مدينة غزّة تنبض بالحياة، رغم أنف العدوان الصهيوني الشرس، بقلم : زينب الغنيمي
ذهبت أمس لتفقُد بيتي مجددًا، ومررت بالطبع من خلال الشوارع المدمرة، حيث باتت مناظر البيوت المحترقة والأسطح المنهارة مألوفةً لديّ، ولكن اللافت هو أنّه على كلّ مفترقٍ يفتح على أربعة اتجاهات تقريبًا يوجد سوقٌ يتجمهر فيه الناس حول الباعة بغضّ النظر عن طبيعة الأشياء المعروضة ومهما كان ثمنها، سواء كانت خضارًا كالبصل والليمون والجزر، أو المكسّرات المحمصة بكل أنواعها، أو زيت القلي والسمنة، أو المنظّفات، وصولًا للملابس والأحذية والأدوات المنزلية المستعملة و الجديدة.
إنّ غزّة تضجّ بالحياة وأيضًا بالرغبة في الحياة، في تحدٍّ سافرٍ للموت والدمار. فبالرغم من القصف المدفعي والصاروخي للناس في السيارات أو على الدرّاجات أو حتى المُشاة منهم في الشوارع المختلفة، وأيضًا عند الدوّار الذي تصل إليه شاحنات المساعدات في منطقة الرمال، وبرغم سقوط عشرات الشهداء والجرحى، إلّا أن الناس يذهبون يوميًا لمحاولة الحصول على المواد الغذائية والطحين، فالموت بالقصف لم يعد يعنيهم طالما أنّهم قد يموتون جوعًا. وهكذا، فعلى الأقل يكونون قد حاولوا قدر الممكن من أجل سد جوع أطفالهم.
مساء الأمس، كان الحديث بين الناس حول الطحين ومن استطاع إحضار كيسٍ أو بعض كيسٍ ومن لم يستطع. الحواراتُ مسموعةٌ في الحيّ وفي الشارع وحتى من داخل البيوت المتلاصقة، حيث تصلنا المناقشات والمجادلات؛ تلك الجارة تحثّ الرجل في بيتها – ربما ابنها أو زوجها – أن يذهب إلى دوّار النابلسي لإحضار كيس طحين مثل ذلك الجار الأبعد، والرجل يردّ بأنّ الوقت نفذ وأنه من غير الممكن أن يجد الطحين في حال وصل إلى هناك لأنّ الناس غالبًا قد سارعوا بأخذه.
في الحوارات الدائرة أيضًا هناك لومٌ شديد على لجنة الحي لأنذها لم تستطع تأمين حصصٍ للأهالي رغم أنهم أخذوا كشوفاتٍ بأسماء العائلات سواءً المقيمة أصلًا أو التي نزحت للحي. البعض يبرّر للجنة والآخر يتّهمها، ولا أحد يعرف ما هي حقيقة الأمر.
جاء زوج قريبتي يحمل معه كيسًا به كيلو ونصف من الطحين الأبيض، فزعنا جميعا إذا كان قد اشتراه لأن ثمنه 180 شيكلًا أي 50 دولارًا، لكنّه قال “لا، لا، لم أشتره، بل أعطونا إياه في العمل. لكلّ موظّفٍ مثل هذه الحصة”. لم ندري حقيقةً هل نفرح ببعض الطحين؟ أم نحزن على نفسنا لأنّه لن يكفي لوجبة إفطارٍ واحدة لجميع المقيمين في المنزل. ولكن ردّدت والدة قريبتي قولها المأثور “قلت لكم: لن يضيعنا الله، وهذا أوّل الغيث”. بعضنا ابتسم وبعضنا أمّن على كلامها وبعض ثالث لم يُعلّق وعلامات الحزن بادية على وجوههم.
اليوم، كان لابُدّ من تنشيط نفسي بالاستحمام وغسيل الملابس، في نفس الوقت الذي جلست قريبتي ووالدتها وصديقتي جميعهن يقشّرن كميةً كبيرةً من الجزر لتجهيزه لوجبة الغداء مع صلصة الطماطم، بالطبع بدون خبز أو أرز. وقد تناولنا غدائنا بالأمس لوجبة الخبيزة بنفس الطريقة، أي بالملعقة، أما الفطور فهو مشروبات متنوعة أما العشاء كأسٌ من الشاي.
عندما مررت من السوق أمس، قرّرت أن أُدلّل الموجودين في المنزل، واشتريت كميّة من المكسرات مثل بذور البطيخ وبذور عباد الشمس والكاجو المحمص، طبعًا بثمنٍ خرافي حيث يتراوح سعر الأوقية بين 20 و25 شيكل حسب النوع (5.5 إلى 7 دولارات)، سنتناولها الليلة ربما في السهرة أو غدًا.
كما قرّرت ابنة شراء حذاءٍ شتوي لأنها لا تملك بديلًا عن حذائها البسيط وقد تدمّر بيتهم، وذلك لأنّ سعر الأحذية على البسطات معقولٌ نسبيًا، وهكذا عادت إلى المنزل مسرورةً لأنها حصلت على ما تحتاجه.
هكذا هي الحياة في مدينة غزة هذه الأيام: الناس تصرّ على البقاء وتبحث عمّا يرضيها برغم العدوان الصهيوني الهمجي الذي يحول دون بقائهم أحياء، وحوّل حياتهم إلى جحيم لا يطاق في هذا السجن الكبير المسمى غزة.
زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف