درس من التاريخ لغزة وللمستقبل، بقلم : تأييد زهير الدبعي
اندفع قطار الموت الإسرائيلي منذ السابع منذ أكتوبر الماضي بشكل أكثر إجراما وعنفا من أي وقت مضى، ولا زال يلتهم في طريقه كل شيء بمباركة رسمية من أمريكا وأوروبا، ودول أخرى كنا نعتقد أنها شقيقة أو صديقة للشعب الفلسطيني. لا غرابة في موقف أمريكا وأوروبا من إسرائيل فعلاقتهم كعلاقة الجد والابن والحفيد. الجد أوروبا بقيادة بريطانيا ذات التاريخ الطويل في إبادة الشعوب ونهب الثروات وتشويه الحقائق والتاريخ. أوروبا التي غزت ما يسمى العالم الجديد، ووجدت أرضا وثروات وقبل كل ذلك شعوب وحضارات عظيمة، ما كان منها إلا إبادة هؤلاء السكان الأصليين الذين كان عددهم أكثر من 100 مليون يتوزعون على أكثر من 400 شعب وقبيلة وأطلقت عليهم لقب (الهنود الحمر).
وكانت هذه الإبادة أهم عناصر فكرة أمريكا، فقد استندت تلك الإبادة إلى أيديولوجيا استعلائية عنصرية متأثرة بشدة بالعهد القديم، لدرجة أن أطلق الغزاة الأوروبيون اسم (أرض كنعان الجديدة) على العالم الجديد، ومن وحي فكرة إسرائيل التاريخية بدأت عمليات وحشية لإبادة السكان الأصليين بقتلهم بطرق شتى، وصلت لحد إهدائهم أغراضا ملوثة بالجدري وغيرها من الأوبئة مما أدى إلى محو شعوب وقبائل بأكملها. كما عمل الغزاة على خداع السكان الأصليين بمئات “اتفاقيات السلام” لايهامهم بأنهم بأمان، لدرجة أنهم أنشأوا ما أسموه السلطة الوطنية الهندية!.
ولم يعان السكان الأصليون من ممارسات الحكومات وحسب، بل اشترك المستوطنون البيض في عمليات الإبادة تلك، فقد كان صيد السكان الأصليين والتمثيل بجثثهم الرياضة المفضلة للأمريكيين، وأصبح سلخ فروة رؤوس السكان الأصليين الطريق الأٌقصر للثروة لدى الغزاة البيض، حيث كانوا يحصلون على جوائز مجزية مقابل كل فروة. استمرت تلك المجازر لعقود وقرون طويلة ولا زالت مستمرة حتى اليوم، فقد أصبح السكان الأصليون قلة في أوطانهم يعيشون في “محميات” مجزأة ومعزولة.
وما لا يقل خطورة عن كل هذا، هو كيف تم الحط من شأن تلك الشعوب وتشويه تاريخهم وحضارتهم، فقد عملت الآلة الإعلامية العاتية لأمريكا على قلب الحقائق وتحويل الضحية إلى جلاد، بتصوير السكان الأصليين على أنهم مجرد وحوش ينمو في رؤوسهم الريش يهاجمون البيض ويقتلونهم بلا رحمة، ولا يعرفون شيئا عن “حضارة” الإنسان الأبيض. إن كل تلك الجرائم المركبة لم يعتبرها الغزاة الأوروبيون إلا مجرد “أضرار هامشية” لنشر الحضارة.
وبعد الابن جاء الحفيد “إسرائيل”، الذي أُنشِئَ على شاكلة أبيه “أمريكا”، فقد أنشأه الجد بريطانيا على نفس الأسس التي قامت عليها أمريكا وغيرها من دول العالم الجديد بالعنف الدموي وارتكاب المجازر وطمس الحقائق، وتم زرع الحفيد على أرض ليست أرضه، ولم تكن عملية زراعة هذا الجسم الغريب أن تنجح لولا أن رافقتها عملية اقتلاع وحشية أدت لتشريد الشعب الفلسطيني الأصلاني واستبداله بمهاجرين جُلِبوا من شتى أنحاء العالم.
يخطئ من يعتقد أن عملية التطهير العرقي مجرد حدث انتهى في العام 1948، فإسرائيل لم تكُفَّ يوما عن ملاحقة الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم قتلا وتهجيرا واعتقالا وتضييقا بقوانين عنصرية تُصعِّب حياتهم بهدف إجبارهم على الرحيل. وما يحدث في قطاع غزة اليوم من إبادة جماعية مستمرة للشهر الرابع على التوالي ادعت إسرائيل أن هدفها من الحرب هو القضاء على حركة “حماس”، لكن الوقائع والتاريخ يثبتان أن إسرائيل لا تستهدف حركة “حماس” ولا غيرها من التنظيمات في قطاع غزة، إن هدف إسرائيل الحقيقي هو إنهاء الوجود الفلسطيني في غزة أو تقليصه إلى أدنى حد ممكن، وكل ما يجري ليس إلا حلقة جديدة في سلسلة الترانسفير، الذي يهدف لتهجير لسكان القطاع وإعادة احتلاله من جديد، تحقيقا للقاعدة المقدسة للمشروع الصهيوني ( أرض أكثر وعرب أٌقل).
ورغم كل هذا الخطر الوجودي المحيط بنا تبدو القيادات الفلسطينية كلها دون استثناء، وكذلك الدول العربية والإسلامية، وكأنها لا تعلم شيئا عن طبيعة المشروع الصهيوني ولا عن تاريخ أبيه أمريكا وأجداده أوروبا، أو أنها تعلم ولكنها تتجاهل ذلك، ولا زالت تناشد أمريكا وأوروبا لحمايتنا من إسرائيل! كيف نتوقع ممن صنع وحش إسرائيل وأطعمه أنه سوف يأتي يوم لكي ينقذنا منه؟
إن استطاع المشروع الصهيوني تهجير سكان قطاع غزة فلن تكون هذه إلا نكبة جديدة تليها نكبات متتالية سيكون ضحاياها الفلسطينيون في الضفة الغربية ومنطقة الساحل والجليل والنقب، لأن التطهير العرقي في العقلية الصهيونية بُنية مستمرة ومتصاعدة. وإن تمت تصفية الشعب الفلسطيني سينطلق المشروع الصهيوني للتوسع نحو مصر والأردن ولبنان وغيرها من الدول العربية، لأن شهوة التوسع والاستيلاء على مزيد من الأراضي ونهب مزيد من الثروات وطرد مزيد من السكان عند إسرائيل لن تقف عند حد أبدا.