في كل عام تحتفل الفصائل الفلسطينية بشتى أنواعها بذكرى انطلاقاتها، احتفلت الجبهة الشعبية واحتفلت حماس وستحتفل فتح قريباً، وكل فصيل يرى في احتفاليته استفتاءً على شعبيته، فيحضر ويحشد لهذا الإحتفال ليستعرض قوته الشعبية، وفي ظل هذه الظروف الإقتصادية والسياسية الصعبة كان الأولى بالفصائل أن ترشد احتفالياتها وتجعل من هذه المناسبة وقفة للتقييم والمراجعة الداخلية، ومؤتمراً لمراجعة النفس يستعرض فيه المؤتمرون المسيرة خلال هذا العام المنصرم، يقفون فيه على الأخطاء والإخفاقات، وعلى النجاحات والإنجازات المتحققة، ويضعون برنامج عمل للعام القادم، يتلافون فيه الأخطاء ويردمون فيه حفر الإخفاقات، ويعلون فيه من سقف الإنجازات. وعلى الرغم من صعوبة التوقعات في عالم السياسة المتقلب وخاصة في منطقتنا، الاّ أنه من الواجب أن يعلن كل فصيل برنامج عمل للعام القادم، يحدد فيه الأهداف التي ينوي تحقيقها مترافقةً مع برنامج زمني لتحقيقها، ويضع فيه سقوفاً للإنجازات الوطنية التي سيحققها، فشعبية كل فصيل ترتبط بإنجازاته الوطنية وليس بالإنجازات الشخصية للفصيل. وما يميز الإحتفاليات الفلسطينية هو الخطب التي تتغنى بالنصر والنجاحات على الرغم من أن الشعب لم يلمس هذه الإنتصارات ولم يعش نتائجها على الأرض ولم يلمس تأثيرها على حياة المواطن الفلسطيني والحالة الوطنية الفلسطينية التي تتراجع يوماً بعد يوم، والمعاناة الفلسطينية التي تتراكم مع مرور الزمن.
ولنعد الى موضوعنا عنوان المقال وهو مناسبة الإنطلاقة التي تتميز بها حركة فتح (حركة التحرير الوطني الفلسطيني)، ويعود تميزها عن غيرها من أنها هي من علق الجرس لكل الفلسطينيين المشردين والمحاصرين، وأعلن الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، وأطلق الرصاصة الآولى نحو المعتدي، ودشن هذه الإنطلاقة عملاً وفعلاً سابقاً للقول بعملية نوعية فاجأت العالم عدواً وصديقاً وأخاً، والذي أدرك وركن الى أن الهوية الفلسطينية باتت مشطوبة من الخارطة الديمغرافية للعالم. وأن الشعب الفلسطيني نسي قضيته الوطنية ومعاناته منذ بدايتها الى يوم الإنطلاقة. وتعايش مع وضعه الجديد بعد النكبة، وكانت بحق انطلاقة وطنية خالصة تعبر عن ضمير الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده داخل الوطن في قلب الكيان الصهيوني وفي أراضي الضفة الغربية وخارجه في المنافي والمخيمات. وكانت هي الإنطلاقة الحقيقية التي يتوجب الإحتفال بها على مستوىً شعبي وطني فلسطيني، وذلك لإذكاء الروح الوطنية الفلسطينية الموحدة الواحدة في همها الوطني. وإثارة الذكريات الوطنية الفلسطينية المتلاحمة الموحدة في مشاعرها دون انقسام أو تشرذم، والإلتفاف الشعبي الكلي (الفلسطيني والعربي) حول هذه الحركة النقية الطاهرة بعد انطلاقتها وظهورها للعلن، وولادتها ومجيئها الى هذا العالم الذي كان يحاصرها ويتآمر عليها ويجهضها كلما شعر ببوادر حملها وذلك لطمسها من الوجود، وكانت باكورة انطلاقة ثورة الفلسطيني المشرد المنفي ممثلة بِ عملية عيلبون، أول عملية بتاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة بنهاية عام 1964م ، قامت بها قوات العاصفة التابعة لحركة فتح، حيث قامت المجموعة بتفجير نفق عيلبون وأدت العملية إلى إصابة جنديين إسرائيليين، وتدمير نفق عيلبون، وأعلن عنها بتاريخ 1/1/1965م كحدث هام وهو إنطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وأتت العملية ردا على إسرائيل لانها كانت تقوم بسحب مياه نهر الأردن. وقالت عنها رئيسة وزراء اسرائيل غولدامئير “لقد هبت علينا عاصفة من الشمال”. ورد عليها مؤسس حركة فتح الشهيد الزعيم الخالد في ذاكرة الشعب الفلسطيني والعربي والإسلامي ياسر عرفات “إنها العاصفة الفتحاوية التي ستحرق الأخضر واليابس”. وقال عنها الزعيم الخالد في الذكريات العربية جمال عبد الناصر ووصفها بأنها أنبل ظاهرة عرفها التاريخ. حيث كان التخطيط والعمل والفعل يسبق القول في زمن الإنطلاقة. وكان المخطط والمؤسس والفاعل نخبة من أبناء فلسطين البررة، نخبة متعلمة تعليماً عالياً ومثقفة وواعية في عصرٍ من الجهل والفقر، ولو لم ينتهجوا طريق الكفاح والنضال والجهاد من أجل الوطن، لكانوا اليوم من أغنياء العالم العربي. لقد حملوا على كواهلهم الهم الوطني، وتحملوا تكاليف التأسيس من جيوبهم ومن مدخراتهم. ويصدق فيهم قول الله عز وجل “من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً” وهل أبلغ من هذا القول في هؤلاء الرجال العظام الذين آثروا المصلحة الوطنية العليا على المصالح الشخصية الدنيوية. وكانت حياة كل فرد منهم قصة لحياة بطل وطني تستحق أن تكون مادة لمسلسل وطني طويل يروي للأجيال أسطورة الانطلاقة الوطنية العظيمة لتكون درساً وطنياً لكل إنسان على وجه هذه الكرة الأرضية.
أكتب كفلسطيني عاصر هذه الثورة المعاصرة، تثير فيه هذه الذكرى (ذكرى الإنطلاقة) المشاعر الوطنية الملتهبة، والحنين الى ماضٍ جميل من المفترض فيه أن يؤسس لحاضر أجمل، وبالتوازي لهذه المشاعر الوطنية الحميمية وبكل أسف فهي تثير في الشجون الوطني لما عاصرته ورأيته من إنقسام فلسطيني يخدش هذه المشاعر الوطنية الصافية الخالصة ويؤذيها، ويثبط من نارها المتأججة في النفس، فينغص عليها سعادتها في هذه الذكرى العطرة الطيبة.
لقد كانت إنطلاقة فتح انطلاقة لكل فلسطيني وطني يحمل الهم الوطني في فؤاده وفي عقله، وإعلان للثورة الفلسطينية، لذلك فهي تتميز عن غيرها من الفصائل، ونعيش اليوم على منجزاتها وتضحياتها، وكل فصيل فلسطيني معاصر ولد بعد ولادة فتح، كان الشقيق الأصغر لها في الإطار الوطني الفلسطيني “منظمة التحرير الفلسطينية” التي أسسها الشعب الفلسطيني بقيادة المرحوم المناضل “أحمد الشقيري” بدعم من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. وإرتضى الشعب بهذا الإطار الوطني الجامع الشامل والتف حوله بكل جوارحه. ومن شذ عن هذا الإطار فقد ولد من رحم غير فلسطيني، ولا يمثل الشرعية الفلسطينية الا بدخوله في هذا الإطار الوطني راضياً مرضياً به، وواضعاً نصب عينيه الأهداف الوطنية الفلسطينية، وبعيداً عن كل التجاذبات المغناطيسية الإقليمية والدولية، لأنه سيكون موجهاً في حركته وتحركاته ببوصلة غير وطنية، وعليه تصحيح المسار واستبدال البوصلة.
كغيري من الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم، عشقت فتح في فكرتها وأهدافها الوطنية النقية الخالصة، والتي تخلو من كل شائبة تبعية، وفرحت بولادتها كفرحي بولادة ابني البكر الذي كنت متلهفاً لقدومه وأنتظره على أحر من الجمر، وأحببتها في طفولتها الجميلة، وفي مراهقتها الثائرة الرشيدة، وهمت بها في شبابها المتألق، وأكبرت مؤسسيها وباعثيها فكرة تتحقق على أرض الواقع وتحمل العلم الفلسطيني، حيث كان الفلسطيني قبل انطلاقتها بمثابة الإبن الذي تيتم من والديه الفلسطينين وهم أحياء، حين ضاع منهم يوم النكبة، وأصبح يتيماً لا راعي له، هائماً على وجهه، ولما انطلقت فتح كان اللقاء بين الطفل اليتيم ووالديه، وكانت الفرحة العارمة من الطفل ووالديه بعد الضياع والشتات، واكبت فتح يوم أن كانت ترعى شقيقاتها الصغار في إطار منظمة التحرير، وتعنى بهم وتراعيهم وترعاهم، وتمدهم بالدعم والمساندة على كل الصعد، وكانت حينذاك الوحدة الفلسطينية في غابة من البنادق على أرض المعركة عسكرياً وسياسياً، واليوم ماذا أقول لفتح وقد أكملت عامها الثامن والأربعين، حيث بدأت تدخل في مرحلة الكهولة، وبدت آثار الزمان تظهر على ملامح وجهها:
إنها مرحلة الكهولة والنضج في علم الأرقام فقط يا فتح الفكرة، ولكن كلما ظل القلب ينبض في صدر الإنسان، فهو إعلان بأنه يعيش الحياة بحلاوتها وسعادتها ومرها وكدرها، فلا بد له من التجديد والتحدي لقهر عاديات الزمان وزحفه الى النفس والنيل منها، ولا بد له من أن ينفض غبار التقدم بالسن عن ملامحه، وأن يحارب ويقاوم الشعور المحبط بالشبخوخة عن نفسه، ولا يستسلم له أبداً ما زال القلب نابضاً بالحياة، وعليه أن يتشبث بشعاع وبصيص الأمل مهما كانت خيوطه ضعيفة وواهنة، وأن يستحضر شبابه وحبه للحياة بكل ما فيها من ارتفاعات وانخفاضات، ويستدعيه في كل لحظة تمر من الزمن. مستنيراً بقول الحكيم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ” إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”. ولكن كيف يتم ذلك:
يتم ذلك برفد الحركة وتجديدها بالعناصرالشابة، وتدريبها على القيادة وتحمل المسئولية الوطنية، وإعطاء الشباب دوراً قيادياً تحت الرعاية الحكيمة المجربة، لتظل الحركة تعيش على نبض قلب شاب وتهتدي بهدي عقل حكيم وخبير مجرب، وتدافع عن أهدافها بقوة عضلات الشباب، وخفة حركتهم، وتأجج وطنيتهم، وتستنير بحكمة الكهول وتجربتهم ووعيهم، حتى لا تجد الحركة نفسها في يوم من الأيام (لا بد آتٍ) بدون رأس أو قيادة إن مضت القيادة راجعة الى ربها. فيفقد الهرم رأسه، فينشأ الخلاف والفوضى بين فئات القاعدة الشعبية على وراثة الهرم في صراع بين وطني خالص النية وكفءٍ وبين وطني شائب الوطنية وغير كفء وباحث عن سلطة وشهرة بنية وطنية مشوبة بغبار الرياح الإقليمية والدولية، فينتصر غير الكفء ومنقوص الوطنية بمقدراته المادية ونفوذه على الوطني الكفء بنية وطنية خالصة، فتصبح الأمانة ضائعة من رأس الهرم، وتضيع الطاسة في القاعدة، وتحدث الصراعات البينية داخل الحركة، فتتبعثر اللحمة وتتشرذم المؤسسة، وأن تعمل الحركة على تماسك التنظيم بكل فئاته وطبقاته الهرمية، وتلاحم القاعدة العريضة مع الرأس المتجدد الرشيد لهرم التنظيم، وأن تضع الحركة في فكرها الأصيل وفي أجندتها تحرير الإنسان والأرض كأولوية آولى مهما كانت مغريات المناصب الخادعة في السلطة الوطنية الفلسطينية أو في غيرها من المواقع، لأن الجمع بين السياسة الدراجة اليوم في ظل الإحتلال وتحت تأثير المعادلات الدولية والإقليمية، وسياط الركود الإقتصادي يعرض البنية الوطنية للخدش والتشكيك وأحياناً الى سوء السمعة حتى لو كانت النوايا حسنة خالصة، وأن يتم ترسيخ وتبادل الثقة بين القمة والقاعدة، وذلك لتجنب جلد الذات والتشكيك بالقيادات وبوطنيتها، وأن تكون الحركة موصلة جيدة للتيار الوطني بدون عوازل بين فئات التنظيم، وأن تعمل الرقابة والمراجعة الداخلية، والنقد الذاتي البناء والحوار الحضاري الهادف في جو ديمقراطي مريح لكل المكونات الحركية الفتحاوية وأنصارها.
هذا ما يمكن قوله في ذكرى الإنطلاقة، إنطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة بإنطلاقة فتح وجناحها العسكري قوات العاصفة، والتي يعيش اليوم ويقف مجاهراً بالحق الفلسطيني على قاعدة منجزاتها وتضحياتها كل الفصائل الفلسطينية التي ولدت بعدها، وما حركة فتح الاّ امتداد للعمل الوطني الفلسطيني منذ بداية النكبة، ولكن فتح بفكرتها ونهجها كانت نقطة تحول استراتتجي في النضال الفلسطيني، وأحالت الملف الفلسطيني الى صاحب الحق الشرعي الأصيل، ومسك الملف الفلسطيني أيدٍ فلسطينية وطنية بعد العبث فيه من الأيادي العربية والإقليمية والدولية المغرضة. وتتنفس الفصائل الفلسطينية من هواء الإنطلاقة المنبعث من الروح الوطنية التي هبت كالبلسم على القلوب الفلسطينية، وما زالت تهب تارة قوية وتارة ضعيفة طبقاً للحالة السياسية والعسكرية، حيث استطاعت الفصائل الفلسطينية الوليدة بعد فتح التعبير عن وطنيتها والجهر بها بخطب نارية صاروخية مقذوفة تجاه العدو، وهم يقفون على الأرض الفلسطينية التي عادوا اليها بعد أن كانوا محرومين منها، وبعد أن كانوا مكبلين بالواقع السياسي العربي والدولي والإقليمي ومستسلمين له ولإرادته. فكانت الإنطلاقة التي فتحت أفواه الفلسطينيين وحركت ألسنتهم مطالبة جهراً بدون خوف أو وجل بحقوقها ومعبرة عن وطنيتها. وكل ذلك نتيجة لنضالات متراكمة منذ بداية المعضلة الى يومنا هذا وكانت هذه النضالات في أقصى شدتها وارتفاعها وذروتها وتحقيق منجزاتها الوطنية في زمن ما بين بداية الإنطلاقة عام 1965م الى عام 1982 م. واشتد الصوت الوطني الفلسطيني وآتى أكله في انتفاضة عام 1987م. وتكللت نتائجه اليوم في الذكرى الحالية التي نعيشها وذلك بالإعتراف الدولي الأممي الكاسح بدولة فلسطين القادمة رغم أنف الجميع. ولو لم تكن الإنطلاقة لما كان هذا التحول في رصيد الرأي العام العالمي وتعاطفه يميل ويتصوب ويصب لحسابنا الوطني والقومي ولصالح حساب شعبنا العاجل والآجل، مأخوذاً ومنقوصاً من حساب العدو ورصيده الآني والمستقبلي الآيل إلى زوال بفعل تحولات البداية والانطلاقة العظيمة للثورة التي جسدت روحها وقيمها انطلاقة حركة “فتح” في 01/01/1965م ولا زالت تسجل انجازاتها الوطنية والقومية على طريق تحرير الأرض والإنسان واستعادة الحقوق المغتصبة وتحقيق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال وبناء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.