كيف تتغلب على القلق ؟ بقلم : أ.د. أفنان دروزة
كنت قد نشرت مقالا عن القلق النفسي وعرفته بأنه الخوف المفرط من موضوع مجهول غير معلوم، وفرقت بينه وبين الخوف الخوف العادي العارض الذي يعاني منه كل الناس عندما يمرون بنفس الظروف، وضربت للقارئ مثل الجندي في ساحة الوغى الذي يخاف من الموت نتيجة سقوط القنابل والقذائف من حوله، ولكنه سرعان ما يعود إلى حالته الطبيعية عندما تنتهي المعركة ويرجع إلى أهله سالما، ليبدأ يعيش حياته بشكل طبيعي.
وبالتالي لا يصبح القلق النفسي مرضا إلا عندما يكون الخوف دائما في حياة الشخص لا يعرف له سببا محددا، وعندما يبدأ يؤثر في حياته تأثيرا سلبيا بشكل يعيقه من ممارسة أعماله اليومية، إذ أن مثل هذه المشاعر السلبية الدائمة تتحول مع مع الأيام إلى مرض أو مجموعة من أمراض تسمى بالقلق النفسي.
ولكن الله سبحانه وتعالى لم يخلق داء إلا وخلق له دواء ووضع سر معالجته في عقول الأطباء والراسخين في العلم حتى يكونوا هداية للناس، ووسيلة لتبيان الطريق الذي يؤدي إلى شفائهم.
ولعل القلق النفسي من الأمراض التي لم يعجز الطب أن يجد لها دواء وطرقا للتغلب عليها، ولعل أهم الطرق التي اتبعها علماء النفس الإكلينيكي في معالجة مثل هذا المرض ما يعرف “بالإقتران الشرطي” أو فك الارتباط السلبي، والذي فيه يقوم الطبيب ـ بعد جلسات من التحليل النفسي وإخراج الخبرات المكبوتة إلى حيز الشعور، وتحديد الموضوع الذي يسبب القلق ـ بربط هذا الموضوع بأشياء تستدعي المسرة والمشاعر الحلوة في نفس المريض بشكل أقوى من المشاعر السلبية الذي يثيرها الموضوع المقلق، ومع تكرار عملية الاقتران بين الموضوع السار والموضوع المقلق فتتغلب المشاعر السارة في النهاية على المشاعر السلبية الذي يسببها الموضوع المزعج؛ مما يقلل من شعوره بالخوف وأثره السلبي في نفسه، ومع مرور الأيام، ومع تكرار الاقترانات بين الموضوعات السارة المحببة إلى النفس والموضوع المزعج، يفقد الموضوع المزعج أهميته ولم يعد بمقدوره أن يحرك مشاعر الخوف السابقة التي كان يحركها، فالشخص الذي يقلق من الوحدة ـ على سبيل المثال ـ نحاول أن نشغل وقته في أشياء يحبها وهوايات يفضلها، ككتابة الرسائل إلى أشخاص يحبهم، أو العمل في الحديقة، أو مساعدة الآخرين، وبهذا تزداد ثقة بنفسه ويملأ وقته في أشياء يحبها؛ مما يبعد عنه مشاعر الخوف والقلق.
وثاني الطرق المجدية في التغلب على القلق ما يعرف “بمواجهة الموقف” الذي يخاف منه المريض وجها لوجه وعدم الهروب منه، فالشخص الذي يقلق من الأماكن العالية مثلا، نحمله على الصعود إليها والإكثار من تعريضه لها، فيجد نفسه أمامها وجها لوجه بشكل لا يمكنه التهرب منها.
ومع تكرار المحاولة يصبح المريض يألفها ويمارسها ويتدرب عليها، ومن ثم تزول مخاوفه منها أو قلقه اتجاهها، وتزداد قدرته على الصمود أمامها.
وهناك طريقة أخرى تسمى “تقليل الحساسية”، وفيها نحاول أن نقرب الموضوع الذي يخاف منه المريض القلق إليه شيئا فشيئا وعلى مراحل، فيتعرف على حقيقته ويدرك أنه ليس هناك سببا يستدعي الخوف منه، فالطفل الذي يخاف من الكلب ـ على سبيل المثال ـ، نبدأ بأن نعرض عليه صورة لكلب، ثم نعرض عليه فيلما لكلب يعيش مع عائلة وأطفال صغار في مثل سنه، ثم نريه كلبا حقيقيا من بعيد، ثم نقربه منه شيئا فشيئا إلى أن يألفه ويزول الخوف الذي كان يثيره في نفسه.
وثمة طريقة أخرى للتغلب على القلق تتعلق بتغيير طريقة تفكير المريض اتجاه الموضوع الذي يثير قلقه، وجعله يفكر “بطريقة عقلانية”، كأن يساعد الطبيب النفسي المريض أن يحدد الأشياء الذي يخاف منها، ويخصص الوقت الكافي للتفكير فيها، ثم يبذل الجهد في التعرف عليها وتمحيصها ومواجهتها، ثم يربط بين عوامل قلقه الحالية وخبراته الماضية التي كانت طبيعية اتجاه هذا الموضوع، مما يجعل المريض يقيم موقفه الحالي بسعة بال ورحابة صدر ويفكر بطريقة منطقية عقلانية، ويدرك أن مخاوفه لا أساس لها من الصحة وإنما هي وهم يجب أن يتغلب عليه، وبذلك يزداد قوة على إحداث تغيرات في أساليب تفكيره وطرائق معيشته وأساليب التعامل مع غيره، فالتفكير العقلاني يبدد مشاعر الخوف الوهمية لدى المريض.
التفريغ الانفعالي وهناك طريقة أخرى تعرف بطريقة “التفريغ الانفعالي”، كأن نجعل المريض يتحدث إلى أحد المؤتمنين من أهله أو أصدقائه عن كل ما يجيش في صدره من مخاوف وآلام بحيث لا يتركها حبيسة في نفسه تزعجه وتؤرقه، وإنما يجد لها متنفسا ومخرجا بدلا من تركها مكبوتة في أعماق نفسه.
ومن الطرائق الأخرى المجدية في التغلب على القلق، تهيئة الذات للطوارئ والمفاجئات واتخاذ وسائل الأمن والاحتياطات الكافية أمام المخاوف، فالأشخاص الذين يقلقون على ثرواتهم ـ على سبيل المثال ـ يمكنهم التأمين عليها وحفظها في حرز يجنبهم من القلق المستمر من فقدانها.
وهناك طرقا أخرى مفثيدة كالانهماك في العمل الدائب، وشغل النفس بما هو مفيد، ووضع أهداف بعيدة الأمد ليسعى إلى تحقيقها، وملئ الفراغ الموحش الذي يثير الشجون والمخاوف بأشياء محببة للنفس.
وقد يكون مفيدا أيضا لفت نظر المريض إلى من هم في مثل سنه كأصدقائه وإخوانه وأهله وأقاربه أو من له مكانة في نفسه بأنهم لا يخافون ولا يقلقون، إذ ليس هناك ما يستدعي الخوف؛ مما يشجعه على الاقتداء بهم وتبديد مخاوفه والمضي بنفسه قدما إلى الأمام.
وقد يكون من الوسائل أيضا، الإهمال والإنكار وغض الطرف عن الموضوع المقلق وعدم التفكير فيه ونسيانه على أمل أن يمر الأمر بسلام وتعود الأمور إلى مجاريها الطبيعية.
كذلك من المهم أن نشجع الفرد القلق الانهماك في الأعمال التي تترك في نفسه شعورا غامرا بالأمن والدعة والاطمئنان فتشعره بالثقة بالنفس والقوة والارتياح والسلام.
ولا ننسى أن الاسترخاء العضلي والفكري في أماكن جميلة محببة إلى النفس واستجرار التخيلات الجميلة من شأنها أن تساعد على التغلب على القلق.
كما أن وضع الأهداف الطموحة، وإقامة الصداقات المفيدة، والعيش بمشاعر الحب الجميلة، وتقبل الواقع والتكيف معه على أمل أن يحين الوقت المناسب لتغييره، وممارسة التمارين الرياضية في العراء، والإدراك أن الخوف حالة مؤقته سوف تزول مع الأيام، وأن الزمن كفيل بأن يحل أكبر مشكله، كلها أمور تساعد الشخص القلق التغلب على قلقه.
والأهم من هذا وذاك، التوجه إلى الله بقلب مخلص، والصلاة إليه، والدعاء، والإكثار من الذكر، وقراءة القرآن، والاستغفار، والتوكل، والإيمان القوي الراسخ بأن الله هو وحده القادر على تفريج الكرب، وإزالة الهم، وتبديل الحال بأحسن حال، وأن يجعل من عسر الإنسان يسرا ومن أمره رشدا.
فالإيمان القوي كفيل بأن يزيل أكبر قلق، ويعالج أكبر مرض، وعلينا أن نتذكر أيضا أنه حتى لو اتبع الطبيب النفسي الطرق النفسية في معالجة المريض، فعليه أن يقرنها بضرورة إيمان المريض بالله، وأنه هو وحده الشافي المعافي من أية علة ومن أي مرض، إذ لا شيء يعادل الإيمان الراسخ بالله.