غزة تتحدى إسرائيل من داخل محكمة العدل الدولية، بقلم : د. سنية الحسيني
قدمت جنوب أفريقيا أمام قضاة محكمة العدل الدولية، عرض رائع ضد إسرائيل. قد يكون الفلسطينيون آخر الشعوب التي يمكن لها أن تثق بالمؤسسات الدولية، خصوصاً منظمة الأمم المتحدة، التي تحكمها اعتبارات ومعادلات سياسية، بعيدة كل البعد عن العدالة والقانون، إلا أن محكمة العدل الدولية، والتي تمثل الجهاز القضائي لهذه المنظمة، وتعمل وفق اعتبارات قانونية لا يمكن إنكارها، قد تقدم للفلسطينيين في هذه المرة تطوراً نوعياً مهماً في مجريات القضية الفلسطينية على المستوى الدولي. ويعود ذلك لعدة اعتبارات أهمها أن المحكمة ولأول مرة تنظر في قضية تتعلق بالفلسطينيين على هذا المستوى من القضايا، كما أن طبيعة القرار الملزم وخطورته التي يمكن أن تتخذه المحكمة لصالح الفلسطينيين في هذا النوع من القضايا، ستضيف للمكانة القانونية والسياسة للفلسطينيين، وتضر بالاحتلال.
ورغم ذلك تبقى المعضلة متمثلة في صعوبة تنفيذ قرارات هذه المحكمة، والتي تنبع من عدم امتلاكها جهازا تنفيذيا.
ورغم إمكانية توصيل الدولة المتضررة من عدم تنفيذ الدولة الخصم لقرار المحكمة، وعدم قدرة مجلس الأمن على رفض قرار المحكمة أو إسقاطه بـ»الفيتو»، إلا أن «فيتو» أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن قد يعطل اتخاذ إجراءات لتنفيذ القرار. ورغم ذلك يبقى تحريك قضية من هذا النوع في المحكمة والخروج بقرار لصالح الفلسطينيين إنجازا فلسطينيا مهما، وإحراجا كبيرا للمحتل، خصوصا لأنه يعكس قرارا قانونيا صافيا، ودليلا إضافيا مهما على حقوق الفلسطينيين.
في نهاية شهر كانون الأول الماضي، رفعت جمهورية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية دعوى قضائية ضد إسرائيل لانتهاكها قواعد اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية. وهذه ليست المرة الأولى التي تتلقى فيها المحكمة دعاوى بشأن قضايا تتعلق بالإبادة الجماعية، فتلقت من قبل دعوى من قبل البوسنة والهرسك، وكرواتيا ضد صربيا، ومن قبل غامبيا ضد ميانمار التي تمارس إبادة جماعية ضد مسلمي الروهينغا، كذلك من قبل أوكرانيا ضد روسيا.
وطلبت دعوى الدولة الأفريقية الصديقة من المحكمة لاتخاذ إجراءات مؤقتة عاجلة، منها إصدار أمر لإسرائيل بتعليق حملتها العسكرية في غزة، بينما يستمر النظر في القضية، بسبب خطورة الوضع في فلسطين. وتميل المحكمة لاتخاذ تدابير مؤقتة احترازية سريعة تهدف للحد من أثر الممارسات السلبية الخطيرة قبل البت النهائي في القضية، والذي يحتاج لفترة من الزمن. وأصدرت قرارات احترازية لكل من ميانمار وروسيا بوقف الانتهاكات حتى انتهاء عملية التقاضي، وهو على الأغلب ما ستفرضه المحكمة على إسرائيل أيضاً.
إن ما يحث في غزة، اليوم، هي جرائم إبادة جماعية. أكدت الأمم المتحدة نزوح أكثر من ٨٥% من سكان القطاع، كما استشهد أكثر من ٢٣ ألف فلسطيني وهناك ٩ آلاف مفقود تحت الأنقاض، وأكثر من ٦٠ ألف مصاب.
وحذر منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة من أن قطاع غزة بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الهجمات المستمرة بات غير صالح للسكن بعد أن دمره القصف الإسرائيلي المتواصل، وأصبح مكانا للموت واليأس. كما اعتبر كينيث روث المدير التنفيذي السابق لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» أنّ حجم القتل كافٍ لاعتبار إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية في غزة.
وتم إدراج «الإبادة الجماعية» للمرة الأولى في الوثائق الدولية عبر اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام ١٩٤٨. وتعتبر المادة الثانية من الاتفاقية أن قتل أعضاء من جماعة قومية أو إثنية أو دينية، أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضائها، أو إخضاعها عمدا لظروف معيشية يراد بها التدمير المادي كلياً أو جزئيا، والتي ترتكب عن قصد التدمير الكلي أو الجزئي، تشكل جريمة إبادة جماعية. واعتبرت الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا أن ما تفعله إسرائيل يعد إبادة جماعية في طابعه، لأنه يُرتكب بنية محددة لتدمير الفلسطينيين في غزة، والذي يعد انتهاكا لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية. وتستند الدعوى على عدد الضحايا وحملة القصف والتدمير المستمر لجزء كبير من القطاع، والتهجير القسري لسكانه، وحرمانهم من الطعام والماء والدواء والوقود واستهداف كافة ملامح الحياة. كما تستند الدعوى إلى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تعكس النية والتشجيع على عمليات الإبادة الجماعية في غزة.
وتسمح قواعد المحكمة للدول المدعية والمدعى عليها أن تضم قاضيا من طرفها إلى قضاة المحكمة الـ ١٥، لم يكن من بينهم عضو يحمل جنسيتها. ويتم اختيار قضاة المحكمة من قبل الجمعية العامة ومجلس الأمن، ويعكسون توليفة جغرافية متوازنة.
اختارت اسرائيل أهرون باراك قاضٍ سابق في المحكمة العليا الإسرائيلية، وأحد الناجين من الهولوكوست، ويبلغ من العمر ٨٧ عاماً،حكومة نتنياهو اليمينية استهدفته وشككت في قدراته بيد انها ما لبثت ان عينته ليدافع عن جرائمها لانه يتمتع باحترام واسع على الصعيد الدولي، ما يخلق نوعاً من التعاطف معه من قبل باقي قضاة المحكمة. وقامت بتعيين أربعة محامين، منهم المحامي البريطاني مالكولم شو، وهو خبير بارز في النزاعات الإقليمية ومختص بقانون الإبادة الجماعية وقضايا حقوق الإنسان، وقد مثل دولاً من بينها الإمارات وصربيا والكاميرون في المحكمة الدولية. كما بدأ نتنياهو بالتواصل مع رؤساء دول ضمن مساعٍ تهدف لتعطيل صدور قرار يدين إسرائيل من المحكمة.
تعد محكمة العدل الدولية، التي مقرها في لاهاي، بمثابة الوصي على القانون الدولي، وتلعب دورا مهما في تطوير وتنفيذ القانون والمعايير الدولية. ويشمل اختصاص المحكمة جميع دول العالم، فيمكن لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن تتقدم بدعوى قضائية أمام المحكمة، كما يمكن ذلك لدول أخرى من غير الأعضاء وفق شروط معينة.
ولا تتمتع المحكمة بسلطة التعامل مع النزاع بمبادرة منها، وإنما بناء على طلب دولة أو أكثر. ويجب على الدول الأطراف في النزاع تقبل اختصاص المحكمة للنظر في النزاع بينها، من خلال إعلان أحادي أو اتفاق بينها على ذلك. فرغم أنه لا بد من موافقة الأطراف المتنازعة على تدخل المحكمة، وإحالة قضية ما إليها، إلا أنه في إطار الاتفاقيات الثنائية والمتعددة التي تنص على دور المحكمة في فض الخلافات، تصبح موافقة الأطراف أمرا غير مطلوب، انطلاقا من إقرارها المسبق بذلك، عند توقيع تلك الأطراف للاتفاق.
ويعود الأساس في رفع دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية إلى المادة ٩ من اتفاقية الإبادة الجماعية التي تخول هذه المحكمة حل النزاعات بين أطرافها. وتخضع إسرائيل لولاية المحكمة، انطلاقاً من كونها عضواً فيها، ولا تستطيع تجنب المثول أمام المحكمة في هذه القضية انطلاقاً ومن كونها طرفاً في معاهدة منع الإبادة الجماعية أيضاً.
وتختص المحكمة بمهمتين، النظر في النزاعات بين الدول لفضّها، وإصدار آراء استشارية قانونية. في إطار المهمة الأولى تصدر المحكمة أحكاماً نهائية غير قابلة للاستئناف، لا يجوز الطعن بقراراتها أو إثارة موضوع الحكم مرة أخرى أمام أي جهة قضائية أخرى، كما تعد أحكامها إلزامية لا يجوز إنكارها أو التراخي عن تنفيذها.
في الجانب الآخر، تتحدد مهمة المحكمة الثانية في تقديم آراء استشارية، وهي غير ملزمة، إلا أنها تحمل مكانة قانونية ومعنوية مهمة، انطلاقا من تخصص المحكمة وطبيعة دورها.
وطلبت الجمعية العامة من المحكمة فتوى بخصوص جدار الفصل العنصري نهاية للعام ٢٠٠٤، تماما كذلك الذي اتخذته، العام الماضي، بخصوص تقييم شرعية ممارسات إسرائيل كقوة احتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي ستبدأ جلسات الاستماع الخاصة بها في الشهر القادم. وهذا يبين الفرق بين طبيعة القضية التي تنظرها المحكمة.
وتتيح قواعد المحكمة لجوء الطرف المتضرر من عدم تنفيذ قرار المحكمة إلى مجلس الأمن، الذي عليه اتخاذ توصيات أو إقرار التدابير لتنفيذ القرار. وقد يكون العائق الأكبر أمام تنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية الملزمة عدم وجود جهاز تنفيذي يحقق ذلك.
فالعديد من القرارات المهمة الملزمة صدرت عن هذا الجهاز القضائي العالمي لكن لم يتم الالتزام إلا بحوالى نصف تلك القرارات. فعلى سبيل المثال، رفعت ايران دعوى ضد الولايات المتحدة أمام محكمة العدل الدولة مرة تعلقت بانتهاك العقوبات الاقتصادية الأميركية لاتفاقية الصداقة بين البلدين، ومرة أخرى كانت عن أموالها المجمدة من قبل الولايات المتحدة، وفي الحالتين حصلت إيران على حكم لصالحها خلال العامين ٢٠١٨ و٢٠١٩. فأقرت المحكمة حكماً برفع العقوبات ذات الغايات الإنسانية، على أساس أنها تترك أثراً مدمراً على صحة وأرواح المدنيين، وآخر يجيز لإيران استعادة أموالها التي جمدتها الولايات المتحدة.
ورفضت الولايات المتحدة في البداية الدعوى من أساسها، واعتبرت أن المحكمة غير مخولة للنظر فيها، وهو ما يمكن أن تلجأ إليه إسرائيل أيضاً في القضية الحالية، إلا أن الولايات المتحدة عادت ومثلت أمام المحكمة للدفاع عن نفسها، لكنها لم تلتزم بقراراتها بعد ذلك. وليست الولايات المتحدة وحدها من تحدى قرارات المحكمة، فلم تنفذ روسيا أيضاً قراراً للمحكمة طالب بتعليق الحرب الروسية الأوكرانية.
قدم محامو جنوب أفريقيا وإسرائيل الحجج القانونية،( الخميس والجمعة )، وما يرجح توجه المحكمة لإقرار تدابير مستعجلة لتجميد الهجوم الإسرائيلي على غزة، نظرا لخطورة الواقع. ولا يمكن إنكار الضرر المعنوي الذي سيقع على دولة الاحتلال بإصدار المحكمة تدابير فورية لتجميد الهجوم وقرار المحكمة بإدانتها بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الفلسطينيين بعد ذلك، وغم ذلك من المشكوك به أن تلتزم إسرائيل بتلك التدابير، كما لم تلتزم بها روسيا في العام ٢٠٢٢ وغامبيا في العام ٢٠٢٠ والولايات المتحدة قبلهما.