يخوض عدد من أسرانا الأبطال في سجون الاحتلال الإسرائيلي الغاشم إضراباً احتجاجياً عن الطعام منذ فترة ، نظراً لاعتقالهم غير المشروع ، ولما يقع عليهم من ألوان التعذيب النفسي والمعنوي والجسدي ، وما يتعرضون له من سلب الكرامة الإنسانية وسوء المعاملة ، وما يعيشونه من أوضاع سيئة وظروف حياتية مهينة ، وما يعانونه من تردي الحالة الصحية الناجمة عن سوء التغذية والإهمال الطبي المتعمد ، فتحية إعزاز وإكبار نبعثها إلى أسرانا البواسل في زنازين القهر وسجون الاحتلال ، إلى النخبة والطليعة من هذا الشعب الصابر المصابر المرابط دفاعاً عن أرض فلسطين ومقدساتها وثوابتها ، إلى الذين اغتال الاحتلال الغاشم حريتهم ظلماً وعدواناً وإمعاناً في استهداف أبناء شعبنا وهويتهم ووجودهم .
إنهم الأحرار الحقيقيون الذين ضحوا من أجلنا ، واعتقلوا وهم يدافعون عنا وعن كرامة وشرف الأمة بكاملها ، وصنعوا فرحة نصرنا من أعمارهم وسنين حياتهم ؛ فهزموا الجلاد بصبرهم وثباتهم ، وقهروا السجان بإرادتهم وصلابتهم ؛ حتى وهم في أقبية الظلم والقهر ، فسلطات الاحتلال الإسرائيلي تسلبهم الحقوق التي اكتسبوها بنضالهم المتواصل ؛ وبدماء الشهداء منهم . إن إضرابهم الذي يخوضونه في معركة الحرية والكرامة جائز شرعاً وليس محرماً كما يتفلسف ويتفذلك بعض المفتين ، بل إنه ممدوح من رب العالمين الذي قال { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين } براءة 120 ، فإضرابهم هذا هو الوسيلة الفعالة والأكثر تأثيراً على السجان المحتل الظالم ؛ وهو الأسلوب الذي يحيي قضيتهم العادلة ويساعدهم في نيل حقوقهم ، ويوصل صوتهم إلى المجتمع الدولي الصامت ، وهو نوع من أنواع الجهاد المشروع ، والجهاد مفهوم واسع وكلمة جامعة تشمل كل صور السعي وبذل الجهد والكفاح ؛ واتّباع كافة الوسائل المشروعة في سبيل تحقيق الأهداف النبيلة التي يسعى إليها ، وعرفه العلماء بأنه بذل الوسع في مدافعة العدو باليد أَو المال أو اللسان أو بالرأي والتدبير فيما فيه نفع ؛ وبكل ما يُطيق من وسائل أخرى ممكنة ، فللمجاهد أن يستخدم الوسيلة المتوفرة والأدوات المتاحة .
وتتحمل سلطات الاحتلال الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن أي ضرر يلحق بحياتهم ؛ فإن استشهد أحد منهم لا سمح الله فهو كمن يستشهد في ساحات الوغى ، وتعتبر سلطات الاحتلال القاتل الحقيقي لهؤلاء الشهداء ؛ وهذه جريمة حرب تضاف إلى سلسلة جرائمها ضد شعبنا الفلسطيني التي ينبغي أن تلاحق عليها قضائياً وقانونياً لدى المحاكم الدولية .
إن معركة إضراب أسرانا الأبطال عن الطعام في سجون الاحتلال الإسرائيلي هي معركة الأمة بكاملها فهم يخوضونها ليس من أجل قضيتهم الشخصية ، بل من أجل جميع أسرى الحرية في سجون الاحتلال الإسرائيلي وبالأخص من حكموا إدارياً ومن حكموا بأحكام عالية وبالمؤبدات العديدة أو بمدى الحياة ، ومن أجل من ستعتقلهم سلطات الاحتلال لاحقاً ؛ فصراعنا معها طويل ومرير ، ونوقن أنها لن تتوقف عن اعتقال أبنائنا إلا إذا وقفنا لها بالمرصاد .
إن الإنسان الفلسطيني الذي اغتيل وشرد واعتقل هو جوهر قضيتنا العادلة ، والاهتمام به من أهم ثوابتها ، فهذا الإنسان هو الذي سيحقق الأهداف النبيلة والمشروعة لشعبنا بدحر الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال ، وبيديه سيبني أركان دولته ومؤسساتها المدنية . لذا فتحرير هؤلاء الأبطال من أقبية الظلم والظلام لا يكون بتركهم وحدهم في معركة الحرية والكرامة ، فالعمل السياسي والدبلوماسي والجماهيري لتحريرهم لا يجوز أن يكون موسمياً ، أو أن يكون لازمةً نكررها في خطاباتنا السياسية فحسب ، وإنما عمل متواصل بحيث لا يهدأ لنا بال إلا بتحريرهم جميعاً ، وأن نضع قضيتهم على رأس سلم أولوياتنا جميعاً قيادة وحكومة وشعباً ومؤسسات :
1- فحق علينا نصرتهم ومؤازرتهم في معاركهم العادلة التي يخوضونها لإيصال صوتهم إلى العالم ، ولفضح الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان التي يقترفها الاحتلال بحقهم ، وحق علينا ألاَّ نفتّ في عضدهم ، فهذا مما سيمنحهم مزيداً من القوة والصبر لتحقيق النصر ، فقضيتهم قضيتنا ، وحريتهم حريتنا ، فلا عذر لنا في تركهم وحدهم ، ولا يُقبل منا أن ننعم بالحرية وهم أسرى ، أو نرضى بالسلامة وحياتهم في خطر حقيقي ، فمن يتخلف عن مؤازرتهم أو يقعد عن مساندتهم فهو آثم كإثم التخلف عن الجهاد ، قال تعالى { لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } النساء 95 .
2- وحق علينا رعاية أسرهم وأهليهم وذويهم ، وزيارتهم وتكريمهم ودعمهم ، ومواساتهم في مشاعرهم وعواطفهم ومواقفهم ، وقضاء حوائجهم تحقيقاً للتكافل والتراحم والتعاطف الذي أمرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فهذا فرض علينا لأنهم أمانة في أعناقنا ، فأسرانا الأماجد لا يقلون تضحية عن الجنود المجاهدين المقاتلين الذين قال صلى الله عليه وسلم فيهم { من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا } رواه مسلم .
3- وحق علينا بذل غاية الجهد لتخليصهم من نير الأسر بكل الطرق الممكنة ، فالعمل على إطلاق سراحهم من أغلال الاحتلال توجيه رباني ونبوي ومطلب وطني التزاماً بقوله صلى الله عليه وسلم { فكوا العاني } رواه البخاري ، والعاني هو الأسير ، واستجابة لإجماع علماء الأمة على أنه إذا وقع في يد العدو أسير مسلم أو ذمي ؛ وجب على المسلمين جميعاً من أهل المشرق والمغرب أن يعملوا على استعادة حريته بكل الطرق الممكنة ، حتى من أموالهم ولو نفدت جميعها ولم يبق منها درهم واحد ؛ فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
4- الحذر من تجاهل قضية الأسرى المقدسيين ؛ فهو يعني نفي وطنيتهم وتجاهل مدينة القدس المباركة كعاصمة لدولتنا الفلسطينية ، فمعاناتهم مضاعفة ، حيث تعاملهم سلطات الاحتلال الإسرائيلية معاملة السجناء الإسرائيليين الجنائيين ، وتعتبر سجنهم والأحكام الصادرة بحقهم شأناً داخليّاً ، وأن ما قاموا به من نشاطات سياسية جنحاً أمنية وخروجاً عن القانون الإسرائيلي ، لذا لا تقبل إدخالهم في صفقات تبادل الأسرى ، أو في إطار المفاوضات السياسية ، ولا تعطيهم حقوق أسرى الحرب ، ولا تمنحهم امتيازات السّجناء الإسرائيليين ، بل تتعامل معهم بنفس الأساليب الوحشيّة وغير الإنسانيّة التي تعامل بها بقيّة الأسرى الفلسطينيين ، وتطلق الأحكام الجائرة ضدهم ، وتحرمهم معظم الحقوق التي اكتسبها الأسرى الفلسطينيون وحصلوا عليها بعد نضالهم المرير واحتجاجاتهم وإضراباتهم . وتمنعهم إدارة السجون الإسرائيلية حصولهم على المخصصات المالية المقدمة لهم من السلطة الوطنية الفلسطينية . وتعزلهم عزلاً قسرياً تاماً بفصلهم عن بقية الأسرى الفلسطينيين ؛ في خطوة خبيثة تهدف إلى كسر الوحدة الوطنية وتفريق الجسد الفلسطيني الواحد ، وتمنعهم الالتقاء بممثلي وزارة شؤون الأسرى الفلسطينية بدعوى أن لا علاقة للسلطة الوطنية الفلسطينية بهم .
فعلى المفاوض الفلسطيني الإصرار على وضع الأسرى المقدسيّين وبالأخص القدامى منهم على رأس قائمة الأسرى المفرج عنهم في إطار عمليّات التبادل ، وعليه الضغط والعمل الجدي لحل قضيتهم ، فمعظمهم اعتقلوا وهم في طريقهم إلى المسجد الأقصى المبارك للصلاة فيه والدفاع عنه ، وحمايته من إجراءات التهويد ومؤامرة الهدم والتقويض ، والوقوف بالمرصاد للجماعات اليهودية المتطرفة التي تحاول اقتحامه .
5- وقبل هذا وذاك فإننا ندعو السيد الرئيس محمود عباس ـ بعد اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين دولة لها صفة المراقب ـ الإيعاز إلى من يلزم من المسؤولين المختصين الأكفياء والمخلصين بالتوجه فوراً إلى سويسرا لتوقيع اتفاقيات جنيف وملحقاتها وبالأخص المتعلقة بالأسرى ، ومن ثم تدويل قضية أسرانا الأبطال باللجوء إلى المحاكم الدولية المختصة ، فقد اختطفهم الاحتلال من بيوتهم بتهمة مقاومته خلافاً للقوانين والاتفاقيات الدولية ، وزج بهم في معتقلات النسيان ، فهذه الخطوة من أهم الخطوات التي ستضع حداً لسلطات الاحتلال الإسرائيلي ولجرائمها ضد الشعب الفلسطيني ، فتصويت معظم دول العالم لصالح عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة أمل جديد لنا يبشر ببدء تغير موقف المجتمع الدولي من الفلسطينيين وقضيتهم العادلة وتحوله إلى نصرة الحق وأهله .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً