حصل في بلاد الأمريكان ، بقلم: هند زيتوني
تلقيت رسالة هاتفية من صديقي الذي يحلم أن يأتي إلى بلاد العم سام الجميلة، أكد لي أنه يتمنى أن يحظى بفرصة للعمل، ولا مانع لديه أن يعمل في أي مهنة وضيعة، وينام على الرصيف؛ ليهرب من غلاء المعيشة والفقر والأمراض التي بدأت تفتك بجسده، وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره.
كتبت له لأوضح له أموراً كثيرة، المدن هنا آثمة كما يقول عنها الغرباء، لا تقرأ دعاءها في الصباح ولا ترتّل آية الكرسي قبل النوم. تسقيك الشامبانيا في حذائها الذهبي. تملأ جيوبك بالورق الأخضر أو الدولارات، كلون خضرتها الدائمة. ولكنني قرأت مرة بأنها عملة ملطخة بالدماء، ويجب أن أطهرها جيداً قبل أن أمنحها لأحد. نعم هم يتحدثون عنها، ولكن يتمنون الحصول عليها في الوطن الآن وأكثر من أي وقت مضى.
الغربة تسرق عمرك دون أن تشعر كلما اغتسلت في المساء، تتساقط أيامك ويبتسم منفاك على عفتك التي أصبحت تختلط بالشامبو المرتفع الثمن. لا أثر لصابون الغار هنا ولا أثر لعطر الشرق الذي نفدت زجاجته منك بعد وصولك بفترة قصيرة.
ستصبح مدمناً على (مس ديور)، و(إيڤ سانت لوران) اللذين كانت تتعطر بهما أنجلينا جولي ومادونا. أنا مثلك تماماً أيها الغريب خلعت أثوابي القديمة، وارتديت مدينتي الجديدة، تلك المدينة كانت ضيقة جداً، مع أنها فتحت لي أبوابها الواسعة قبل أن أمتهن صناعة السفر.
في المنفى أصبحت أمتهن صناعة الكتابة؛ لأكسر قيودي وألاحق الوحوش التي تخطط لقتلي منذ الولادة. كنتُ أتمنى أن أبدد سواد الكون بممحاة الحلم. وأن أهدّ جبال الحزن الجاثمة على صدر الوطن وأعيش هناك هانئاً في بلادي.
الأطفال هنا في بلاد العم سام يحملون الآن (الآي فون)، ويلعبون بهواتفهم لعبةً تهدد مصير العالم. يتدربون منذ الصغر على غزو البلدان الأخرى، بالإضافة إلى مشاهدة مباريات (الفوتبول) و(البيسبول)، ويستمعون إلى أغاني الراب، ويرسلون (مسجات) الحب منذ الصغر، والبنات جميلات، مبتسمات دائما، يعشقن الموسيقى الرومانسية والصاخبة أحيانا.
لا أكذب عليك عندما وصلت إلى هنا عشقت أغاني (M& M) وأغاني (برتني سبيرز)، أما الآن أسمع السيمفونية الخامسة لبيتهوفن أو سيمفونيات شوبان، وأتحول إلى زهرة مخملية ناعمة بعد أن تنتهي. ألا تعتقد بأن الموسيقا شفاء للروح المتعبة؟
المشكلة يا صديقي أنك في البلاد تتحدث مع من شئت بدون موعدٍ مسبق. تتحدث مع جارك الذي يعرف قصة حياتك كلها، كما تعرفها جارتي جيسيكا الآن. ولكن بالصدفة. بالرغم من الاختلاف الكبير الذي كان بيني وبينها في كل شيء، التقاليد، الدين، الهوايات، الثقافة، الأفكار، لا أدري كيف تحولنا من جارتين قريبتين إلى صديقتين حميمتين.
مؤخراً تلقيت خبر وفاة كلبتها (ميني) برسالة الكترونية مفصلة، وكأنها كتبتها بدموعها، وقد شعرت بأن فراقها كان نهاية العالم. وأكدت لي بأنها غير قلقة عليها الآن، فقد صعدت للجنان، وتلعب مع أصدقائها الكلاب في السماء.
أعرف تماماً بأن الكلاب هنا في هذه البلاد، هم الأصدقاء الأوفياء والمفضلون. وخاصة للأفراد الذين يعيشون بمفردهم أو علاقاتهم الأسرية غير متينة وخالية من الألفة. الكلاب هنا يعيشون مرفهين كالملوك، يأكلون اللحوم والأسماك المعلبة الطبيعية والخالية من المواد الحافظة، ويستحمون بشامبو خاص وماء نظيف. لهم حدائق خاصة وأطباء يشرفون عليهم بشكل روتيني. أما كلابنا الضالة تمشي في الشوارع القديمة تبحث عن الطعام في سلال القمامة. وإن وجدت كحيوانات أليفة في البيوت لا تنال كل تلك الرعاية والاهتمام، فالمواطن العربي الآن يكون محظوظاً لو وجد وجبة واحدة متكاملة الفائدة ليقدمها لأسرته.
تعرفت على جارتي جيسيكا في أحد الأيام بعد عودتي من عملي، كنت قرب صندوق البريد أمام البيت. كانت تسكن مقابلي تماماً، تأملتني للحظةٍ، ثم اقتربت مني وسألتني قائلة وهي ترسم ابتسامة عريضة على وجهها: مرحبا، اسمي جيسيكا، أنا جارتك في المنزل المجاور. أود أن أدعوك إلى فنجان من الشاي في بيتي. قلت لها بكل سرور، سأكون متوفرة السبت المقبل.
التفتتَ إليّ وقالت: في الحقيقة، لقد قابلت زوجك الشهر الماضي، إنه شخص رائع. كما تعلمين أصحاب المنازل يجتمعون مرةً كل شهر من أجل الاجتماع الشهري، حيث يتحدثون عن صيانة المنطقة والبحيرات و المحافظة على المنطقة السكنية التي تحيط ببيوتنا، ونناقش أموراً كثيرة أيضاً. شكرتها، وبدا عليها السرور، لأنني قبلت الدعوة. بدت لي إنسانة اجتماعية، وتحب الغرباء. تبددت مخاوفي من الفكرة التي كانت بمخيلتي بأن الناس في هذه البلاد لا يحبون أن يختلطوا بأحد وخاصة الأجانب. ذهبت لزيارة منزلها المجاور الذي يبعد عن منزلي خطوات، وأخذت معي هدية جميل،؛ كانت عبارة عن حلَقٍ من الذهب وقليلٍ من البخور.
كان منزلاً فارهاً، جميلاً، وأنيقاً، وكل قطعة أثاث فيه عبارة عن قطعة فنية. فهي سيدة ثرية، عملت لإحدى المؤسسات الأمريكية وجمعت ثروة جيدة. هناك تحفة فنية في أنحاء المنزل تبين أنها جمعتها من خلال زيارتها لجميع مدن العالم المهمة.
بعد أن بدأنا الحديث تعجبت من طلاقة لساني باللغة الإنكليزية، وسألتني كيف تعلمت اللغة بهذه السرعة وأتقنت اللهجة أيضاً؟ ثم استطردت: أنت تقودين مركبة جميلة أيضاً. ابتسمت وحاولت أن أشرح لها بأنني أحمل إجازة في اللغة الإنكليزية وأعمل في مدرسة قريبة. ولكن أمطرتني بوابل من الأسئلة المتلاحقة: هناك في بلادكم هل تقودون السيارات أم…؟ أم أي وسيلة أخرى؟
ابتسمتُ، ثم تحولت ابتسامتي إلى قهقهة وأردفت: هل تقصدين بالوسيلة الأخرى الجِمال أو الأحصنة؟ ثم أردفتُ ممازحة: كنت أقود جَملاً صغيراً عندما كنت في الجامعة، وأربطه في عمودٍ قريب، ثم أدخل المحاضرة. والجَمل ينتظرني ولا يتحرك من مكانه. جِمالنا مخلصون لنا ويسمعون الكلام. ضحكت جسيكا من قلبها وقالت بلهجة ودودة: أشعر بأنك تمزحين أيتها الجارة الظريفة.
هتفتُ بنبرة عالية: المشكلة في إعلامكم المشوّه يا عزيزتي؛ عندما تأتي سيرة العرب هنا في أي برنامج أمريكي، يظهرون الجِمال والنساء الغارقات باللباس الأسود من الرأس إلى أخمص القدمين، والرجل الملتحي بعباءة قصيرة، وستة من الأطفال الذين تجرهم الزوجة خلفها. أو يسلطون الضوء على جماعة إرهابية، وهي تهم بقطع مجموعة من الرؤوس. أليست هذه الحقيقة؟
تضرج وجهها بالدماء- خجلاً- وقالت: عذراً، فأنا لا أعرف الكثير عن الشرق الأوسط سوى أنه منطقة مشتعلة بالحروب والفقر. وكما أنني قرأت عن الزواج المرتب، بمعنى أنكم تتزوجون بعد النظرة الأولى فقط، أو ترتبط الأنثى برجل لم تره في حياتها إلا ليلة العرس. فقد قرأت رواية الأميرة (The princess) كتبتها جين ساسون، وهي قصة حقيقية توضح مدى اضطهاد الأنثى في الشرق الأوسط/ وخاصة السعودية. وكذلك روايات خالد حسيني الكاتب الأفغاني الجميل. يجب أن تقرئي رواياته كلها، لأنها تحدثت عن ظلم المرأة المسلمة في أفغانستان. فقد جمعت معظم معلوماتي عن طبيعة العلاقات الأسرية في العالم الشرقي من هذه الكتب.
ابتسمتْ ثم سألتُ: وماذا أيضاً؟ فتابعت جيسيكا: عرفتُ أنكم لا تشربون الخمر، ولا تأكلون الخنزير. ولكن هذه ليست مشكلة؛ هناك بعض الأمريكان لا يشربون، ولا يأكلون إلا (kosher food)، لأنهم يعتنقون الدين اليهودي. أي طعامهم قريب جداً من طعامكم.
ولكن ماذا تفعلون للتسلية في بلادكم؟ وماذا تفعل النساء غير المتزوجات؟ أقصد بما أنكم بلاد محافظة جداً لا تشربون ولا تدخنون ولا تخرجون في المساء إلى سوهو لملاقاة حبيب لطيف في البار. أجبت بهدوء هناك الكثير من الأنشطة التي ممكن أن تنشغل بها النساء مثل الخياطة والكتابة والتدريس والعمل في كثير من المجالات، والزواج ليس هو النهاية الحتمية لكل فتاة، ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار، بأن الوقت قد تغير يا سيدة جيسيكا، لم تعد البلاد متشددة كثيراً كما تعتقدين؛ فأغلب صديقاتي سافرن إلى أوربا منذ عقدين من الزمن للدراسات العليا والدكتوراه، وأغلبهن كانت لديهن مركبات يأتين بها إلى الجامعة. وكن يرتدين ثياباً تواكب الموضة والأناقة، ولا يوجد أحد يربط (جَمَلهُ) في العمود في الخارج قبل الدخول إلى المحاضرة.
شعرت جسيكا بالخجل قليلاً، وتأسفت لطرحها تلك الأسئلة الساذجة. وأردفت: بلاد الشرق الأوسط بلاد جميلة، ولكن تتقدم ببطءٍ شديد. أومأت برأسي ثم قلت: أعلم أن بلادكم بلاد متطورة جداً وغنية بثرواتها وهذا ما عرفته من البرامج التي رأيتها عبر وسائل الإعلام. وفي كل بلد من العالم هناك الخير والشر، وكذلك هناك الأفراد الجيدون المفيدون للمجتمع، وهناك من يشوه الصورة بشكل من الأشكال. وفرق الإرهاب موجودة في كل مكان في العالم؛ فهناك مافيات مسلحة في إيطاليا، ونازيون في ألمانيا، وعصابات مخدرات خطيرة في روسيا، وفرق عنصرية في أمريكا مثل فرقة الإرهاب الـ (K k k) أو (الوايت سوبراميسيست) العنصرية، والذين ما زالوا لهذه اللحظة يبقرون بطون السود ويطاردونهم لمجرد أن لديهم بشرة سوداء. ولا نتحدث عن اضطهاد المكسيكان الذين تدعونهم تشيكانوا وتمنعونهم من الدخول إلى البلاد. وأحيانا يقبعون في السجون بسبب الهجرة غير الشرعية.
أعرف أن بلادكم احتلت الكثير من البلدان، وقتلت الملايين بلا سبب مقنع وسببت دماراً اقتصادياً كبيراً.
قالت جيسيكا: ولكن نحن مجرد أفراد مسالمين، وهناك فرق كبير بين الشعب الأمريكي اللطيف والحكومة والسياسة التي لا شأن لنا بها ولا نستطيع أن تتحكم بقرارتها.
تقبلت جيسيكا كلامي بتفهم ولم يبدُ عليها الاستياء. وحاولت أن تبرر تلك الدعايات بالإعلام المغرض والبغيض، وبأنها أيضاً ضد تلك البرامج المسيئة وضد التصريحات العنصرية التي أدلت بها الصحفية الأمريكية عام 2003 (Ann coulter) التي كانت سيئة جداً ضد العرب، حيث قالت جملتها المشهورة: “ليس كل مسلم إرهابي ولكن كل إرهابي مسلم، وعلى كل عربي أن يركب السجادة السحرية أو يمتطي جمله ويغادر بلادنا”.
مضى على صداقتنا أكثر من عقدين ونصف من الزمن، و لم أبق في مدينة (أورلاندو) التي تقيم بها جارتي إلا خمس سنوات، ومع ذلك لم تنقطع الزيارات والمكالمات الهاتفية حتى الرسائل البريدية، وتبادلنا الهدايا وبطاقات المعايدة، وأرسلت لها الكثير من أكلاتنا الشرقية التي أعجبت بها كثيراً وتمنت أن تتقنها مثلي.
كنت أقول لها أنت تفضلين يا جيسيكا أن تفتحي علبة حساء معلبة على أن تقضي ساعتين في المطبخ لصنع الكبة أو الدولما، أو ربما تخرجين شريحة من السلمون المدخن وتضعين عليها ورقة خس خضراء للتتناوليها للعشاء. أعرف أن الوقت ثمين لديكم. وهذا هو سر تقدمكم على العالم أجمع. كان زوجك يدعوني بالقديسة؛ لأنني أرتدي غطاء الشعر، وألبس الأكمام الطويلة في صيف فلوريدا الحارق. لقد تعلم كلمة (صباح الخير)، وأصبح يقولها في الصباح عندما يراني أمتطي مركبتي للذهاب للعمل. كان رجلاً لطيفاً، مع أنه- كما سمعت- رجل عنصري من الجنوب (من تكساس)، ولا يحب الأجانب وخاصة العرب.
لقد أكدتِّ لي على مدى الأيام أنك تحترمين تقاليدنا، ولكن من الصعب جداً عليك أن تتقبليها أو تطبقيها. فقد نشأت في بلاد الحرية منذ زمن بعيد. لا أكذب عليك- تقول جيسكا-؛ أنني تغيرت كثيراً منذ أن عرفتك، وأصبحت أهتم بأولادي أكثر من قبل. أرسلت لابني مايكل أدوات جديدة لتنظيف حديقته، لأنه بلا عمل الآن ومعاش الإعانة الذي خصصته الحكومة لا يكفيه وشعرت بالحزن لأجله. أشكرك جداً لأنك فتحت عيني على مواضيع مهمة جداً لم أكن مهتمة بها مثل حب الأبناء والسوال عنهم. لقد اشتريت لابنتي سارة حقيبة يد هدية عيد الميلاد. شعرت أنني مقصرة بحقها بعد الحديث معك عن العائلة. هل تعرفين بأنني لم ألتق بابني جورج منذ عيد رأس السنة الماضي؟ لقد افتقدته كثيراً، ولكن للأمانة أفتقد كلبتي (ميني) التي صعدت للسماء، آه كم تركت فراغاً في قلبي وروحي! لقد كانت تملأ حياتي بالفرح.