“محاضرة في المطر”.. تنتصر لـِ”ألف ليلة وليلة” ، بقلم : أفين بشار
علينا هنا أن نُنصت للكاتب المكسيكي، خوان بيورو، وإن لم نكن أمام أسطورة “البجعة” التي يقال إنّه ليس بإمكانها رفع صوتِها الأجشّ بالغناء، عدا مرّة واحدة قبل غرق الصوت في بحر الصّمت.
يُصيِّر بيورو المطرَ في روايته “محاضرة في المطر” كشفاً يمكّن الإنسان من إخراج مخبّآت ذاته وتجاربه؛ إذ ينوي المحاضر إعطاء محاضرة، فيستعدّ ذهنيّاً لها ويحضِّر أوراقها، يضيّعها ويطيب له إضاعتها. فيقطع استعداده حضور سربٍ كثيف مما يريد بثَّه؛ فتنكشف روح المحاضر بشرودِه، ويبدو متلهّفاً لتفريغ ما طوته نفسه واستدبرته من تأمّلات وماضٍ.
فينتهي بذلك صوت السّارد وتتبدّل هيئةُ القصّ لتبدأ المحاضرة بتقنية “الميتافكشن”، في محاولة الإجابة عن سؤال: “كيف يعكس البشر خبرتهم بالعالم في الأدب دون أن يطلبوا منّا الإنصات لهم؟”؛ محاضرة كأنّها محاولة في مغادرة المألوف في تشكيل هذا النَّص، فما المحاضرة؟ هل هي أكثر من كشف يجاهر فيه المحاضر سريرة ذاته وقاع لا وعيه باستدعاءات ذاكرته التي استأصلَتْه من استعداده لمحاضرة فعلية؟ ولماذا علينا تجاوز النص الظّاهر للوصول إلى محاريب معنى النص ودلالته؟ فالنموذج اللغوي هنا غطاء للمعنى أو حقل لاستنباط المعنى أو القصّ الماورائيّ.
في المطر، إذ يشكّل المطر في المادة الحكائيّة دلالةً تأمّليّةً ونفسية؛ يظهر المحاضر بوصفه أمين مكتبة غارقاً في عالمه يكاشف حقيقة ذاكرته وذاته؛ نتلقى من خلال حالة “النوستالجيا” أو الإيقاع العاصف بداخل المحاضر درساً عن القراءة؛ ما معنى أن نقرأ؟ وهل يمكن أن نجعل القراءة فعلاً مزيَّفاً أو “قراءة مغشوشة” على حدّ تعبير أمير تاج السّرّ في كتابه “ذاكرة الحكّائين”؟ إذ إنّ صورةَ الفئران “على الأقلّ، تمضغ الكتب ولا تدّعي قراءتها” مغايرةٌ لصورة القراءة الخاطئة أو المُزيّفة المعنيّة في الكتاب.
كتابٌ غذّاه الاستدعاء؛ استدعاء الماضي والذكريات المختزنة كأنّها أمطار هطلت بحيويّة في وديان وعيه، استدعاء الشخصيات الذين تبدّلت صورتهم عند المحاضر وعلاقتهم به بفعل القَص أو السرد؛ بما فيها الشخصيات الهامشيّة: تكوين شخصيّة والده، ولم تكن هامشيته في النص إلّا دلالة على جدليّة العلاقة بين الأب وابنه، ذلك الحضور الفيزيائي الذي ظلّ بعيداً عن الانغماس في الحياة. استدعاء أكثر الأشياء حساسية: الحب المُتعطّش إلى المطلَق، استدعاء كثيف مثل ضباب الصّباح لقراءاتِه التي تشكّل في الكتاب مرجعيّةَ تَطوّر وعي المحاضر/القارئ؛ حسبَ تعبير باتريشيا ووه، فإنَّ هذه الاستدعاءاتِ “تربطُ النَّصّ المدوَّن بنصوصٍ أخرى تحضرُ في النّصّ بوصفِها صيَغاً ما ورائيّة تأتي من حقولٍ معرفيّةٍ أو ثقافيّة”. ثمّ استدعاءُ موروثاتِ الشّعوب ومرويّاتها: الجحيم، شهرزاد والليالي، الرّقْم 7 ذي الرّمزيّات اللانهائيّة.
وباعتبار القراءة في “محاضرة في المطر” وسيلةً وعلامةً كبرى يكشفُ من خلالها المُحاضر عن زواياه وإدراكه العالمَ وتجاربه؛ فإنّ “ألف ليلة وليلة” التي تعدُّ في الكتاب “قراءتها طريقةً من طرائقِ الحبِّ” قد حضرت مُنتصِرةً! فبعدَ استعارة المحبوبة غير المُختارة لاورا “الليالي” وموت مينديبيل، يعود الكتاب الضخم لمِلكيّة مكتبة عامّة. فما معنى أن تنتقل “ألف ليلة وليلة” نهايةَ القصّ إلى ملكيّة مكتبةٍ عامّةٍ؟
كان لِـ”ألف ليلة وليلة” تأثيرٌ بالغٌ في أدب أميركا اللاتينيّة، ولعلّ خوان بيورو يحيل إلى ذلك الاهتمام بالليالي الذي ساهم في تكوينِهم الأدبيّ، والحضورِ الذي فتحَ أُفقاً جديداً أمام كُتّاب أميركا اللاتينيّة ونفخَ في قصصهم شيئاً من الحياة، وشكَّل جزءاً من ثقافتهم، وتعدّ الليالي (حدّ تعبير المكسيكيّ أكتافيو باث) أحدَ أكبر الأعمال الإبداعيّة للتّراث الثّقافيّ القديم، ذلك الحضور الذي عدَّهُ بورخيس لا نهايةَ له كما عنوان الليالي الدّالّ على “اللانهاية”.
هو كتابٌ في المطرِ أو ذاكرةُ المطرِ، إثارة شجنِ الذّاكرة في المطر؛ لا محاضرة عن المطر، محاضرةٌ في المسافةِ الفاصلةِ بين المحاضر ومحيطِه، “وبينَ الفكرةِ والمعنى”، حسبَ تعبير غريماس دلوتمان.