الأوروبيين “تحدثوا عن دور محكمة الجنايات الدولية في حرب غزة بصورة أقل بكثير مما تحدثوا عن دورها في حرب أوكرانيا، حيث دعا العديد من الدول الأوروبية المدعي العام للتحقيق في الأوضاع في أوكرانيا”، وأن لجوء بعض دول الاتحاد الأوروبي إلى استخدام حق النقض، في حالة فلسطين، “يمكن أن يحرم محكمة الجنايات الدولية، التي تموّلها مساهمات الدول الأعضاء، من الموارد اللازمة” (8).
هل تصدر المحكمة مذكرات اعتقال؟
تشير مصادر عديدة إلى أن من المتوقع أن يقدم المدعي العام، كريم خان، طلبه لإصدار مذكرات الاعتقال إلى القضاة قريباً، وسيتعين على القضاة الثلاثة فحص الأدلة المرفقة بالملف قبل الموافقة على الطلبات أو رفضها. وكان مكتب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية قد فتح، في 3 آذار/مارس 2021، تحقيقاً في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، غطى جميع انتهاكات القانون الدولي التي ارتكبتها إسرائيل منذ سنة 2014 في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، قُدم إلى محكمة الجنايات الدولية ملف مكوّن من 56 صفحة، قدمه أكثر من 300 من رجال القانون من جنسيات مختلفة، وأكثر من 130 من الجمعيات، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات، والشخصيات، وطالبوا فيه بفتح تحقيق حول الأفعال المنسوبة إلى الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر.
وفي 17 من الشهر نفسه، أعلن مكتب المدعي العام أنه تسلم دعوى مقدمة من خمس دول أعضاء في المحكمة، هي جنوب أفريقيا، وبنغلادش، وبوليفيا، وجيبوتي وجزر القمر، تطالب محكمة الجنايات الدولية بالتحقيق في الهجمات التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة. وفي مطلع كانون الأول/ديسمبر 2023، وبعد زيارة قام بها المدعي العام للمحكمة إلى تل أبيب ورام الله، تناول كريم خان قضية الحرب في قطاع غزة، مشيراً إلى أن المحكمة “ستدرس تصرفات حماس والجيش الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر وستفحص ما إذا كانت قد ارتُكبت جرائم حرب” (9).
ووفقاً لمصدر دبلوماسي إسرائيلي، فإن مذكرات الاعتقال التي تعدها محكمة الجنايات الدولية ستركّز بصورة أساسية على حقيقة أن القادة الإسرائيليين “تعمدوا تجويع الفلسطينيين في غزة”، كما يمكن أن يكون التهجير القسري للسكان الفلسطينيين “سبباً يدفع المحكمة إلى اتخاذ إجراءات”، ذلك إن معظم سكان القطاع قد أجبروا على مغادرة منازلهم جراء الهجمات الإسرائيلية، بينما تمثّل المقابر الجماعية المكتشفة “مؤشراً صارخاً على وقوع مذابح وجرائم حرب” (10).
وبحسب مراسل صحيفة “ليزيكو” الفرنسية في تل أبيب، باسكال برونيل، فإن الجيش الإسرائيلي، الذي يخشى من موجة من الشكاوى بشأن ارتكاب “جرائم حرب” أمام محكمة الجنايات الدولية، قد “شحذ أسلحته على الجبهة القانونية”، وأصدر “أمراً بالتعبئة العامة للمحامين من بين جنود الاحتياط “، استعداداً لمواجهة الشكاوى المتعلقة بجرائم الحرب من الدول والمنظمات غير الحكومية المتعددة، الأمر الذي قد يؤدي في المستقبل إلى إصدار أوامر اعتقال، إذ يمكن، على سبيل المثال، اعتقال الضباط أثناء إقامتهم في الخارج، كما يمكن تقييد حرية عمل الجيش الإسرائيلي بصورة خطيرة. وينقل المراسل عن أحد المحامين الذي يقضي فترات احتياطية في القسم القانوني التابع للجيش قوله: “هذه مجرد البداية، يجب أن نستعد للأسوأ، وخصوصاً عندما يتمكن الصحافيون وأعضاء المنظمات غير الحكومية، ومعظمهم من المعادين لإسرائيل على أي حال، في نهاية الحرب، من رؤية الضرر الهائل الناجم عن الحرب”. ويضيف المراسل أن من المرجح أن تستند الشكاوى أيضاً إلى الصور ومقاطع الفيديو العديدة التي نشرها جنود إسرائيليون على شبكات التواصل الاجتماعي، وهم “يشاركون بفخر في تدمير المنازل انتقاماً لأحداث 7 أكتوبر أو يعاملون الفلسطينيين المعتقلين معاملة مهينة”. وإدراكاً منه لمخاطر نشر مثل هذه الصور، أصدر رئيس هئية الأركان العامة، الجنرال هرتسي هاليفي، مؤخراً دعوة إلى جنوده لالتزام “النظام” والامتناع “عن تقديم وثائق تورط الجيش، على طبق من ذهب، إلى البلدان والمنظمات المعادية لإسرائيل” (11).
خاتمة
بذرائع واهية مثل “الدفاع عن نفسها”، وكونها “دولة ديمقراطية” تستند إلى “قضاء مستقل”، تستمر إسرائيل، منذ سبعة أشهر، في شن حرب إبادة شاملة على قطاع غزة وسكانه، مرتكبة العديد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهي تسخر قوى حلفائها الغربيين، الذين ينتهجون سياسة المعايير المزدوجة، لإحباط جهود إحقاق العدالة الدولية، موجهة سهامها، بصورة خاصة، حالياً إلى البريطاني كريم خان، المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، علماً بان هذا المدعي العام كان قد تعرض لانتقادات شديدة في السابق، جراء عدم اهتمامه بمتابعة التحقيق الذي فُتح بشأن فلسطين في آذار/مارس 2021، في عهد المدعية العامة السابقة للمحكمة الغامبية فاتو بنسودا، وكذلك بسبب “تعامله غير المتكافئ مع القضايا الإسرائيلية والفلسطينية”، حتى إن مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطيني رفض الاجتماع معه، خلال زيارته إلى رام الله في كانون الأول/ديسمبر الفائت؛ ولكنه، ما أن حزم أمره، إثر الضغوط الشديدة التي تعرض لها، وبدأ التحقيق جدياً في انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي الإنساني في قطاع غزة، حتى جوبه بهذه التهديدات من جانب إسرائيل وحلفائها.