جزء من روايتي هناك في شيكاغو ، بقلم : هناء عبيد
سعادة غريبة بدأت تبهج قلبي عندما رأيت أشكالًا هندسيّة مربّعة ونقطًا متلألئة تظهر من خلال النّافذة، المشهد كان غريبًا أو مذهًلا بعض الشّيء، حينما قصرت المسافة بين الطّائرة والأرض بدأت المربّعات بالوضوح شيئًا فشيئًا، فتحّولت إلى بيوت تتوسّط أحياء تفصلها عن بعضها شوارع متقنة التّنظيم، العمارات الشّاهقة والأضواء الملوّنة الّتي كثيرًا ما كانت تبهرني في بطاقات المعايدة وصور المجلّات تمتثل أمامي الآن من خلف النّافذة، منظر مدهش يبعث على الابتهاج، أخيرًا لامست عجلات الطّائرة أرض مطار “أوهير” أكبر مطارات العالم، أنا الآن هناك، أو هنا في شيكاغو.
في مطارِ أوهير
ربمّا كان هبوط الطّائرة من أمتع اللّحظات الّتي مرّت عليّ خلال الرّحلة، أخشى التعلّق بين السّماء والأرض وسط غيوم مجهولة المصير، أظنّ جميع الرّكاب أسعدتهم ملامسة عجلات الطّائرة لأرض المطار، فقد قاموا بالتّصفيق الحادّ عند الهبوط، الرّحلة طويلة، مرهقة، خاصّة إذا رافقتها ثرثرة مملّة، ربّما أخطأت حينما لم آخذ كتابًا في رحلتي، خرجنا من الطّائرة، وكأننا انعتقنا من علبة ضيّقة مغلقة. دخلنا عبر نفق طويل ينتهي بصالة واسعة تضمّ أعدادًا كبيرة من مختلف الجنسيّات، وجوه لا تتشابه، ملامح مختلفة، ألوان متعدّدة، ربّما من الصّين أو كوريا أو الهند أو بريطانيا، كنت أشعر بدوار غريب، أنا الآن على الجانب الآخر من الكرة الأرضيّة، تتملّكني أحاسيس متضاربة، خوف، رهبة، سعادة، فضول، هي لحظات عجيبة تضمّ كلّ قواميس المشاعر.
تمّ تقسيم المسافرين إلى قسمين، قسم لمن يحملون البطاقة الخضراء والجنسيّة الأمريكيّة، وقسم آخر لبقيّة الزوّار، أنهيت أوراقي وكلّ ما يلزم من إجراءات، كانت ترافقني في كلّ الخطوات سهاد، قمت بمساعدتها بالتّمكن من اتّباع تعليمات موظّفي المطار، كنت أترجم لها كلّ ما يطلبه الموظّفون منها، إضافة إلى المعاملات الورقيّة، كانت تشعر بالاطمئنان بقربي، هكذا أخبرتني.
تتّجه الأجساد نحو الحزام المتحرّك للحصول على حقائب السّفر الّتي تحمل بعضًا من وطن، تعابير الوجوه تختلف من شخص إلى آخر، بعضها يظهر استقرارًا وشعورًا بالأمان، وبعضها يشير إلى الدّهشة، لم تختف علامات الحزن من بعضها الآخر، ربما يتحكّم في تعابيرها الخوف من المصير المجهول، أو الشّعور بالأمان في بلد الأحلام، أو الحنين إلى أحباب ما زالت رائحتهم عالقة في الذّاكرة.
عثرت بعد جهد على حقيبتي الموسومة بعلم فلسطين، وضعتها في العربة، انتظرت سهاد حتّى وجدت حقيبتها، في صالة الاستقبال لم تنتظر سهاد طويلًا، ودّعتني، وتركت في قلبي حزنًا، لاحقتها بنظراتي حتّى تشابكت يدها مع رجل يبدو في السّبعين من عمره، تملأ وجهه بسمة مشرقة، لوّحت لي بيدها، ثمّ اختفت عن أنظاري، كنت تائهة أحاول التّعرف إلى عمّي، بحثت عن ملامح تشبهني، أظنّ أن السّنين لا تمحو الملامح مهما كثرت خيوط الزّمن الّتي ترسم وجوهنا، ربّما يستطيع الزّمن أن يغيّر المشاعر، لكنّه يعجز أمام ملامحنا، مشاعر متوازية كانت تتملّكني، سعادة التّواجد في عالم جديد، وحنين العودة إلى دفء قديم، ترى هل سيحمل عمّي لافتة تحمل اسمي كما كان يفعل والدي حينما كان يستقبل العمالة القادمة من الهند أو باكستان؟ أظنّها فكرة جيّدة، لكنّها مؤلمة حينما تصدر من الأقارب، الغربة حزن وألم، تعالى صوت الموظّفة وهي تذكر اسمي، توجّهت إلى مكتبها، هناك رأيت عمّي لأوّل مرّة، ارتسمت على وجهي بسمة، وفرّت دمعة.