ما قبل وبعد سبعة أكتوبر (من كُتب تُقرأ إلى كُتب تُحرَق) بقلم : سماح خليفة
“يا عالم أرضي محروقة أرضي صغيرة مسروقة” أغنية أشرقت على لسان (ريم بندلي) في طفولتها البالغة خمسة أعوام، عندما صدحت بصوتها الطفولي البريء عام 1984م، على الرغم من قسوتها ونداءات الاستغاثة في كلماتها “اعطونا الطفولة”، استطاعت أن تصيب شغاف كل مأزوم ومحزون ومقهور، فكانت بلسمًا تمسح على جراح أطفال العالم، وأطفال فلسطين خاصة، أنه لا بدّ من مغيث لهم، فواسوا أنفسهم مرارًا وسط معاناتهم المستمرة من جراء الحرب التي لم تتوقف على أرض فلسطين، ونارها لم تخمد أبدًا، هي تشتد وتستعر ثم تتراجع، إلى أن تشتعل من جديد.
أطفال فلسطين يعانون منذ قرابة قرن من الزمان، يتذوقون المرارة والعذاب والقهر، من هدم البيوت أو سلبها واقتلاع الأشجار والمزروعات وتجريفها، والتخويف أو الترهيب ومنع حرية الحركة أو فرض الحصار والتجول، وحرمانهم من الوصول إلى مراكز تعليمهم، ومراكز عبادتهم، لتأتي بعدها الإصابات الجسدية البالغة والقتل والتنكيل، فضلًا عن حالات الفقد، فقد يفقد الطفل كل أسرته في اعتداء من قبل مستوطنين أو جنود إسرائيليين، ليجد نفسه وحيدًا في وجه غول مرعب يتنكر لحقه في العيش الهادئ الهانئ الكريم، أو حتى المناسب لحياة بسيطة آمنة.
لم يعانِ أطفال في هذا العالم كما عانى أطفالنا في فلسطين، خصوصًا في قطاع غزة، فكل الحروب، بما فيها الحربين العالميتين، تنقضي مهما استغرقت من سنوات، تضع أوزارها، وتنسحب القوة المحتلة، فتعطي الناس فرصة لالتقاط أنفاسهم، وتضميد جراحهم، واستعادة وجه الحياة الباسم، والتفتيش عن حكايات جديدة، عوضًا عن الحكايات المؤلمة التي صنعتها الحروب، ما يعيد إلى النفوس الفرح والبهجة في ظل الطمأنينة والسلام، وأما في فلسطين فالاحتلال جاثم على صدور أصحابها، ومع أحداث السابع من أكتوبر فقد تفنن المحتل في أبشع صور القتل والإبادة والإذلال وامتهان كرامة الإنسان، مما دفع الكائنات هناك البشرية والحيوانية أن تبتكر مقومات الحياة والبقاء.
لا شك أن عمق الشعور بعدالة القضية والوعد الدائم بالانتصار جعل الطفل الفلسطيني يختلف عن غيره من أطفال المجتمعات التي تعاني ويلات الحروب لأسباب كثيرة، منها: وقوع الطفل الفلسطيني دومًا في دائرة واسعة من التحديات، فيتعلم بالفطرة والغريزة والتجربة أن يصنع استجابة على قدر التحدي، ليس من زاوية الجلد والصبر فقط، إنما الإحساس العميق بالواجب حيال أهله، ثم أرضه، ابتداء من البلدة التي يقطنها إلى مساحة فلسطين كلها.
هذا الشعور نقل الطفل الفلسطيني من حيز الانتظار إلى الاستباق، ومن القابلية إلى الفاعلية، أي من الفرجة إلى المشاركة، فصار يناضل كتفا بكتف إلى جانب الصبية والشباب والرجال، حتى أنه انتزع لنفسه مكانا أطلق عليه العالم ذات يوم “أطفال الحجارة” حين اندلعت الانتفاضة الفلسطينية في ديسمبر 1987م، لنجد أطفالا يقذفون الدبابات الإسرائيلية بالحجارة وهم يقفون في تحدٍ وكبرياء أمام الجنود المحتمين بها.
وقد يستبدل الطفل الحجر كنوع من المقاومة المادية الظاهرة إلى مقاومة رمزية، تتمثل في رفع علم فلسطين في وجه المستوطنين والجنود الإسرائيليين تعبيرًا عن رفض القهر، والتشبث بالوطن.
فضلًا عن نمط التنشئة للأسرة الفلسطينية حيث تُشرك صغارها منذ تفتح وعيهم بالرواية التاريخية الكبرى للشعب الفلسطيني، سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة أو في مخيمات الشتات واللجوء أو حتى في المنافي والغربة.
وقد انعكست هذه التنشئة على التعبيرات اليومية للأطفال واهتماماتهم، وانعكس المشهد بوضوح بعد أحداث السابع من أكتوبر، فحس المسؤولية تنامى يومًا بعد يوم، وفعل المساندة والمآزرة تجاه العائلة تجذّر لدى الطفل الفلسطيني بصورة أعمق، فنجده يفرغ طاقة الغضب والقهر من جراء الظلم الذي يتعرض له إلى المحتل بكل سلوكياته، وتعبيراته وإيماءاته، وبمعادل موضوعي في الضفة الأخرى، حيث طاقة الابتسامة والفرح والتفاؤل مع منكوبي الحرب من أبناء جلدتهم، فها هو الطفل (عليّ) الغزيّ، ابن الثامنة تقريبًا يتخلى عن طموحه وكتبه ودفاتره؛ ليصنع من أوراقها طائرات ورقية يوزعها على الأطفال، يلعبون بها ويسلون عن أنفسهم متناسين صوت الصواريخ وأزيز الرصاص، معبرًا (عليّ) عن ذلك، بقوله: “بوزع عليهم ببلاش، حرام بديهم ينبسطوا يغيروا جو، بكفيك ضحكة الولد الصغير”، كأن عليّ بتلك الكلمات تبرأ من طفولته واكتسى ثوب المسؤولية تجاه أطفال الحرب في حيّه.
ونجد طفلًا آخر، بعمر الخمس سنوات تقريبًا، يقطع مسافات طويلة؛ ليجمع عشبة غير صالحة للأكل ربما، ليست خبيزة التي كان لها نصيب الشهرة في ظل الحرب، لكنه عندما سئل عنها، أصرّ على أنها خبيزة، لأن أهله جياع ينتظرون من يطعمهم، وهو تولى مسؤولية ذلك.
وأما ثورة الاتصالات الكبرى فبعدما أعطتهم فرصة للوقوف على ما يعيشه الأطفال في المجتمعات المستقلة ذات الطمأنينة والسلام، وفتحت أعينهم على حجم المأساة التي يعيشونها، والتطلع إلى حياة سوية ينعمون فيها بما يعيشه غيرهم، وأوله الحق في أن يحيوا طفولتهم كما ينبغي لها أن تقوم، وقد عبّر الكثير من اليوتيوبر عن أحلامهم وطموحاتهم المستقبلية وخاصة في ظل ما نراه في غزة حاليًّا، حيث لا تمر ساعة واحدة إلا ونرى أطفالًا قد ارتقوا شهداء، أو أصيبوا إصابات بالغة أو طفيفة أو يصرخون تحت أنقاض البيوت التي قصفتها الطائرات، والمدافع الإسرائيلية، فصارت حطامًا وركامًا، أو يحملهم ذووهم مغبرين ويسرعون بهم نحو المستشفيات المكتظة أصلًا، فكانت (رهف قديح) سابقًا من الأطفال الذين اشتهروا على مواقع التواصل بإيجابيتها وابتسامتها وحرصها على مدرستها وكتبها ومستقبلها بأن تصبح صحفية، حيث نقلت يومياتها وروح الحياة الثائرة فيها للمتابعين بحرفية تامة، لتتحول بعد أحداث السابع من أكتوبر وبعد النزوح وفقدانها لصديقاتها وبعض أقربائها الذين استشهدوا، تنقل أحداث الحرب والقصف والدمار وكيف أن أحلامها بدأت تتساقط شيئا فشيئًا كأوراق الشجر اليابسة، حيث أنها اضطرت لحرق كتبها في ظل انعدام الغاز من أجل الطبيخ! بعدما كانت تقاوم حرق المحتل الغاصب للكتب والمكتبات ودور الثقافة والعلم، لكن كما يقال: “الجوع كافر”.
مما سبق، إن العبء النضالي المقاوم على أطفال غزة ليس اختيارًا، إنما تدفعهم إلى ذلك الظروف القاسية التي يعيشون فيها، والأولى لهم أن يحيوا طفولتهم كغيرهم من الصغار في مشارق الأرض ومغاربها، لكن هؤلاء ليست لديهم فرصة لينعموا بالطفولة، إنما يحملون ما هو أقوى من الصبر وأبعد من المشاركة في المقاومة الرمزية والمعنوية والمادية، وهو الوعد والأمل.
إننا حين نلقي السمع إلى أطفال غزة نعرف أن هؤلاء أصحاب الأرض والوطن، الذين سكن تاريخ بلادهم جيناتهم ونطفهم وخلايا أجسادهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وأذهانهم وأفكارهم، لن يتركوا أرضهم أبدًا، لأن سابقيهم إلى الشتات لم ينسوا التاريخ والأرض والوطن، وحتى الذين سرقتهم الغربة، فإن الحنين إلى تراب لثمته أقدام أجدادهم، يتأجج يومًا بعد يوم.