غزة وابتكار لغة جديدة لسرد الحكاية، بقلم : سماح خليفة
تقف اللغة حائرة وهي تحاول، بدعائمها الثلاثية، سرد حكاية غزة بأبعادها الثلاثية، (غـ ز ى) جذر ثلاثي تجذّر في عمق الذّاكرة، يتحرك بأبعاد ثلاثية، يحاول نقل الحدث (3D)، دون أن يعرض صورته النّهائية التي اعتادت حصرها بين بُعدَي (المقاوِم والمحتّل)، لتنحصر في نهاية المطاف بين أضلاع المثلث وزواياه التي تحشرك بين قياسات الموت والفقد والألم، ثم تضربك أضلاعه في محيط خانق مغلق(غزة)، بسوط الشاهد والشهيد والمشهود، ذلك المثلث الذي لا يشبه في شيء مثلث (كاربمان) الدّرامي، ولا ينحصر بين الظالم والضّحية والمنقذ، فلا منقذ في مثلث غزة إنما متفرجون متألّهون، متفيقهون بالتنظير بـ(أخلاقيات) قلبت رأس الساعة الرّملية وحولتها إلى ماء، لتتسربل أكاذيبهم تباعًا، فيميز نقاءُ الماء وجهَ الضّحية، ووجه الجاني، بتسارع خارج طاقة “الإنسانية”، ويكشف سراب ادّعاءاتهم، وخواء خطاباتهم الشكلانية المنفوخة، ودناسة عناوينها الرّمادية.
أنت بذلك إما أن تكون شهيدًا محتسَبًا عند الله في العليين، عندها تكون قد نجوت من زاوية الموت أو الفقد أو الألم، وتحررت من قضبان المثلث التي ستخنقك حيًّا، وأنت مكبّل لا حول لك ولا قوة. وإما أن تكون شاهدًا على الموت، بأحداثه المتسارعة، متخطيا انسيابية الزمن، بتوقيت اللحظة القابعة تحت الرّكام، تتجرع مشاعر الألم وأنت تعيش تجربة الفقد، التي ستحشرك في كل زاوية لعينة، لتذكرك بعجزك المعجون من قهر المحتل، الذي غزى أرضك، واغتصب وطنك، ونكّل بجسدك.
وإما أن تكون مشهودًا، مفعولًا بك على طاولة المتنفذين بروحك ولقمة عيشك ومصيرك ومفاهيمك ومصطلحاتك وفنونك وثقافتك، تحاول ترتيب أفكارك كقطع من البازلت أعيد هندستها بشكل لا تقبله علوم الفيزياء الطبيعية، ولا تتقبل كل قطعة أختها؛ لتتحد معها في شكل هندسيّ يرقى لمعنى الحياة، فتفشل حينئذ من النجاة بها من تلك المعادلة التي اختزلتها عنوة بحبر الدّم، على صفيح بارد، كان يومًا يحمل مسمّى (قلب) ويخفق برتابة واتزان مختزلًا لون الحياة، قبل أن يدرك شعور تصفية الدم، وفقدان حرارة الإحساس الطّازج بالمدى المتّسعّ على امتداد البصر والبصيرة، ليتلاشى الكون في لحظة أقصر من أن تدرج في مفهوم الزمن، ويُحال إلى العدم، وتعلِن نهاية الحكاية شكلها المغلق، دون أن يخطر لها أن عنقاء ستولد من جديد وتنهض من رماد الحرب، لتعيد ترتيب الحكاية، وهندسة أحداثيّاتها المتقاطعة، وتخليد أبطالها الذين هم من صلب سلسلة من الأجداد، فتفرض نهاية مفتوحة، مستعينة بلغة حيّة لا تموت، ومصطلحات مستحدثة لمعنى الصمود والإرادة والحياة والعزة والكرامة، ثم تنتقي عنوانًا للحكاية، (غزة العزّة)، دون أن تلوي على أبديّة أو أزليّة أو أمديّة وجودها، تتشبث فقط بذاكرتها السّرمديّة التي ستفتك بجنون الموت، وتعجز قوى الشّر، وتدير الكرة الأرضية على سبابتها، وفق ما تشتهيه رياحها.
تلك الحكاية التي تتمرد على زمانها ومكانها، هل يتجاوز جموحُ لغتها الحبكةَ الدّارجة على ألسنة المتشدّقين بالزّيف، لتدكّ بذلك عنق الخوف، وتطعن قلب الجحيم؟
بدأت الحبكة الفلسطينية قبل 76 عامًا، قبل 712 شهرًا، قبل 27360 يومًا، 656640 ساعة، قبل 39398400 دقيقة، قبل 2363904000 ثانية، هل شعر أحد، يومًا، بثقل الزمن كما شعر به الفلسطينيون؟ هل خطر لأحدهم أن نكبة الفلسطيني سيعاد تدويرها مرات ومرات على مرأى العالم، هل شعر أحدهم بثقل الثانية، عندما يقول لآخر: “بس استناني ثانية”؟.. غزة الآن ما زالت تنتظر 15552000 ثانية، تحت القصف والموت وثقل الركام والجوع والعطش والفقد!
الحقيبة التي يحملها المهجّر منذ ذلك اليوم، ازداد ثقلها، ما زال الفلسطيني يجرجر حقيبته، التي أثقلت كاهله، حتى الآن، على أمل أن يجد مستقرًّا آمنًا، لا تطاله مخالب المحتل وأنيابه، بيد أن المحتل الغاصب وفي خضم سوداوية الأحداث المتتالية ودموية الحبكة المؤلمة، يحاول إعادة هندسة الضحية، ليعجن الحبكة من جديد ويعيد تشكيلها على مزاجه، وفي جغرافيا متعددة، يحاول شرذمة المكان، والقبض على روح الزمن العابر، في القدس، جنين، غزة..، فهو يقتل ويذبح ويسلخ ويصادر ويعتقل ويحرق ويدمر، ويطالب الفلسطيني في الوقت ذاته بالتزام الصمت، وتقبل الذّل، والتعايش مع الخسارات، وإذا ما حاول فعل المقاومة، كبّده أثمانًا باهظة تكدّست فوق بعضها، دون أن تمنحه، في الحد الأدنى، الفرصة لالتقاط أنفاسه، ولو على سبيل الصمود في تجرّع مرارة الظلم، فقط، فتجبره على التراجع أو الوقوف مكانه، مسالمًا، متقبّلًا موته، دون أن تتقبل بدورها أن الفكرة المعششة في ذاكرة ذلك الفلسطيني لا تتقبل الموت، بل هي أكبر منه وأقوى، إنما “تسقط الأجساد، لا الفكرة”، القضية لا تموت، ورغم أن الحبكة ما زالت تتعقد، والرواية ما زالت تكتب، والسرد مستمر، والفلسطيني وحده من سيقرر شكل النهاية، هل يغلقها أم يبقيها مفتوحة…