التربية تبدأ من البيت ، بقلم : أ.د. أفنان دروزة
الكل يدرك أن تربية الطفل تبدأ من البيت, وأن بذور شخصيته تتكون في الخمس سنوات الأولى التي تنمو وتترعرع في حاضنة البيت والأسرة, لتشكل فيما بعد صفاته التي يتسم بها, وأخلاقه التي يتخلق بها, وأعماله التي يمارسها, وعلاقاته التي يكونها مع الآخرين سواء أكانوا أهلا, أم أقارب, أم زملاء, أم أصدقاء, أم معارف, أم أحباب.
وهذا يعني أن البيت هو المنبت الأساسي للأخلاق, وأن الأسرة هي المسؤولة عن تربية الطفل وتعليمه قواعد السلوك والأدب والأخلاق, فهي التي تعلمه ألا يكذب, وألا يسرق, وألا يغش, وألا يعتدي على حقوق الغير, ولا يؤذيهم؛ وهي المسؤولة عن تعليمه مفاهيم الحلال والحرام, والمسموح وغير المسموح, والعيب واللائق وغير اللائق, والنظافة والنظام واحترام الآخرين وحقوقهم؛ وهي المسؤولة عن تعليمه قواعد الأخلاق والصفات الجميلة والمعاملة الحسنة مع الناس, مما سيؤثر لاحقا في صقل شخصيته وكيفية تعامله مع الآخرين, ومدى صلاحه وفساده في المجتمع.
البيت الصالح كالتربة الصالحة ومن المعروف أن البيت الصالح كالتربة الصالحة لا تنتج إلا أطفالا صالحين ومربيين وصادقين وخلوقين ومستقيمين, والبيت الطالح كالتربة الفاسدة لا تنتج إلا أطفالا كذابين وسراقين ومنحرفين ومعتدين على الغير آثمين.
لذا فإن أي استخفاف في البيت والإستهانة بتعليم مبادئ الأخلاق والآداب والنظام والاحترام على مستوى الأسرة سيكون استهتارا بالآداب العامة ومعايير المجتمع وحقوق الناس والصالح العام لاحقا.
فالطفل الذي تعود أن يكذب على أمه وأبيه إخوته وأخواته وزمرته منذ صغره سيتعلم أن يكون كذابا في تعامله مع الآخرين مستقبلا, والطفل الذي تعود أن يرمي القاذورات من شباك منزله ولم يقل له أحد من أفراد أسرته هذا عيب وهذا تصرف غير لائق, سوف يرمي الحجارة على الجيران عندما يكبر, وسوف يرمي التهم جزافا على الناس, وسوف يكتب الشهادات الكيدية لزملائه, وسوف يلفق التهم لهم ويؤذيهم باطلا وزورا وبهتانا, وسوف يخرب ويدوس ويعيث في الأرض فسادا وبين الناس ؛ وما كل ذلك إلا لأنه نشأ وتربى على الاستخفاف بحقوق الآخرين وكرامتهم, وسلك في بيته طريق الكذب والغش والخداع, لتحقيق مآربه الشخصية والهيمنة على إخوته وزمرته وجيرانه وأقاربه, مما جعله إنسانا مهزوز الشخصية يضر الآخرين دون أن يرى حرجا في ذلك, فالأساس الذي تربى عليه في الصغر يظل واحدا, ألا وهو الإستخفاف بحقوق الآخرين والإستهانة بهم وحقوقهم وكرامتهم والعمل على أذيتهم وضررهم.
وقد ينظر الأبوان إلى كذب طفلهم وسوء تصرفه على أنه شيء تافه ومجرد خيال وهمي أو نوع من الفهلوة يصدر عن طفل لم يبلغ الخامسة أو السادسة من العمر, وأكثر من ذلك فقد يعززونه ويكافئونه عليه كنوع من التحبب والإعجاب, ولكن هذا الكذب والتصرف غير اللائق قد لا يكون تافها بعد ذلك إذ سيخرب الطفل الكذاب مجتمعا بأكمله عندما يكبر وخاصة إذا احتل موقعا أو مركزا حساسا؛ مما سيعكس كذبه وسوء أخلاقه على أسرته ومعارفه وأهله وزملائه الذين يتعامل معهم وأصدقائه وأبناء شعبه.
والطامة الكبرى إذا ما أنيط لمثل هذا الشخص مسؤولية تعليم ناشئة في سن التكوين يتخذونه مثلا أعلى في قولهم وأفعالهم معتقدين أن ما يقوم به من تمويه وكذب ونفاق هو السلوك الصحيح وجزء من قواعد الأدب والأخلاق, وذلك لصغر سنهم وعدم تمييزهم بين الخير والشر والأسود والأبيض, أو لاقتدائهم بمعلمهم أو مديرهم وإعجابهم به.
وهنا سيكون التحطيم ليس فقد للفئة القليلة التي يتعامل معها وإنما للمجتمع بأكمله.
إن ما يفعله الأولاد من سوء تصرف في البيت وعدم إكتراث الوالدين لهم سوف يكون له أثره السيء في المستقبل على المجتمع ككل, فكذبة صغيرة قد لا تكون شيئا ذا قيمة في البداية, أو تستحق أن يلفت نظر الطفل إليها, ولكنها قد لا تكون كذلك في المستقبل, حيث أنها ستكبر وتعرش وتضر وتهدم كل ما حولها.
وما المصائب التي نراها أمام أعيننا في المؤسسات ما بدأت إلا بمثل هذه الأشياء الصغيرة التافهة, وما الكوارث التي تصيب المجتمع والناس إلا نتيجة لسوء الأخلاق التي تربى عليه الطفل في البيت والتي أخطرها الكذب والنفاق.
من هنا, فالبيت يظل هو الأساس في التربية, فإن كان صالحا فسينتج أطفالا صالحين وهذا ما يريده الجميع ويتمناه الجميع, وإن كان طالحا فسينتج أطفالا طالحين وهذا ما لا يريده الجميع ولا يتمناه أحد من العالمين.