طوفان الأقصى وصحوة ثقافية غربية، بقلم : سماح خليفة
بعد أكثر من قرن على الصراع العربي الصهيوني، والكفاح الفلسطيني، لأجل تحرير الأرض وإنهاء الاحتلال والمظلومية التاريخية، وما وقع منذ الحرب العالمية الأولي من ظلم فادح لشعب فلسطين وإهانة بالغة للأمة، شهدت فلسطين والأمة والكيان الصهيوني والعالم تحولات مهمة تاريخيًّا وإستراتيجيًّا، وكان من أهم القضايا التي فاجأت العالم بأسره، وأحدَثُها، عملية “طوفان الأقصى”، التي استطاعت نقل المعركة إلى عقر دار الكيان الصهيوني والغرب الإمبريالي ليس فقط جغرافيًّا بل أيضا ثقافيًّا وإنسانيًّا.
ولم تكن تلك المعركة التي تعد من أهم التحولات التي شهدتها تلك المنطقة إلا نتيجة تراكم تاريخي لكفاح أمة في سبيل النهوض والتحرر، بل هناك تحول أو ربما انهيار في نموذج إستراتيجية الكيان الاستيطاني التي كانت قائمة على الردع بأقصى وأقسى العنف والعدوان والمفاجأة، وخوض المعارك على أرض الخصم.
وهذا من شأنه أن يسفر عن أسوأ كوابيس الصهاينة، وهو نزع الشرعية عن إسرائيل وترذيلها أخلاقيًّا، وخاصة لدى أجيال الغرب الشابة، فقد شهد العالم صحوة كبرى تناصر قضية فلسطين، وسردية الحق الفلسطيني شملت العالم الثالث والجنوب العالمي وعواصم أوروبا وأميركا الشمالية، بل حتى مدنه الصغيرة، وقد تصدر الحراكات والمظاهرات جيل جديد من اليهود في الغرب نشأ في عائلات صهيونية راسخة، لكنه تمرد على السردية الصهيونية لصالح سردية الحق والعدل.
نستطيع أن نقول: إن صحوة في الوعي لدى النشء الجديد تجلت في مسارات عدّة: مسار إنساني عبّر عنه سياسيون منتخبون ومنظمات حقوقية دولية وأممية وجمهور الشارع، إذ أدرك هؤلاء المحرقة الصهيونية في غزة وقارنوها مباشرة بالمحرقة النازية والممارسات الفاشية، وأدانوا الكيان الصهيوني أشد الإدانة، ووجد هذا دعمًا في قرارين لمحكمة العدل الدولية التي أوردت مظاهر الإبادة الجماعية والتحريض عليها من أعلى مستويات القرار والسلطة في الكيان الصهيوني.
ومسار إستراتيجي أبرز عقم الحرب الإسرائيلية، وعبثية الإبادة واتجاه الكيان الصهيوني نحو التشرذم والتخبط الذاتي، وشرعية المقاومة، وقد عبّر عنه مؤرخون وأكاديميون ومحللون وعسكريون غربيون سابقون.
فضلًا عن المسار الأهم وهو الصدمة الثقافية التي أحدثتها عملية “طوفان الأقصى”، وتداعياتها الإنسانية واسعة النطاق، وثورة الوعي الجديد التي طالت كل شيء، وذهبت بفضول الناس نحو قراءة القرآن ودراسته، وطرح أسئلة حول الإسلام، وقضية الوجود الكبرى.
إن هذه الحراكات والمظاهرات والنشاطات تمثل نقطة انطلاقة لفكر تحرّري سياسي، وتغيير اجتماعي، واقتصادي جديد، يتصدى للعقلية الغربية والفساد السياسي والظلم الاجتماعي، نحو مفاهيم العدالة والإنسانية، وقد يتغير وجه الغرب الاستعماري الاستيطاني المسيطر على العالم منذ قرون.
وإلى جانب استنكار تلك الحراكات للإبادة والدمار والتجويع، والمطالبة بوقف إطلاق النار، لإنقاذ أرواح المدنيين ومنازلهم، استطاعت أن تتجاوز أكذوبة “حل الدولتين” والمطالبة قولًا وفعلًا بـ”فلسطين حرة” من النهر إلى البحر.
تعد قضية فلسطين من أهم القضايا التي تعرض شعبها إلى ظلم وعدوان، صامدًا مؤمنًا بحقه في النضال والتحرر من ظلم الاحتلال والاستيطان، واستطاعت القضية الفلسطينية لفت انظار العالم إلى عدالتها عن طريق نشر ثقافة المقاومة والصمود الأسطوري والثبات على الأرض والتماسك بين مختلف شرائح المجتمع، كما شهده العالم لدى أهالي قطاع غزة، فمن بين المجازر الصهيونية، يظهر أطفال من بين الركام يتلقون العلم من شابة تقف منتصبة القامة مرفوعة الهامة، فضلًا عن أطفال يتحدون الموت باللعب، “لعبة الشهيد” الذي ينهض، ليفاجئهم بعد خطوات من جنازته بصحوته وصيحته ونهوضه من الموت، في دلالة على إيمانهم العميق بالميلاد المتجدد للقضية.
وبالعودة إلى حالة الإقبال الشعبي الغربي على فهم الإسلام، فهو ناتج عن حالة الفراغ الروحي والأخلاقي والقيمي في الغرب، والذي يظهر فشل اليسار والفكر الاشتراكي في ملء ذلك الفراغ منذ بداية القرن العشرين وحتى نهاية الحرب البارد، وهذا ما جعل الدوائر الغربية المتنفذة من المجمع الصناعي العسكري والدولة العميقة ومراكز الأبحاث واللوبيات وغيرها تقترح العدو الأخضر (الإسلام) بديلا عن العدو الأحمر (الشيوعية)، فانطلقت حملات غربية (أميركية المركز)، لتشويه الإسلام بفعل الباحثين والإعلاميين ومؤتمرات جامعة ومراكز دراسات ومساحات إعلامية واسعة، لترويج صورة بشعة عن الإسلام (الإرهابي) والحيلولة بين العالم وبين روح الإسلام وتصوراته وفكره ورؤيته الكونية.
وازداد الأمر سوءًا بعد هجمات نيويورك وواشنطن في 11 أيلول 2001م، فانتقلت الحملة إلى إعلان “الحرب (العالمية) على الإرهاب” ومحاولة اجتثاث الإسلام محليًّا بالقوانين الفاشية، واصطياد الضحايا في قضايا إرهاب مزعومة، وغزو واحتلال أفغانستان ثم العراق، وإطلاق “الفوضى الخلاقة” ومشروع الشرق الأوسط الكبير، ومسالخ التعذيب في معتقلات “غوانتانامو” وغيره، كما انطلقت حروب وحملات أخرى للهيمنة على العالم الإسلامي بزعم “نشر الديمقراطية”.
وتمثيلًا لما أسماه العالِم والكاتب جلال أحمد أمين بـ “عصر التشهير بالعرب والمسلمين”، حيث كان الهدف الهيمنة على العالم تمامًا ومطاردة الإسلام والمسلمين في كل مكان، فقد حاول الرئيس الأميركي جورج بوش الابن و”المحافظون الجدد” رمي الإسلام بالفاشية وترويج مصطلح “الفاشية الإسلامية”، كما أنشأوا قواعد بيانات هائلة للإرهاب، شملت ملايين المسلمين والشخصيات الإسلامية حول العالم، لمحاكمتهم وتجميد أصولهم ومنع سفرهم، بل وإنزالهم من الطائرات المتجهة إلى أميركا ولو كانوا مواطنين أميركيين.
ومما سبق، فإن ملحمة “طوفان الأقصى” وما أحدثته من صدمة ثقافية في الغرب والعالم جاءت لترد على الإسلاموفوبيا، اليمين المتطرف الأوروبي والتي أطلقت بدورها ردود فعل عنصرية وكراهية على تعاطف الشارع في الغرب مع فلسطين، وما اختلقوه من “الحرب على الإرهاب”، كما تمثل تجربة مهمة في سياق التصدي الثقافي لمنظومة الهيمنة الإمبريالية على العالم، وفتح آفاق إنسانية وروحية وأخلاقية جديدة لجماهير غفيرة في الغرب، لإعمال عقلها في قضايا العدل والحرية للشعوب على أراضيها وفي أوطانها بعيدًا عن استراتيجية “غسيل الأدمغة”.