“نيتساح يهودا” … رشوة سخيفة ونكتة سمجة في قصة هزلية، بقلم : تيسير خالد
تناقلت وسائل اعلام اسرائيلية ان الادارة الأميركية بصدد فرض عقوبات على كتيبة في الجيش الاسرائيلي تعرف باسم ” نتساح يهودا ” . تقتصر العقوبات المحتملة على منع الكتيبة المذكورة من تلقي أي نوع من المساعدة أو التدريب العسكري الأميركي.
وتزامنت التسريبات حول هذه المسألة مع حدثين بارزين، الأول استخدام الولايات المتحدة الأميركية الفيتو في مجلس الأمن الدولي للحيلولة دون اعتماد فلسطين دولة كاملة العضوية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أما الثاني فهو إقرار رزمة مساعدات من واشنطن لتل أبيب أجازها مجلس النواب الأميركي بقيمة 17 مليار دولار لتعويض النقص في نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي وتوسيعه، وشراء أنظمة أسلحة متقدمة. تضاف الى حزمة مساعدات مماثلة بقيمة 14.1 مليار دولار كانت الولايات المتحدة قد أقرتها في شباط الماضي لتصبح مجموع المساعدات المقدمة لاسرائيل بعد السابع من اكتوبر الماضي نحو 31 مليار دولار .
ردود فعل قادة اسرائيل من الحكومة والمعارضة على حد سواء كانت غاضبة. ففي تغريدة له على منصة “اكس” وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي ، بنيامين نتنياهو العقوبات المحتملة بالانحطاط الاخلاقي وقمة السخافة، وأضاف ” لا يجب فرض عقوبات على الجيش الإسرائيلي.
أنا أعمل في الأسابيع الأخيرة ضد فرض عقوبات على مواطنين إسرائيليين ، بما في ذلك في محادثاتي مع كبار المسئولين في الحكومة الأميركية، ففي الوقت الذي يحارب فيه جنودنا وحوش الإرهاب، فإن النية بفرض عقوبات على وحدة في الجيش هي قمة العبثية وانحدار في القيم “.
هذه موجة عالية من الاستعلاء، حتى على الادارة الأميركية. وزير جيشه يوآف غالنت لم يكن أقل حدة ، فقد أعلن رفضه لكل من يحاول أن يعلم قادة اسرائيل القيم والأخلاق. أما وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير فقد حذر الولايات المتحدة من أن فرض عقوبات على كتيبة “نيتساح يهودا” وأعلن بان خطوة كهذه هي ” خط احمر ” ودعا في الوقت نفسه وزير الجيش لتقديم الدعم الفوري لتلك الكتيبة.
وزير المالية ووزير الاستيطان في وزارة الجيش بتسلئيل سموتريتش، وصف قرار فرض عقوبات أميركية على الجيش في وقت تحارب إسرائيل على وجودها، بالجنون المطلق ، فيما اعتبر الوزير في كابينيت الحرب ، بيني غانتس، كتيبة “نيتساح يهودا” جزءا لا يتجزأ من الجيش ، وهي تخضع للقانون العسكري وتعمل وفقا للقانون الدولي، وادعى أن إسرائيل تتمتع بنظام قضائي قوي ومستقل ، يعرف كيفية فحص أي انتهاك للقانون أو انحراف عن أوامر الجيش ، وتوجه في الوقت نفسه لأصدقائه الاميركيين بعدم الاقدام على مثل هذه الخطوة، باعتبارها رسالة خاطئة إلى أعدائنا المشتركين في وقت الحرب.
رئيس المعارضة، يائير لبيد، انضم الى الصف الطويل من السياسيين الذين نددوا بالعقوبات المحتملة على تلك الكتيبة ، فهي ” خطأ وعلينا العمل من أجل إلغائها ” ولم يسعفه الحال في تمييز نفسه، وهو يدعي ان ” مصدر المشكلة ليس في المستوى العسكري وإنما في المستوى السياسي”، فالعالم حسب تعبيره يدرك ويعلم أن الوزير بن غفير ليس معنيا بأن تقوم الشرطة بإنفاذ القانون، والوزير سموتريتش لا يعارض الإرهاب اليهودي واعتداءات المستوطنين المتطرفين”.
وحدها رئيسة حزب العمل الإسرائيلي، ميراف ميخائيلي ، كانت واضحة ومتواضعة ، فقد أكدت أن كتيبة “نيتساح يهودا” هي “كتيبة لـشبيبة التلال التي تقتل فلسطينيين بدون سبب”.
واضافت في مدونة لها على منصة “إكس” أن ” الرد على العقوبات يجب أن يكون صحوة، وإدراك أن ممارسات إسرائيل في المناطق (المحتلة) لا يمكن أن تستمر، والممارسات العنيفة والفاسدة لكتيبة ” نيتساح يهودا ” ومحيطها معروفة منذ سنين، ولم يتم فعل شيء كي تتوقف، فقبل سنتين شكلت الولايات المتحدة فريق تحقيق حول الكتيبة ، وليس بإمكان المستوى السياسي والعسكري التظاهر بأنهما لم يعلما بذلك “.
ولكن ما هي قصة تلك الكتيبة . هي وحدة عسكرية إسرائيلية تعمل في الضفة الغربية ، وقد أصبحت وجهة للمستوطنين اليمينيين المتطرفين الذين لم يتم قبولهم في أي وحدة قتالية أخرى في جيش الاحتلال . تأسست في العام 1999 من 30 جنديا حريديا وعرفت في حينه باسم “ناحال حريديم” . الآن يخدم فيها نحو 1000 جندي ضمن جميع المراحل، بين التدريب أو السرايا القتالية ، وتضم في صفوفها نسبة كبيرة من المتدينين القوميين والصهيونيين الدينيين ، بالإضافة إلى عدد كبير من المستوطنين الذين يشاركون في الاعتداءات على الفلسطينيين في الضفة الغربية . كثير من عديدها يرافقون بزيهم العسكري مستوطنين في اعتداءاتهم ضد المواطنين الفلسطينيين.
يخدم جنودها ما مجموعه عامين وثمانية أشهر ضمن صفوف جيش الاحتلال، وتتبع للواء كفير ، المعروف بعنفه في التعامل مع الفلسطينيين . من تاريخها ، أنها تتميز بممارساتها الشاذة ، وهي تخضع لرقابة وسطوة الحاخامات، ويفضل أعضاؤها أوامرهم على أوامر الجيش، ويوجد بين رؤسائهم الروحيين من يكنّون عداءً أعمى للعرب ، ويتم التعامل معها بمسارات خاصة استجابة لموقفهم، الذي يدعو الى الفصل بين الجنسين والالتزام الصارم بأداء الصلاة، ومنحهم ساعات للصلاة وأخرى للتواصل مع الحاخامات. وبما أن الكتيبة تعمل على أساس تطوعي ولا تقوم بتجنيد جنود ، فهي واحدة من الوحدات القليلة في جيش الاحتلال ، التي تعتمد على آلية تجنيد خاصة بها، حيث تجند بشكل نشط جنودًا من الأرثوذكس المتطرفين والصهيونيين المتدينين.
أما شعارها فهو “ ويكون معسكرك مقدسًا ” ( سفر تثنية 23:14 ) ، وهي عبارة مأخوذة من التوراة تركز على أهمية الحفاظ على جيش يهودي، وعسكر خالي من الخطيئة (مقابل المساعدة الإلهية في المعركة). نطاق عملها هو في الضفة الغربية، تارة في غور الأردن، وأخرى في المناطق المحيطة بجنين وطولكرم ورام الله، وكغيرها من الوحدات العسكرية يتم تدوير خدمتها بشكل متكرر بين مناطق مختلفة.
اختيرت في أكثر من مناسبة لتمثيل الجيش الإسرائيلي في بعض المراسم الرسمية، وحصلت عام 2012 على جائزة التميّز في فرقة الضفة الغربية، وفي عام 2012 ، التحق بالكتيبة، التي تُعتبر الكتيبة المقاتلة الحربية الأكبر في الجيش الإسرائيلي ، مئات الجنود وحققت في عام 2013، رقماً قياسياً بتجنيد 819 جندياً، وحازت على المرتبة الثانية من بين الوحدات في جائزة رئيس هيئة الأركان للوحدات المتميّزة.
وفي عام 2016 ، حصلت الكتيبة على جائزة التميّز من فرقة الضفة الغربية على دورها في قمع الفلسطينيين .
هي لا تختلف كثيرا عن غيرها من وحدات جيش الاحتلال، سوى بأيدولوجيتها اليمينية المتطرفة والدينية، وليست وحدها هي التي تقاتل في سبيل الرب في حروب اسرائيل المقدسة ، التي لا تنقطع، فغيرها من الوحدات تخوض أيضا باسم الرب حروبا مقدسة ضد الفلسطينيين . وعلى غرار نتنياهو ، الذي ذكر جنود الجيش المتوجهين للقتال في قطاع غزة بعد السابع من اكتوبر الماضي بالحرب المقدسة ضد العماليق، كان الكولونيل عوفر وينتر يبشر بالحرب المقدسة، ففي تموز 2014 ، بينما كانت القوات الإسرائيلية على الحدود مع غزة تستعد للحرب كتب الكولونيل وينتر ، قائد لواء جفعاتي في رسالة موجهة لجنوده يقول : ” لقد اختارنا التاريخ لنقود الحرب على العدو الغزاوي الإرهابي الذي يلعن ويذم ويكره رب إسرائيل”، وأنهى الرسالة بنص توراتي يبشر محاربي إسرائيل في ساحات القتال بالحماية الإلهية. تلك الرسالة كانت مؤشرا على تغييرات جوهرية كانت تجري في اوساط الجيش فتحت على تحول حول الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه دولة إسرائيل. ومع السنوات تفيد التقديرات بأن اغلبية واسعة من رؤساء أجهزة الشرطة والمخابرات (الموساد) والأمن الداخلي (شين بيت) هم من الصهاينة المتدينين. كما تظهر دراسات أكاديمية اسرائيلية أنه خلال العشرين عاما الأخيرة شهد عدد الضباط من الصهاينة المتدينين في جيش الاحتلال زيادة قوية.
ويشعر الجيش أيضا بتزايد نفوذ الحاخامين الذين أدخلوا أمور العقيدة والسياسة الى أرض المعركة. على هذا الصعيد تفخر أكاديمية ” بني دافيد ” بأن كل خريجيها تقريبا يتطوعون لأعمال القتال، نصفهم في وحدات متميزة في الجيش ، وأن حوالي 40 في المئة من خريجيها ومن ضمنهم عوفر وينتر- أصبحوا ضباطا. ” بني دافيد ” الآن هي واحدة من 46 أكاديمية عسكرية نصفها ديني، ومن المعروف ان الحاخام اليميني المتطرف إيلي سادان، هو مؤسس أكاديمية بني دافيد. لواء جفعاتي هذا مثله مثل لواء كفير، الذي تتبع له كتبة ” نيتساح يهودا ” ، فهو أيضا يضم في صفوفه ضباطا وجنودا، لا يمارسون طقوسا دينية واضحة ولا يفصلون الرجال عن النساء في وحداتهم ، ولكنهم في ممارسة العنف ضد الفلسطينيين يقفون على نفس المستوى ، وهو أمر جاءت الحرب الوحشية ، التي تشنها اسرائيل على قطاع غزة لتؤكده على نحو لا يقبل التأويل.
في ضوء هذا كله، تأتي ردود الفعل الاسرائيلية على العقوبات الأميركية المحتملة على كتيبة ” نيتساح يهودا ” لتعكس نمط سلوك دولة تعتبر نفسها فوق المساءلة والمحاسبة.
أما العقوبات ذاتها فهي تأتي متأخرة، وفي توقيت يلفت الانتباه. متأخرة لأن ملفها كما أكدت رئيسة حزب العمل الإسرائيلي، ميراف ميخائيلي كان محفوظا في أدراج وزارة الخارجية الأميركية منذ عامين، بعد تورط عدد من جنود الكتيبة في مقتل الأميركي من أصول فلسطينية عمر أسعد مطلع العام 2022، دون رحمة وفي ظروف بالغة القسوة والوحشية ، والأهم ان تسريب أخبارها تزامن مع استخدام الولايات المتحدة الأميركية الفيتو ضد العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتزامن كذلك مع حزمة جديدة مجزية من المساعدات الأميركية، فجاءت على هيئة رشوة سخيفة ونكتة سمجة في قصة هزلية.