التكييف القانوني لدعوى جنوب افريقيا أمام محكمة العدل الدولية، بقلم : أماني الشريف
محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، وهي الجهاز الوحيد الذي ليس له مقر في نيويورك على غرار أجهزة الأمم المتحدة الأخرى، ويقع مقرها في لاهاي في قصر السلام في هولندا، وتختص بالنظر في النزاعات القانونية بين الدول، وتقديم الفتاوى والآراء الاستشارية في القضايا القانونية المرفوعة اليها من قبل هيئات الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة. تتكون المحكمة من هيئة قضاه يتمتعون بالاستقلالية التامة ويتم انتخابهم بغض النظر عن جنسيتاهم، وتتألف المحكمة من 15 عضو لا يسمح بأن يكون اثنان منهم من دولة واحدة ويتم انتخابهم من قبل الجمعية العامة ومجلس الأمن.
قامت دولة جنوب أفريقيا برفع دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية في 29 كانون الأول للعام 2023، اتهمت فيها إسرائيل بارتكاب ” جرائم إبادة جماعية” في قطاع غزة الذي لا يزال تحت وطأة القصف المستمر للمباني والممتلكات والأرواح منذ أكثر من ثلاثة أشهر، ولكن ما هي الشروط التي يجب توافرها للنظر الى هذه الشكوى على أنها إبادة جماعية؟ وما المقصود بالإبادة الجماعية قانونيا؟
للإجابة على هذه الأسئلة لا بد من الرجوع الى اتفاقية منع الاباة الجماعية والتي أقرت وعرضت للتوقيع وللتصديق أو للانضمام بقرار الجمعية العامة 260 ألف (د-3) المؤرخ في 9 كانون الأول /ديسمبر 1948، ووفقا لهذه الاتفاقية فقد عرفت الإبادة الجماعية أنها:” أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي، أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: ( أ ) قتل أعضاء من الجماعة.(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.( ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.( د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
وفيما يتعلق بالدعوى المقدمة من جنوب افريقيا، فيترتب عليها كطرف مدعي الاثبات للمحكمة حصول أفعال متعمّدة منسوبة للمدَّعَى عليه، وهنا فإن الجدل القانوني سيتعلّق بإثبات الواقعة والوصف القانوني المتمثل في “جريمة الإبادة الجماعية”، هذا وقد استمعت المحكمة علنيا لمرافعة الفريق القانوني لجنوب افريقيا وفريق الدفاع عن إسرائيل، ووفقا للأعمال التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة والشروط المنصوص عليها في اتفاقية الإبادة الجماعية فإنها لا بد وأن تعتبر ذات طابع إبادة جماعية خاصة بوجود القصد لتدمير جزء من القومية الفلسطينية، والحصار وتعطيل مرور المساعدات والتهجير وقتل المدنيين، وقد استندت جنوب افريقيا في الدعوة المقدمة الى المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية والتي جاء فيها : ” تعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسئولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة”، واتهمت جنوب افريقيا إسرائيل بانتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية وطالبت بوقف القتال فورا وأن تتخذ محكمة العدل الدولية التدابير المؤقتة لحماية المدنيين وفقا للمادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل: “للمحكمة الحق في اتخاذ ما تراه ضروريا من تدابير مؤقتة لحماية الحقوق ومنع تفاقم الأضرار بشكل لا رجعة فيه”، ومن الممكن أن تصدر المحكمة إجراءات عاجلة في غضون أسابيع، ولكن كقضية قد تستمر لسنوات.
وفي ذات السياق، سيكون القاضي ديكفانغ موسينيكي ، نائب رئيس المحكمة العليا السابق هو القاضي الخاص لجنوب افريقيا في محكمة العدل الدولية وله خبرة قانونيه وأكاديمية يشهد له فيها جنوب افريقيا وخارجها، أما إسرائيل فقد اختارت أهارون باراك، رئيس المحكمة العليا في إسرائيل سابقا، وتبعا للقواعد المعمول بها في محكمة العدل الدولية، فإن الدولة التي تكون طرفا في قضية ولكن لا يوجد قاض بنفس جنسيتها في هيئة المحكمة، فلها الحق في ترشيح قاض خاص الأمر الذي ينطبق على الطرفين جنوب افريقيا وإسرائيل.
وتجدر الإشارة الى أن فلسطين قد انضمت لاتفاقية منع الإبادة الجماعية بتاريخ 2 كانون الثاني للعام 2015، ومن هنا يثار السؤال: لماذا لم تقدم فلسطين الدعوى ضد إسرائيل بناء على انضمامها لاتفاقية منع الإبادة؟ وللإجابة على هذا السؤال لا بد من الرجوع الى النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية خاصة المادة رقم (34) والتي تنص على أن ” الدول فقط هي التي يجوز لها أن تكون أطرافا في القضايا المعروضة على المحكمة”. وفلسطين هي دولة بصفة مراقب في الأمم المتحدة وقياسا على ما حدث سابقا أن قامت فلسطين بالشكوى على الولايات المتحدة في العام 2017 بخصوص نقل السفارة، مستندة الى اتفاقية فينا للعمل الدبلوماسي، ولكن قامت الولايات المتحدة بالطعن في أهلية السلطة الفلسطينية على أنها دولة بصفة مراقب وغير مكتملة السيادة، وقياسا على ذلك فإنه من الأفضل أن تقوم دوله صديقة عضو في الأمم المتحدة برفع الدعوى خوفا من احتمالية الطعن مرة أخرى، ولكسب الوقت باتخاذ التدابير السريعة لوقف القتال.
إن النتائج المترتبة على حكم محكمة العدل الدولية هي نهائية، لا استئناف فيها، وطالما قبلت الدول رفع قضية الى المحكمة فتصبح قراراتها لزاما على الدول، وفي حال الدعوى المرفوعة من جنوب افريقيا على إسرائيل، فقد وكلت إسرائيل قاض خاص في القضية الأمر الذي يعني قبولها لاختصاص المحكمة وأرسلت أيضا فريقا قانونيا للدفاع عنها، فقرارات محكمة العدل في هذه الحالية إلزامية، ولمجلس الأمن اتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ القرارات الصادرة عن المحكمة، وفي حال امتنعت إسرائيل عن التنفيذ على المجتمع الدولي التدخل لإلزامها، ولا ينصح خبراء القانون الدولي الولايات المتحدة على استخدام الفيتو في مجلس الأمن حتى لا ينظر اليها أنها متواطئة مع إسرائيل خاصة وأنه في حال لم يتخذ مجلس الأمن الخطوات اللازمة لإلزام إسرائيل بالقرارات الصادرة عن المحكمة فإنه ستحول الملف للجمعية العامة التي قد توصي الدول باتخاذ الإجراءات الدبلوماسية المناسبة كفرض العقوبات الاقتصادية وسحب السفراء وغيره الأمر الذي يؤثر على مكانة إسرائيل بين الدول..