سيكولوجيا الكوميديا السوداء، بقلم : سماح خليفة
في محاولة للفت أنظار العالم إلى مأساة سكان قطاع غزة، يطل علينا من شاشات القنوات الفضائية، وعبر مواقع التواصل، بلبل يغرد بصوته العذب، في مشهد يجمع التناقضات الأغرب على الأرض في غزة، ويثير الإعجاب والحزن والتعاطف ويبعث على الصدمة في الوقت ذاته، حيث يظهر طفل غزيّ بلباسه الأنيق وابتسامته البريئة وصوته العذب، يغني بين خيام النازحين: “رمضان في غزة حاجة تانية، والسّر في التفاصيل، رمضان في غزة غير الدّنيا طعمه بطعم الموت، في كل حتّا منتمشى، بشر وخيام في الشارع، صوت الأدان يدخل ألبك، وتصلي تراويح في الخيمة، بالليل بتسودّ الأعدة، صواريخ وقذائف ورصاص، والله زمان دا حنا بآلنا مدّة بعيدة عن بعضينا”.
هذه الأغنية التي أُلّفت وأُنتجت بعناية جيدة إلى حّد ما، أرادت أن توصل للعالم فكرة عن حجم المأساة التي يعيشها أهلنا في قطاع غزة من مجاعة كارثية، وإبادة جماعية، وتدمير للبنية التحتية، بشكل ممنهج، لإجبارهم على النزوح وإخلاء الساحة على الأرض لمخططات الصهيونية الإمبريالية في فلسطين، والتي يقابلها أطفالنا في قطاع غزة بابتسامة وعزيمة وصمود، على رغم بنيتهم الضئيلة والضعيفة، لكنهم بذلك يعكسون شكل الأجيال التي خلقتها إسرائيل بأيديها جراء هذا الظلم وهذه الحرب المجنونة.
إن فكرة “إسرائيل الكبرى” (والتي يعكسها الاحتلال بشكل مجزّأ في حربه على غزة)، كانت وما زالت الجذر الأساسي الذي يعود إلى خليط من الخرافات الدينية والتعبئة العاطفية والبرمجة السياسية خلال حقبة الانتداب البريطاني، وتشبع المشروع الصهيوني بمقولات شعب بلا أرض لأرض بلا شعب، وإن مصالح إسرائيل التي تتركز على حقبة ما بعد سنة 1967م تثبت أن هذا الفكر ما زال مركزيا في العقل الصهيوني السياسي المعاصر، ليس فقط في أوساط الأجنحة اليمينية والأحزاب الدينية المتطرفة، إنما يخترق القاعدة الفكرية لتيار نشطاء حزب العمل، وتيار الصهيونية التصحيحية، ويشكل واحدا من مكونات فكر العمالية الصهيونية، وفكر من يسميهم مصالحه الأصوليين العلمانيين، هي من ناحية مبدأ أساسي ومركزي حول الحدود، وفي الوقت ذاته أيديولوجية تهدف إلى الاستيلاء على المساحة الأقصى من الأرض، وتحقيق السيطرة الإمبريالية في المنطقة، وقطاع غزة بحكم موقعه الاستراتيجي والاقتصادي المنفتح على الحدود المصرية البرية من جهة، والحدود البحريّة من جهة أخرى، فضلا عن ثرواته من الغاز الطبيعي والتي تقدر بمليارات الدولارات، لكن إسرائيل ترفض السماح للقطاع باستغلالها، وقبضة حماس على القطاع تشكل شوكة في حلق المحتل، ويعمل على نزعها من خلال المجازر التي يرتكبها في القطاع.
يحاول أهلنا في قطاع غزة توصيل معاناتهم إلى جميع العالم، بكل السبل، والتي كانت آخرها “الكوميديا السّوداء”، تلك التي أول من لجأ إليها جوناثان سويفت، أول منشئٍ للكوميديا السوداء في القرن الثامن عشر. في ثلاثينيات القرن العشرين، كان الروائي السريالي الفرنسي أندريه بريتون يُحلِّل أعمال الكاتب الإيرلندي جوناثان سويفت، ولا سيما منها ما حمل اسم A Modest Proposal، أي “اقتراح متواضع”، وهو عمل مليء بالمرح حول إنهاء المجاعة عن طريق التهام الأطفال، وقد صاغ برينتون المصطلح في كتابه Anthology of Black Humor، أي “مختارات من الفكاهة السوداء”.
إن إنهاء المجاعة عن طريق التهام الاطفال الذي عبّر عنه كل من بريتون وسويفت، طبقته إسرائيل حرفيّا في قطاع غزة، فها هي المجاعة تلتهم أطفال غزة بلا هوادة، وها هي الحرب الإباديّة المجنونة تلتهم نيرانها أجساد أطفال غزة بنيّة مسبقة وتخطيط ممنهج، ففضلا عن القنابل والصوارخ التي أحرقت والتهمت أجساد الفلسطينيين، يفتخر الجنود الإسرائيليون بقتلهم للأطفال أمام الشاشات وعلى مرآى العالم، ويعبر جندي عن ذلك في مقطع متداول ومستفز، حيث انه يعترف بأنه يبحث عن أطفال رضّع لقتلهم، لكنه لم يجد، فلجأ إلى قتل فتاة فلسطينية تبلغ 12 عاما.
إن السلوك الذي لجأ إليه ذلك الطفل الغزي من غناء وابتسامة، وما لجأ إليه كذلك الطفل عبود صاحب أشهر ضحكة في غزة وهو ينقل أحداث الحرب المجنونة، وغيرهم، إنما يعبر عن ردود الفعل لحجم الصدمة، التي يتلقاها أطفال غزة يوما بعد يوم، وكوسيلة يلجؤون إليها للتواصل مع الآخرين بأسلوب جاذب في الظاهر، ليكشف حجم المأساة الحقيقية. وهذا ما عبرت عنه خبيرة السلوك البشري (كلير بروميل)، حيث وضحت أن الأسباب التي تجعلنا نستخدم الكوميديا السوداء كآلية للتكيف، “عندما نكون في وضع التأقلم أو التكيف، بسبب تعرض واحد أو أكثر من احتياجاتنا للخطر بطريقة ما، أي اننا نمر بفترة من الحزن الشديد أو التوتر الشديد، ربما مررنا بصدمة نفسية”، لذا فإن الأشياء التي نستخدمها لمحاولة التغلب على ذلك هي السلوكيات التي نعتقد، إما أنها ستوقف أثر هذه الاحتياجات أو ستلبيها بطريقة ما.
وهذا ما يسعى إليه أهلنا وأطفالنا في قطاع غزة، من خلال اللجوء إلى هذه السلوكيات، التي ربما تكون أقدر على إيصال الرسالة، وحقيقة المجازر الإبادية الممنهجة إلى العالم، حقيقة مقتل اكثر من 12 ألف و300 طفل في غزة، فضلا عن الأيتام الذين خلفتهم الحرب ولا يجدون من يسمع صوت أمعائهم ولا زفير أنفاسهم المسلوب، ولا آلامهم التي تصرخ بها أجسادهم المصابة، أو المبتورة، أو النازفة لإيقافها وتلبية احتياجاتهم التي حرموا من أبسطها وهو الماء، الدواء، لقمة تسكت صراخ أمعائهم… والقائمة تطول بوصف بشاعة هذه الحرب، ويبقى الميدان حقل تجارب للمنكوبين من شعبنا في إيصال قضيتهم للعالم، وإنقاذ ما أمكن.
أطفالنا وأسمع لو ناديت حيًّا: ” اليهود عدموا بابا وماما وسيدو أبو رائد وستي وكل الشباب”، “أمي حامل في الشهر السابع طخوها ببطنها قدامي بعدين سحبوا أبوي وطخوه”، “بدي رجلي يا الله”، “اشتقت لأمي يا الله”، “انكب الاكل وأنا جيعان”، “أنا اسمي آمنة كنت نايمة وإجا صاروخ على بيتنا قتل كل أهلي”، “بدي أمسح دموعي مش عارفة وين راحت إيدي”، “هادي أمي والله هادي أمي”، “أنا حسيت بقلبي إنه أمي وأبي استشهدوا وهيني لحالي”، “أنا ما كنت بشعة الحرب بشعتني كنت حلوة كثير”، “أنا خلص صرت وحيد ويتيم”،.