شفا – أسيل الأخرس – “الحزن في غزة مؤجل، وخلال الحرب فإن الانشغال بالنجاة هو سيد المشهد، فالغزي لا يقاتل من أجل النجاة فقط، بل من أجل أبسط تفاصيل الحياة”.
“طوابير من أجل الحصول على المياه، وأخرى من أجل الخبز، وساعات من البحث عن الطعام، أو الحطب لطهيه، وأسوأ ما يعيشه المواطنون عجزهم عن إنقاذ من هم تحت الركام”.
“استُشهدت شقيقة زوجتي وأولادها بانهيار كامل للبناية عليهم جراء قصف إسرائيلي، فذهبتُ مع آخرين طيلة 5 أيام، في محاولات متواصلة لرفع الركام وانتشالهم لنواري جثامينهم الثرى، هذا ما قاله وزير الثقافة عاطف أبو سيف في شهادته عن العدوان الإسرائيلي المستمر في إطار الحرب الطاحنة على قطاع غزة.
وأضاف: كنت في قطاع غزة حيث كان من المفترض أن نطلق يوم التراث الوطني في متحف القرارة شرق خان يونس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وذلك ضمن توجيهات القيادة الفلسطينية في التركيز على النشاطات الثقافية في غزة وعلى هوية غزة الثقافية، وكنا قد أعددنا الترتيبات اللازمة، مشيرا إلى أن المتحف استهدفه الاحتلال بالقصف بشكل جزئي خلال العدوان.
وتابع: الاحتلال واصل جرائمه منذ النكبة إلى اليوم، وشن عدوانا شرسا وهمجيا منذ اللحظة الأولى، فخلال الـ47 يوما الأولى من عمر العدوان، كنت في مخيم جباليا حيث تقيم عائلتي اللاجئة من مدينة يافا، وفي النهار أمارس عملي، وأتفقد المستشفيات، وألتقي العديد من الأدباء والكتاب في بيت الصحافة في مدينة غزة، الذي استُشهد مديره بلال جاد الله في قصف إسرائيلي.
إن إسرائيل تعمدت محو معالم مدينة غزة، وقال: كنت أذهب إلى العمل بسيارتي صباحا، وعند عودتي مساءً لا أعرف الطريق بسبب اختفاء معالمه جراء قصف البنايات والشوارع، وكنت أبحث عن طريق للعودة يوميا، وأنا من عشت فيها 50 عاما كنت أجد صعوبة في معرفة معالمها، ففي شارعي الهوجة واليافاوية في مخيم جباليا أزيلت أحياء كاملة وبات من الممكن أن ترى على مدى البصر نهاية المخيم فيما كانت تتعذر الرؤية على بعد عشرة أمتار بسبب العمران والازدحام.
وعن الوضع الإنساني في قطاع غزة، قال: إنه غاية في الصعوبة، فلا يوجد مأوى ولا خيام كافية، وهناك من يستأجر خياما بمبلغ شهري، كما لا يوجد طعام كافٍ، إذ إن ما يدخل من مساعدات لا يكفي 5% من حاجة المواطنين، وهي احتياجات تخمينية من المرسل مشكورا، ولا تلامس أغلبيتها احتياجات النازح، إذ إنه مثلا بحاجة إلى أشياء لا تحتاج إلى الطهي، داعيا إلى ضرورة أن تلامس أجندة المساعدات احتياجات النازحين.
وأضاف: هناك نقص حاد وغياب للملابس الشتوية والأغطية، خاصة أن المواطنين نزحوا خلال فصل الصيف، وبالتالي لم يستطيعوا حمل الملابس والأغطية اللازمة لحمايتهم من برد الشتاء القارس.
ولفت إلى أن القطاع يعيش دون تيار كهربائي منذ ثالث يوم من العدوان، وأن المواطنين طوروا سبلا لتلبية احتياجاتهم من الكهرباء اللازمة لشحن أجهزتهم الخليوية والمصابيح، من خلال شراء بطاريات صغيرة للشحن، أو عبر الاصطفاف في طوابير لدى محلات تقوم بشحن الأجهزة الخليوية بالطاقة الشمسية مقابل مبلغ مالي.
وأوضح أن انقطاع التيار الكهربائي ألقى بظلاله على وصول المياه إلى المنازل، التي تحتاج إلى ضخها إلى أعلى المنازل وداخلها عبر الكهرباء، ما يضطر الأسر إلى نقل المياه فور توفرها في الأوعية، ووضعها يدويا في خزانات المياه على أسطح المنازل وداخلها، كما عطل غياب الوقود عمل محطات التحلية، ما دفع المواطنين إلى الاصطفاف لساعات أمام خزانات المياه في بعض الأماكن للحصول على زجاجة مياه للشرب.
وأشار إلى أن المواطنين في سبيل الصمود طوروا وسائلهم، وباتوا يستخدمون زيت الطهي بديلا عن الوقود للمركبات المختلفة، ما تسبب بارتفاع نسبة التلوث، فأنت تسير في الشارع وكل ما حولك مشتعل من زيوت وأبخرة، إضافة إلى أزمة السير الخانقة.
وعن تجربته في النزوح قال: نزحت إلى خان يونس في اليوم الـ47 عند أحد الأصدقاء، مشيرا إلى أن النزوح الداخلي سواء لدى أحد المعارف أو الأقارب غير مسجل لدى المعنيين، ولذلك لا يتلقون أية مساعدات إغاثية وغذائية، وهناك شقق مساحتها لا تزيد على 100 متر مربع، تضم أكثر من 80 نازحا، ثم توجهت بعد أيام إلى مدينة رفح جنوب القطاع، ونصبت خيمة من النايلون والخشب والجلد، وعشت برفقة ابني ياسر عرفات (15 عاما)، وفي الخيمة عليك أن تتدبر أمرك كله بمفردك.
وعن النزوح إلى رفح قال: إن المدينة غير مهيأة لاستيعاب مليون نازح، إذ إن البنية التحتية للمدينة غير مهيأة من حيث المستشفيات والأسواق والطرقات، والمدينة لا تتوفر فيها مخازن للمواد الغذائية مثل مدينة غزة كونها المركز، وبالتالي بدأت الأزمة مبكرا، واستُنزف المخزون في أول أيام العدوان، وعانى المواطنون عدم وجود الدقيق لصناعة الخبز لأيام، إلى جانب الارتفاع المهول بالأسعار، ما أثر في انخفاض سعر العملة، ولنقص السلع وارتفاع سعرها، بات حتى من يملك المال لا يجد ما يشتري به.
وتابع: في الحرب لا خيارات أمامك، إما أن تعيش أو تستسلم وتموت، فكان أصعب ما يمر على النازحين هو التفكير في ما سيأكلون وكيف ذلك؟، لأن الطعام غير كافٍ، كما أن عليك أن تبحث عن الحطب لإشعال النار من أجل الطهي، ما أوجد دورا للبعض ليقوموا بالتحطيب لتوفير الحطب، سواء من الأشجار في المناطق البرية أو من منازل المواطنين، وتعلمت مهارات لإعداد الخبز، وهناك الحاجة إلى البحث عن فراش وأغطية، خاصة أن كل ليلة أكثر برودة من سابقتها، إلى جانب أولوية توفير زجاجة مياه للشرب.
وأشار إلى أن كل مجموعة من الخيام تعيش حياة متكاملة، حيث يجمعون الحطب، ويتدبرون مسؤولية استلام المساعدات الغذائية “الكوبونات”، وإقامة فرن من الطين للخبز، في نوع من التشارك والتعاون.
ولفت إلى أن المواطنين سعوا إلى تنظيم حياتهم في الخيام رغبة منهم في التعايش وفق الظروف المتاحة، وكانوا يوفرون المساعدة لأي نازح جديد في نصب خيمته، ويقدمون الرعاية إلى كبار السن ممن استُشهد أبناؤهم، أو ممن ليس لديهم من يرعاهم.
ولخص ما يعيشه أهالي القطاع في ظل استمرار العدوان، بأنه بحث مكلف عن الحياة، وتفاصيل النجاة هي طريق نحو الموت.
وفي سياق عمله وزيرا للثقافة قال: إن الحرب الحقيقية التي يشنها الاحتلال هي حرب على الهوية الوطنية الفلسطينية والذاكرة الجمعية وعلى كل شيء له علاقة بتاريخنا وهويتنا.
وأضاف: منذ بداية العدوان شكلت الحكومة لجنة وزارية للإشراف على إدخال المساعدات ومتابعتها من خلال متابعتي أنا ووزيران آخران في الحكومة، وحرصت على عقد لقاءات مع مجموعة من الكتاب والفنانين النازحين إلى جانب إصداري التقارير الرسمية وانتهاكات الاحتلال بحق القطاع الثقافي.
وتابع: نجحنا خلال العدوان، وتحديدا في 5 ديسمبر 2023 في تسجيل الدبكة الشعبية على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، كما تقدمت إلى اليونسكو بملف الصابون التقليدي “النابلسي”.
ولفت إلى أن القطاع الثقافي في غزة يضع المجتمع الدولي والمنظمات العاملة في قطاع التراث أمام مسؤوليات جسيمة من أجل حماية المواقع الأثرية والمتاحف والمباني التاريخية، لأن خسارة التراث الثقافي هي خسارة للإنسانية، وتقع علينا مسؤوليات إعادة إعمار ما هدمه الاحتلال وترميم المواقع والمقتنيات الفنية.
وأشار إلى أن الاحتلال ضمن الحرب الممنهجة على الثقافة الفلسطينية والمؤسسات الثقافية استهدف مقرات الجامعات، وتضررت مرافق 19 جامعة وكلية في قطاع غزة بشكل جزئي أو كلي، واستُشهد أكثر من 43 مبدعا حتى إعداد التقرير، وجميع المؤسسات الثقافية في مدينة غزة وشمال غزة دُمرت بالكامل أو بشكل جزئي، أبرزها مسرح رشاد الشوا، وقرية الحرف والفنون، ومقر الاتحاد العام للمراكز الثقافية، والمكتبات، ودور النشر.
وأضاف: دمر القصف سوق الزاوية التاريخي بالكامل، وهو امتداد لسوق “القيسارية” الأثري الذي يعود بناؤه إلى الفترات التاريخية ما قبل الميلاد، وطال القصف بعض الأجزاء من قلعة برقوق في مدينة خان يونس التي بنيت عام 1387 في عهد السلطان برقوق، كما دمر الكثير من مرافقه خاصة مبنى الأرشيف المركزي، بالإضافة إلى تدمير مبنى البلدية الواقع في ميدان حي الدرج الذي بني في بداية القرن العشرين.
وتابع: قصفت طائرات الاحتلال في 30 من ديسمبر حمام السمرة ودمرته بالكامل، وهو الحمام الوحيد المتبقي وعمره يصل إلى ألف عام ومساحته 500 متر مربع، كما هدمت “بيت السقا” بالكامل الذي يعود تاريخ بناؤه إلى 400 عام، بالإضافة إلى تضرر مجموعة من المقامات في مناطق مختلفة من أبرزها مقام خليل الرحمن في عبسان، ومقام النبي يوسف في بني سهيلا، ومقام الخضر في دير البلح، وسبل تراثية في حي الدرج خاصة سبيل الرفاعية.
وأشار إلى أن إسرائيل تعمدت استهداف المدينة التاريخية في غزة، ودمرت المساكن والمرافق التاريخية، إذ قصفت 200 منزل تاريخي بعضها يعود إلى أكثر من 700-800 عام، في أحياء الزيتون والدرج والشجاعية، بجانب استهدافها المؤسسات الدينية التاريخية ومنها: المسجد العمري ومسجد السيد هاشم جد الرسول، وكنيسة القديس برفيريوس التي تعود إلى العام 407م في قطاع غزة، كما استُشهد داخلها المصور الشهير مروان ترزي وريث استديو موريس وريث كيغام أقدم استديو في غزة، ومن غير المعلوم مصير أرشيف غزة المصور، الذي يعود تاريخ أرشيفه إلى أكثر من 100 عام.
ولفت إلى أن الاحتلال دمر الأسواق التاريخية والمتاحف حيث إن هناك 9 متاحف في قطاع غزة تعرض أغلبيتها للقصف والتدمير بشكل جزئي أو كلي، فمثلا المتحف الذي يقع في مدينة رفح يضم 320 قطعة تطريز نادرة، ويبلغ عمر أحدث قطعة فيه ضعف عمر دولة إسرائيل، وهو يضم مئات الأدوات المتعلقة بالتراث القديم من أزياء وأدوات قديمة تعكس الثقافة القديمة، كما تعرض 1450 ثوبا وقطعة مطرزة للإتلاف والحرق والتمزق، بالإضافة إلى ما تم تدميره من أثواب في متحفي رفح ومتحف المتحف فقد بلغ عدد الأثواب التاريخية التي تعود إلى ما قبل النكبة 2100 ثوب وقطعة تطريز، كما استولى الاحتلال على أكثر من 400 قطعة أثرية من متحف المتحف.
ودعا اليونسكو إلى ضرورة التدخل من أجل الكشف عن المواقع التراثية مثل كنيسة جباليا البيزنطية، والمقبرة الرومانية في جباليا، وتل عمارنة، وتل سكن، وميناء “الأنثيديون”، وميناء غزة القديم الذي يعود إلى العهد الروماني والذي وثقت الكاميرات سير الدبابات فوقه.
ونوه إلى أن المخطط الإسرائيلي الأساسي يهدف إلى إبادة قطاع غزة وإفراغه، وإخلاء المواطنين إلى الجنوب ثم إلى سيناء، وأن صمود شعبنا وفهمه وثباته رفضًا لمحاولات التهجير إلى جانب موقف القيادة الذي عمل الرئيس محمود عباس مع قيادة العالم من أجل إفشال مشروع التهجير هما اللذان أحالا حلم إسرائيل في أن يبتلع البحر غزة كما تمنى رابين إلى سراب، وأكد شعبنا أنه لا يمكن للنكبة أن تستمر، وأنه لا الخيمة ولا النزوح قدر الفلسطيني، وأن النكبة يجب أن تنتهي، وصمود شعبنا هو إرادته للحياة.