شفا – بالرغم من أهمية القضايا (المصرية) التي تثار هذه الأيام, والتي تغري بل وتوجب الإسهام في معالجتها ومناقشتها, مثل ترتيبات المرحلة الإنتقالية القادمة نحو استكمال مؤسسات الدولة الديمقراطية (وضع الدستور, وانتخابات الرئاسة… إلخ) ومثل التنافس المتصاعد الآن بين مرشحي الرئاسة الكثيرين (الحاليين والمحتملين).. إلا أن من الصعب تجاهل تطور الأحداث الجارية الآن في سوريا والكفاح البطولي الرائع الذي يخوضه الشعب السوري الشقيق ضد النظام القمعي الفاسد لبشار الأسد, والذي أعتقد أنه بات يقترب الآن من نهايته, بأس
وتبدو صعوبة أو ضراوة الكفاح من أجل الحرية, الذي يخوضه الشعب السوري البطل, من المقارنة بين المدة التي استغرقها اسقاط نظام مبارك في مصر منذ بدء ثورة 25 يناير وحتي 11 فبراير 2011 (18 يوما!) وبين الفترة التي تقترب من استكمال عام كامل من المظاهرات والمصادمات الدموية التي شملت كل أنحاء سوريا منذ مارس 2011 وحتي اليوم لاسقاط نظام الأسد الدموي! وتبدو تلك المقارنة أكثر دلالة وعمقا إذا قارنا بين عدد شهداء الثورة المصرية (غالبا أقل قليلا من ألف شهيد) وبين شهداء الثورة السورية (حتي الآن) والذين يقدرون بـ8500 شهيد منسوبة إلي عدد السكان (مصر 85 مليونا, وسوريا 24 مليونا) فسوف نجد أن عدد الشهداء في مصر كان سيصبح30 ألف شهيد بالمعايير السورية!
نحن إذن إزاء مذبحة يرتكبها نظام الأسد, الذي أخد يتصاعد جنونه يوما بعد يوم, لسبب بسيط, وهو أن الأسد وعصابته الحاكمة يحاربون اليوم معركة صفرية, لا مكان فيها لحل وسط, أي: إما بقاؤهم وإما القضاء علي الثورة السورية! ولاشك أن مصير القذافي هو الذي يخيم شبحه الآن علي الأسد ورجاله أكثر من أي بديل آخر, مما يدفعهم إلي الدفاع المستميت عن مواقفهم أيا كانت التكلفة الدامية التي يدفعها الشعب السوري! ولقد سبق لي أن تناولات في مقالين سابقين (الأهرام 10 أغسطس, و7 سبتمبر 2011) تحليل جوانب مختلفة للثورة السورية العظيمة, وأسبابها ودينامياتها الداخلية, غير أن ما أريد أن أتطرق إليه اليوم هو الأبعاد الدولية لتلك القضية, والتي أخذت تزداد وضوحا يوما بعد يوم. وفي واقع الأمر, فإن أحداث سوريا, والمواقف الدولية بشأنها تذكرنا بإحدي الحقائق المثيرة في السياسة الدولية المعاصرة, وخاصة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية, وهي أن منطقة الشرق الأوسط كانت ويبدو أنها لا تزال- الميدان الذي يكشف ويلخص الصراعات الدولية السائدة في العالم, أكثر من أي منطقة أخري! فالإنقسام التقليدي القديم بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي ظهر للعالم كأوضح ما يكون في خمسينيات القرن الماضي في خلال ما عرف بأزمة السويس والتي تلت تأميم عبدالناصر للقناة, والتي تم في غمارها الإنذار الذي وجهه الاتحاد السوفيتي- في آخر أكتوبر 1956- بضرب لندن وباريس بالقنابل النووية إذا استمرت في عدوانها علي مصر في ذلك الوقت! ومرة ثانية وبعد حوالي عقد من الزمان, وفي يونيو 1967- كشفت هزيمة مصر أمام إسرائيل حجم الدعم الأمريكي الهائل لها, وهو الأمر الذي دفع الاتحاد السوفيتي بكل قوة لكي يقدم دعمه العسكري الهائل لمصر لتخوض بعدها بست سنوات حرب أكتوبر عام 1973 التي أعادت الاعتبار للسلاح السوفيتي في مواجهة السلاح الأمريكي لدي إسرائيل.
اليوم, ومرة أخري تكشف الأزمة السورية (أو بتعبير أدق: الثورة السورية) واقع الانقسامات والتحالفات الدولية في عالم اليوم, أكثر من أي قضية أخري. فطرفا المواجهة في سوريا, أي: النظام, وقوي الثورة, أستند كلاهما إلي ظهير دولي قوي: فالنظام السوري وجد أقوي تدعيم له في موقف كل من روسيا والصين وحلفاؤهما, أما القوي الثورية والشعبية فقد لقيت الدعم والتأييد من الولايات المتحدة والقوي الغربية بشكل عام, فضلا عن كل القوي والهيئات المناصرة للحرية وحقوق الإنسان. وبهذا الوضع, يحق لنا أن نقول بتعجب: ما أبعد الليلة عن البارحة! لقد دار الزمن دورة كاملة لنجد الاتحاد السوفيتي نصير قوي التغيير والثورة في العالم, وقد استحال إلي روسيا ذات التوجه المحافظ, والمعادي للثورة والقوي الثورية, والأمر نفسه ينطبق للأسف الشديد- علي الصين!
وتحولت أمريكا من زعامة (الثورة المضادة)! في العالم لتصير, ومعها أوروبا الغربية, نصيرة لقوي التحرر والديمقراطية! ومع ذلك فإن هذه الصورة للولايات المتحدة لا يزال ينال منها بشدة لدينا في المنطقة العربية- العلاقة الفريدة والخاصة بإسرائيل, التي هي بالضرورة تعادي كل القوي الثورية والتقدمية العربية. ومع ذلك, يظل من الصحيح تماما أيضا- أن لدي روسيا اليوم علاقاتها القوية مع إسرائيل بما يفوق بمراحل علاقات الاتحاد السوفيتي السابق بها!
غير أن هذا لم يمنع آلة الدعاية السوداء لبشار الأسد ولحزبه, من ممارسة جميع أنواع الكذب والتضليل في مواجهة معارضيهم! وهو ما يبلغ ذروته في التلاعب بقضية العداء لإسرائيل في مواجهة خصومه. ففي حين يضع بشار الأسد نفسه في العلاقة مع إيران من ناحية, وحزب الله من ناحية أخري في خندق المواجهة نظريا ضد إسرائيل, إلا أن الأسد ونظامه تجنبا تماما, طوال العقود الماضية, أي مواجهة حقيقية معها, وهو ما يظهر واضحا في استمرار احتلال الجولان وتبعيتها لإسرائيل, وبعبارة أخري, فإن العداء اللفظي والكلمات البراقة والرنانة حلت لدي بشار ونظامه محل أي عمل حقيقي ضد إسرائيل, بل إنه فوق ذلك ظل يستخدم ذلك السلاح المزيف لتشويه خصومه السياسيين, بما في ذلك كل القوي الوطنية المتصدية لاستبداد نظامه وفساده! فكل من يعاديه يتهم بالعمالة لأمريكا وإسرائيل, في الوقت الذي يوفر فيه هو ونظامه فعليا- كل الخدمات لأمريكا وإسرائيل, مقدمين بذلك نموذجا فجا وفريدا للنفاق السياسي المقيت!
وتبدو هذه الممارسات كأوضح ما تكون في الموقف من المجلس الوطني السوري الذي تشكل في أواخر العام الماضي ليضم ممثلي مختلف القوي السياسية والاجتماعية في سوريا, والتي جمع بينها الرفض لنظام الأسد, وتصميمها علي محاربته والتخلص منه. ولم يكن غريبا في هذا السياق, أن وصم المجلس أيضا بخيانته وتبعيته للولايات المتحدة وإسرائيل… إلخ(!) ويلفت نظري شخصيا بوجه خاص الموقف من الباحثة السورية المرموقة د. بسمة قضماني, التي أسهمت منذ اليوم الأول في تشكيل المجلس الوطني السوري, وصارت المتحدثه الرسمية باسمه, والتي أعرفها شخصيا منذ فترة طويلة, وأعلم تماما أنها اختارت أن تقيم في منفي اختياري (في أوروبا والولايات المتحدة) خارج بلادها, طالما ظل نظام الأسد قائما فيها, ولم أتعجب بالتالي عندما علمت بنبأ انضمامها للمجلس الوطني. إن إحدي العلامات أو الممارسات الفجة للنظم المستبدة الفاسدة هو موقفها من الرموز والشخصيات الوطنية التي تمتلك الشجاعة والإصرار علي تحديها وتعريتها أمام العالم وأمام شعوبها (ولدينا في مصر أمثلة عديدة ربما كان أبرزها موقف النظام البائد من د. محمد البرادعي!) إن بسمة قضماني تمثل هذا النموذج بإمتياز في الحالة السورية. فهي أستاذة قديرة في العلوم السياسية, تدير ذ- ا ب بحثية وسياسية عربية مستقلة, تتشارك في عملها مع نظيراتها في الولايات المتحدة وأوروبا, بهدف تطوير القدرات البحثية العربية في مجال الإصلاح الديمقراطي, وساعد الدكتورة قضماني علي ذلك اتقانها الكامل للغتين الانجليزية والفرنسية. ولأنها وقفت كما ذكرت- منذ اليوم الأول, بشجاعة وقوة إلي جانب ثورة شعبها في سوريا (تماما كما وقفت إلي جانب ثورة 25 يناير في مصر واسهمت في تقديمها للباحثين والمثقفين في أوروبا والولايات المتحدة) فإنها أصبحت هدفا للتشويه الفج والرخيص من الآلة الدعائية لنظام الأسد, والتي استعمل في مواجهتها نفس نوعية الأكاذيب المكشوفة والمثيرة للغثيان, أي: أنها تتعاون مع اليهود والصهاينة في أوروبا. ولكن من حسن الحظ أن الرأي العام, والشعوب في العالم العربي, في تلك الحقبة الثورية المجيدة من تاريخنا, لم تعد تنطلي عليها مثل تلك التفاهات!
وأخيرا فإنني علي يقين, أن ساعة الخلاص قد اقتربت, وبعدها سوف تعود بسمة قضماني (مع مئات الآلاف من أبناء شعبها) إلي وطنهم العزيز الغالي علينا وعليهم- سوريا, بعد أن يبرأ من نظام الأسد, وزمرته الفاسدة, وعندها سوف يكتمل بحق ربيع الديمقراطية في العالم العربي!.