إعادة هندسة منظومة التعليم الفلسطينية، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
ينبغي للمنظومة التعليمية تلبية احتياجات المجتمع بأطيافه كافّة، والمساهمة الفاعلة في بناء كلّ صفة إنسانية للطفل الناشئ، من خلال تحرير إرادته، وإطلاق قدراته وتربيته على الحسّ بالاستقلالية، وتكوين شخصيته وكينونته المتكاملة العابرة للهُويات جميعها، دون إلغاء للانتماءات الأخرى، مثل الهوية الوطنية والاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية والأيدلوجية؛ باعتبار أنّ التربية محرك حقيقي للعقل الإنساني القادر على الاختيار والتمييز والتحرر من النمطية والأحكام التي تحدّ من الإبداع والريادة، والتفاعل الاجتماعي على المستويات كافّة، فالطفل كائن إنساني يملك وجوده، وبقوة التشريعات الوطنية والدولية يمنع المساس بحقوقه الطبيعية وحرياته الأساسية.
تواجه المنظومة التعليمية العديد من الصعوبات، التي تتمثّل بشكل رئيس بوجود الاحتلال الصهيوني الكولونيالي الاستعماري العنصري لفلسطين وانتهاكاته المتكرّرة للحقّ في التعليم بحرية وكرامة، التي قيّدت منعة النظام التعليمي وقدرته على إعمال الحقّ في التعليم، واستهداف المدنيين العزل وخاصة الأطفال، وحرمانهم من المتطلبات الأساسية للحياة، وتدمير الأعيان المدنية؛ مدارس وجامعات ومساكن وغيرها، بجرائم حرب وإبادة جماعية ضدّ الإنسانية، في انتهاك صارخ لقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، إضافة إلى التحريض المستمر على التعليم، وقرصنة عائدات المقاصة، ما أثّر على استقرار النظام التعلمي، إضافة إلى مشكلات تعود إلى أسباب اقتصادية وتمويل التعليم، وقضايا اجتماعية، وتفشي البطالة، وتحديات فنية مرتبطة بكفاءات القوى الدافعة في المنظومة التعليمية، وفاعلية مسار التطور المهني، وأثره على الأداء، وتدنّي القدرة على المساءلة والمحاسبة لأسباب موضوعية وذاتية، وغيرها.
وعلى الرغم من التحديات جميعها، فقد شهدت منظومة التعليم خلال السنوات الأخيرة محطات تطويرية في عديد المجالات، أبرزها إعداد المناهج الفلسطينية وتطويرها، وإحداث نقلة بِنيويّة في مكانة المناهج، وإنشاء المركز الوطني للمناهج بشخصية اعتبارية، على أن يُنظِّم عمله بقانون، وإنشاء مركز القياس والتقويم التربوي، وإطلاق فضائية فلسطين التعليمية التي تبثّ برامج تعلّمية تعليمية وتربوية متنوعة، إضافة إلى تطوير مجموعة من السياسات الخاصة بقطاع التعليم، مثل سياسة التحول الرقمي للتعليم، وإدماج المواطنة في التعليم، وتصور استشرافي في الإشراف التربوي، وإطار مرجعي في المطالعة والقراءة الذاتية، وإطار عامّ للتعافي من الفاقد التعليمي، وغيرها، وللتأكيد على سيادية التعليم؛ فقد أُعِدَّت ورقة مرجعية للتمويل الوطني للتعليم، وبرنامج تبنّي المدارس الذي حقّق إنجازات لافتة في وقت قصير؛ ما عكس قناعة راسخة للمجتمع الفلسطيني بأهمية استقلالية النظام التعليمي، إضافة إلى عديد البرامج المتعلقة بالتنشئة الشمولية للطفل؛ قيمياً ومعرفياً ومهارياً ونفسياً واجتماعياً وعاطفياً.
اعتمدت المنظومة التعليمية على مقاييس كمية لتشخيص أدائها في برامجها وأنشطتها المتنوعة، منها مؤشرات رصد درجة تحقيق غايات الخطة الاستراتيجية، والاختبارات الوطنية، والمشاركة في الاختبارات الدولية، التي أشارت إلى تدنّي في مستوى الأداء، وأنّ درجة تحقيق الغايات كان متواضعاً جداً، كما أنّ نتائج الاختبارات الدولية تُراوح مكانها مع الأنظمة التعليمية العربية في آخر القائمة، وهنا يجدر الإشارة إلى أنّ قرار مشاركة فلسطين في الاختبارات الدولية يتّسم بالجرأة، وربما هو نوع من المغامرة؛ إذ إن تجارب فلسطين في الدراسة العالمية للرّياضيات والعلوم (TIMSS) للسنوات (2003م، 2007، 2011)، إضافة إلى المشاركة للمرة الأولى في دراسة بيزا 2022م، لم تحقّق قيمة مضافة ذات دلالة، وتنسجم تلك النتائج -إلى درجة كبيرة- مع نتائج الاختبارات الوطنية والموحدة التي تعدّها وزارة التربية
والتعليم، وتنفذها.
إنّ مشاركة فلسطين في التقييمات الدولية يحمل في طياته الاستعداد للمساءلة، والتحول من إدارة المخرجات إلى إدارة النتائج، وتأصيل مفهوم الجودة الذي يتطلّب إعداد مقاييس وأدوات معيارية لضمان تحقيق المستوى المأمول، وإصدار أحكام ذي قيمة؛ بهدف تجويد نتاجات التعلّم والتعليم، من خلال تفسير ممنهج للأدلة والمؤشرات، بما يراعي خصائص البيئة الفلسطينية وأصولها، والاستفادة من الخبرات المختلفة في هذا المجال، دون الاتكال عليها، واستنساخها، إضافة إلى توضيح مواصفات نتاجات النظام التعليمي المتمثلة بما يمتلك الطلبة من كفايات، تجعلهم قادرين على الإحاطة بمبادئ العلوم، والاستنباط، ومعرفة عمليات المعرفة والفهم والوعي؛ ما يتطلب التأكيد على تأثير المعلم والبيئة التعليمية الداعمة للتعلّم، وغيرها من عناصر العلوم التربوية.
تلعب عملية التقييم المستمر للتعليم دوراً مركزياً في التخلص ممّا يعتريه من شوائب، وما لا يعمّق وعياً وإدراكاً؛ لذا فإنّ جودة صناعة التعليم تُعَدّ منهجاً علمياً أثرُه عظيمٌ على التنمية البشرية، ووسيلة التربية لتحقيق غاياتها ببناء نظامي له مدخلات تجري عليها العمليات الملائمة لينبثق منها مخرجات تمكّن الطلبة من خدمة ذاتهم ومحيطهم الاجتماعي، وتنمّي قدرتهم على التكيف مع واقع الحياة بمستحدثاتها، والتفاعل الإيجابي مع القضايا المحلية والكونية؛ ما يتطلّب أن يكون تقييم النظام التعليمي منطقياً وواقعياً وشاملاً ومتكاملاً، تُنفّذه جهات مستقلة، ويمكن مشاركة منظومة التعليم بدور معين بما لا يؤثّر على مبدأ الحياد، وعدم الانحياز.
لطالما كانت فكرة الإصلاح التربوي ثابتة في التربية على مدى العصور رغم ما تعانيه من غربةٍ؛ حيث يحاول المهتمون بين الفينة والأخرى إعادة تشكيلها بمسميات جديدة، يكسونها بمظهر ينسجم مع متطلبات المرحلة، فعملية التطوير ليست سردية نظرية، أُحسِنَت صياغة مفرداتها فحسب، بل هي وِقفة متأنية ومتأملة إزاء التغيرات العميقة والمتسارعة في عصر المعرفة.
ونظراً لحالة الثبات التي أشارت إليها نتائج الاختبارات الدولية والوطنية في أداء الطلبة، وما أظهرته الدراسات المختلفة عن جودة منخفضة لنوعية التعليم، وضعف القدرة على مواكبة التطورات العلمية والتربوية؛ فقد انكشف ضعف الطرق التقليدية في مواجهة التحديات، وأصبح لزاماً معالجتها، من خلال إعادة هندسة منظومة التعليم بمدلولاتها العميقة؛ ما يتطلّب قراراً مسؤولاً بتحقيق طفرات فائقة تُحدِث فارقاً في القيمة المضافة للمنظومة التعليمية بمنظور شمولي لجميع مكونات النظام التعليمي، ونظرة استشرافية لتحديد النتاجات المتوقعة مستقبلاً، وَفق منهجية
التجديد المستمر، واستثمار أفضل الطرق والأساليب المستجدة، وتوفير جملة من المتطلبات المادية والمعنوية والضمانات اللازمة لتحقيق النموّ الشمولي للطلبة؛ ليكونوا أحراراً من اليوم وإلى الأبد، فالاستثمار في الإنسان، وتغليب الفكر، وبناء علاقة تفاعلية مع عالم الأشياء، يُسهم في نهضة تعلّمية تؤسّس لتطوّر مجتمعي في المجالات كافّة.
لقد أزف الوقت ونحن في نهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين لإيجاد رؤية وطنية بديلة عن التحليق في كنف التحولات العالمية العاتية، وزيادة الفجوة بين التقدم العلمي الهائل في المجتمعات الغربية وواقع المجتمعات العربية عامّة، ويضاف إليها الخصوصية الفلسطينية، والشعور بالخطر الشديد في تحقيق أولوياتها بدحر الاحتلال وإنجاز الاستقلال، الذي يفرض علينا الفعل المبادر الجَسور الذي يُحدث قفزة استثنائية في مشروعنا الوطني، وإيجاد حالة من التوازن الدقيق بين آلام الواقع الذي غدا غطاء لتكريس الوضع القائم والمستقبل المأمول، والتأكيد على الدور النهضوي في تعليم نوعي مَهمّته الأساسية استنباتُ القدرة على التساؤل والإبداع في ذهن الطلبة، وتنميةُ مخيّلته بممارساتٍ تحفّزه على التخيّل والابتكار، وتعزيزُها، وحثُّه على توظيف خياله ووعيه وكل المقترحات والفرضيات والاحتمالات في أي مسألة، وممارسةِ تفكيره الشخصي، وتدريبِ ذهنه على التريث والتأمّل طويلاً.
ينبغي إعادة تصميم منظومة التعليم، حيث توفّر فرص التعليم النوعي والجيد للجميع، ليكون قائماً على الكفاءات، من خلال إعادة النظر في اختيار الكفاءات، واستقطاب الكادر التعليمي والتربوي من المؤهلين، وأصحاب الكفاءة، وبناء نظام للتنمية المهنية المستدامة يتّسم بالفاعلية وَفق مسارات التطوير المهني؛ لمواكبة المستحدثات العلمية والتربوية، ورفع مكانة المعلّم الوظيفية والمهنية والاجتماعية وَفق نظام يراعي الأبعاد المتعددة للمنظومة التعليمية، وإيجاد نظام مساءلة داخلي وخارجي يركّز على تحسين النوعية، وتطوير نظام حوافز عصري يهتمّ بالعاملين، ويلبي احتياجاتهم، وكذلك التحوّل بوظيفة التعليم إلى مهنة، من خلال إقرار نظام رخصة مزاولة مهنة التعليم، ورُتَب المعلّمين.
إنّ اعتماد منظومة التعليم بحلّتها الجديدة للمنحى العقلاني العملياتي الذي يدمج بين النظرية والتطبيق وسوق العمل، يعزّز دور المؤسسة التعليمية ومكانتها في تطوير المجتمع اقتصادياً وثقافياً، وتحقيق التنمية الشاملة، وتبنّي منهج مفتوح متواتر يشجع على الابتكار، ويحقّق معايير الجودة، ويبني جسور التعاون مع المؤسسات التعليمية المرموقة عالمياً، مع الحفاظ على الهُوية الفلسطينية، ويُسهم في البناء الاجتماعي والعاطفي والمعرفي للطلبة، في مُناخ ممتع ومبهج ومعزّز للفضول المعرفي، ولشغف العقل، ومشجّع على إدماج ثقافة الإبداع والتفكير والإنتاج في التعليم، وتفعيل مشاركة المدرسة كمؤسسة اجتماعية في المحيط الاجتماعي، من خلال تفاعل الطلبة في الأنشطة المجتمعية والمدرسية، بما في ذلك مشاركتهم في صناعة القرارات باعتبارهم مواطنين مسؤولين.