تجارة الحرب في قطاع غزة، بقلم : يحيى قاعود
في البداية، قبل توصيف تجارة الحرب في غزة، كان واجباً أن نصف حرب الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة لما يزيد عن 176 يوماً وما زالت المجازر ترتكب في كل ساعة، والتي تشكل بمجموعها حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد 2.3 مليون إنسان بقطاع غزة. ورغم أن التاريخ الإنساني دون بشكل قاطع بأن الاحتلال عبر الأزمنة والأمكنة كان دموياً قاتلاً للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للشعب المحتل، ويزيد الاحتلال الاسرائيلي أنه إحلالي، أي يعمل على إبادة الإنسان الفلسطيني واقتلاعه من أرضه، وزرع مستوطن اسرائيلي بدلا منه، ومن صميم العقلية الاستيطانية والإجراءات الميدانية تلك، تبلورت تجارة الدم الفلسطيني في برامج الاحزاب الإسرائيلية من اليمين لليسار.
وكانت الاختلافات بينها تكمن في الأساليب وليست في الاستراتيجية، إذ تكمن أكبر خلافاتهم في مدة الإبادة وسرعة تنفيذها ضد الفلسطينيين، وهو ما يوضح بأنه لا معنى لسقوط الحكومة وتبديل التكتل الحزبي الحاكم في إسرائيل، إذا كانت النتيجة النهائية “إبادة الفلسطيني وتدمير مقدراته”.
أوضحت الستة شهور الماضية لحرب الإبادة، أن قطاع غزة يتعرض لمجموعة حروب تضاف إلى مجازر القتل والقصف والتدمير، كحرب التجويع والترحيل، كل ذلك أظهر سلوكيات فلسطينية سلبية وإجبارية في آن واحد، يمكن أن نطلق عليها تجارة الحرب بأشكال وأنواع متعددة، نكشفها في هذه المقالة لتقويمها وفرض الضرائب القانونية والأخلاقية بعد تدمير الاحتلال للبنى التحتية والمؤسسات الحكومية والمجتمعية، بهدف نشر الفوضى والفلتان في المجتمع، وكان أهم تلك التجارة:
تجارة السلع، راجت تجارة السلع والمساعدات المقدمة للنازحين واللاجئين، بعد تدمير قوات الاحتلال المتوغلة في قطاع غزة كافة المؤسسات المجتمعية والصحية والخدمية بقطاع غزة، ومحاربة إسرائيل للمؤسسات الدولية المتخصصة في تقديم الرعاية للاجئين والمنكوبين بغزة كوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين، والصليب الأحمر. والأهم منع دخول المساعدات والسلع والمواد الأساسية، وما يدخل لا يفي إلا بأقل القليل لـ 2.3 مليون إنسان بغزة، هذا بالإضافة إلى الحصار والتجويع المفروض على محافظتي غزة وشمال غزة.
ما يحصل عليه النازحون والمشردون في أماكن الإيواء لا يتناسب مع احتياجاتهم، وبالتالي يقومون ببيع ما لا يلزم من مساعدة لاستبدالها بما يلزم، وهو ما صنع تجار السلع والخدمات في الحرب، دون مأسسة أو رقابة، حتى أضحت تسمع صرخات النازحين من بين الخيام، وأنات الجوعى على ارتفاع الاسعار الجنوني، بلا عمل ولا بنوك، ووجدت النكتة طريقها بين مناطق الايواء التي تردد “الحياة صومالية والأسعار باريسية”.
تجارة الخدمات، في ظل حرب الإبادة التي طالت الإنسان وكل مقدراته الخدمية والاقتصادية والاجتماعية بغزة، باتت الأحزاب الفلسطينية المستهدفة، والمؤسسات الخدمية والاغاثية عاجزة عن تقديم المساعدات للنازحين أو حتى تنظيمها بالشكل الأمثل، فالهدف الاحتلالي هو القتل أو الترحيل لا البقاء والصمود، ما يفتح الباب للمخالفات الإدارية والتنظيمية، والتي في أغلبها غير مقصودة، فالعاملين بهذه الظروف الاستثنائية التي يعيشها القطاع يحترم عملهم ويقدر، ولكن تبقى المساعدات غير المنظمة والممنهجة قائمة، للحبايب والمناصرين، وفي أسوأ الأحوال للمؤيدين، وقد ظهرت مجموعات جديدة تعمل في الإغاثة الإنسانية، وتستقبل تبرعات وتقدم خدمات دون معرفة الآليات والإجراءات. ويبقى الأصعب من كل ذلك، معاناة القائمين في مناطق اللجوء في الخيام كأن الاحتياجات والمتطلبات الأساسية لهم تكمن في الغذاء والدواء.
تجارة الاعلام، يستضيف الإعلام العربي والدولي، العديد من الشخصيات الفلسطينية من خلفيات فكرية وسياسية متنوعة سواء من داخل فلسطين أو خارجها، وتكمن الإشكالية الكبيرة في العلمانيين سواء اليمينيين أو اليساريين الذين يؤمنون بالواقعية السياسية على عكس الإسلاميين الذين يعتمدون إضافة إلى البرامج الحزبية إلى الغيبيات. وهو ما تحسن استخدامه بعض القنوات العربية في جلب شخصيات اعتبارية من خلفيات أكاديمية يسارية أو علمانية تتحدث عن المقاومة الإسلامية، المقاومة والنضال ليس محلاً للانتقاد ولا أحد يمتلك حق الرفض، فهو حق أصيل في القانون الدولي، والمنظمات الدولية، والأعراف الدولية، والأديان السماوية، لكن استخدام هذا الحق والطريقة التي يستخدم بها هي محل تفكير ونقاش، كيف؟ ولماذا؟ وما النتائج؟ فهنالك مقولة في السياسة “العبرة بالنتائج”.
ما يجعل هذه التجارة رابحة للمحللين والمحرمين، لكنها خسرت الشعب الفلسطيني الكثير، وحرمت قطاع غزة من استدامة حالة التعاطف الشعبي والدولي، فالشعوب لا ترى سوى تجارة الربح التي يسوقها هؤلاء الإعلاميين، ومعها الأخبار التي تتحدث عن قتل المدنيين، خاصة النساء والأطفال؛ فيصبح الرأي العام العالمي بين معادلتين. الأولى، قتل الأطفال والنساء، أما الثانية الربح في رد المقاومة على قوات الاحتلال بغزة، فيصبح لسان حال الرأي العام “صح بقتلوا أطفال بس المقاومة بتقتلهم”، دون النظر لحجم المجازر واحصاءاتها التي تشكل بمجموعها حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة.
وفي الختام يمكن القول بأن التجارة المركبة والرائجة في قطاع غزة تصب في خانة واحدة وهي النيل من صمود الشعب لا الجبهة الداخلية، فما نعلمه هو بدء الإبادة لا انتهائها، وكل مبادرات وقف إطلاق النار فشلت، ومفاوضات التهدئة وإطلاق سراح أسرى معقدة وتعاد كل أسبوعين من جديد، وبالتالي، كان واجباً فرض ضرائب أخلاقية للتجارة الرائجة في ظل انعدام قدرة المؤسسات الحكومية لفرض القانون والضرائب التجارية.