مصائب العائلات لا تنتهي، واختراعات جديدة للتكيّف مع واقع الحصار في مدينة غزة ، بقلم : زينب الغنيمي
برغم أهميّة العودة النسبية للاتصالات، إلا أنّها تنقل لنا الأخبار المفجعة. باكرًا صباح اليوم، جرّبت الاتصال بزميلتي المحامية في العمل، حيث علمت أنها ما تزال مثلي في مدينة غزّة ولم تنزح نحو الجنوب مثل أغلبية الزميلات.
نجحت بالوصول لها، وبمجرّد أن سمعت صوتي انفجرت بالبكاء تشكو لي فُقدانها لأخواتها الثلاثة وبناتهنّ وابنة إحداهن. قالت لي بين دموعها: “استشهدن يا أستاذة. حبيباتي، خواتي الحنونات، وأختي الرابعة استشهدت بنتها، وهي مصابة مع ابنها كمان. ما ضل لي حدا، وأنا مريضة مش قادرة أتحرك. والله عايشة على الأدوية”.
لقد مرّ على فقدها قرابة الشهران، ومن صدمتي وجدتُني أسألها لم لم تخبرني أو تتواصل معي سابقًا، فأجابت بأنّ الاتصالات اشتغلت لديهم بالأمس فقط، وهي في حيٍّ بجنوب شرق مدينة غزة، أي المنطقة التي تتعرًض يوميًا للغارات والمداهمات والقصف من الدبابات.
حاولت تهدئتها بالكلام المتعارف عليه في مثل هذه اللحظات وأنا أتألّم لوجعها. حاولت أن أمنحها بعض التماسك، لكن بعد أن أغلقت المكالمة بكيت بحرقة على حالها، فأنا لم أتخيّل كيف كانت طيلة المدّة الفائتة تتعايش مع حجم هذا الفقدان وحدها، ولا يوجد حولها من يواسيها، مع العلم بأنّه لا يمكن زيارتها بسبب خطورة مكان تواجدها. وحين أخبرت أحد الزملاء الذي زارني اليوم للاطمئنان علي، حاول بدوره طمأنتي، ووعدني: “لا تقلقي سوف أتصل بها وأحاول زيارتها، وتوصيل ما تحتاجه هي لها”.
اليوم أيضًا لاحظت وصول الكثير من الرسائل النصيّة على الهاتف المحمول والواتساب من كثيرين داخل مدينة غزّة أو المناطق الأخرى، حيث يجرب الجميع طمأنتي عن أحوالهم ويحاولون الاطمئنان عني.
سألت ابن صديقتي إن كانت هناك إشارة إنترنت من شركات الاتصالات. أجابني بأن لا، ولكن يوجد عدد من الشبان ممّن لديهم أجهزة موبايل حديثة، فحصلوا على شرائح إلكترونية وأتاحوا الخدمة للآخرين، بحيث يستطيع الناس من خلالها التواصل مع أحبّتهم وأقاربهم، ويدفعون لصاحب الجهاز مقابل الساعة الواحدة 5 شواكل أي دولار ونصف تقريبًا. وبذلك، يؤمنّ بعض الشباب لأنفسهم مصدر رزق، ويحلّون مشاكل الاتصالات للناس، وما دفع كلا الطرفين لذلك سوى الحاجة الشديدة.
إنّ الحاجة أمّ الاختراع في كلّ شيء في مدينة غزة وشمالها وفي المناطق الأخرى أيضًا. كلّ ذلك من أجل التكيُّف مع هذا الواقع المرير في ظلّ العدوان الصهيوني الهمجي، والذي أفقدنا كلّ مقومات الحياة الطبيعية. فنحن اضطررنا لإنزال خزّانات المياه من أسطح المنازل إلى المستوى الأرضي لتسهيل تعبئتها في ظل انقطاع الكهرباء والماء. واضطررنا لتنقية القمح من الأوساخ لطحنه لصناعة الخبز، واليوم أضفنا طحين الذرة والبقسماط المطحون للعجين كي تكون الكمية كافية، فعلى رأي ابنتي “أحسن من بلاش”. كذلك نستخدم الفحم والحطب والكحول للطهي والتسخين، حيث حوّلنا الطنجرة الكهربائية لطنجرة تعمل بالفحم، وصفائح السمنة الفارغة لمواقد حطب في ظل غياب غاز الطبخ.
وفي سياق التكيف مع هذا الواقع، ثقبنا دلوًا بلاستيكيًّا كبيرًا بالقرب من القاع، ووصلنا به خرطوم الشطّاف المعدني لاستعماله في الحمّام نظرًا لعدم سريان المياه في المواسير. ذكّرني الأمر بالزجاجة البلاستيكية المصمّمة لنفس الغرض، والتي اشترتها ابنتي وحملناها في تنقلنا أثناء السفر في الخارج بديلًا عن الشطّاف.
الحاجة أم الاختراع بالفعل. واللافت للانتباه أن أيّ فكرةٍ تنشأ تتحوُّل بعد فترةٍ وجيزة إلى بضاعةٍ تُباعُ في السوق والبسطات العشوائية، ولكن دون أن يحظى صاحب الفكرة ببراءة الاختراع. فكُلّ شخصٍ أو عائلةٍ في قطاع غزة خلال هذا العدوان الملعون وما سبقه من عدوانات وحصار، قد اخترعوا شيئًا ما ربما، ليتغلّبوا على مرارة الواقع الذي نعيشه.
زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والعدوان