ثقافة القراءة : غذاء للعقل والروح ، بقلم : سناء حسن أبوهلال
استوقفتني الإعلانات والدعوات في الآونة الأخيرة لزيارة معرض فلسطين الدولي للكتاب الذي يقام على أرض المكتبة الوطنية الفلسطينية، حدث يعتبر من الأحداث السنوية المهمة في هذا البلد المحاصر، ولعله من الأحداث القليلة التي تقام على أرض الوطن ويشارك فيها جهات من خارج فلسطين، دور نشر عربية من عدة دول، اختلاط للثقافة واللهجات واللغات في صورة لم نعهدها كشعب محاصر محروم من استقبال الثقافات المختلفة العربية والأجنبية إلا من خلال تنسيقات وإجراءات معقدة كبيرة ومكثفة وضمن إطار رسمي محدد، فأنت عندما تسير في شوارع أي عاصمة عربية تسمع العديد من اللهجات العربية من لهجات بلاد الشام أو الخليج العربي أو المغرب العربي، وبشكل يكاد يكون مألوفاً في تلك الأماكن، وهو شعور جميل لمن عاشه، في حين نفتقد هذا الشعور في وطننا، ونستغرب إن مررنا بشارع أو مكان وسمعنا لهجة مغايرة لنا.
وعودة على ذي بدء فمعرض للكتاب يعني دعوة للقراءة، فأنت تتخيل نفسك قد دخلت إلى مكان تشتري فيه ما يغذي روحك وفكرك، كما تدخل إلى أي سوق أو سوبرماركت لتغذي جسمك بالمواد الغذائية، وتستمع فيه لبعض الندوات والمحاضرات التي ترتقي بوعيك وفكرك وكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً، فالقراءة غذاء للروح، ونمو للفكر، بالقراءة ترتقي أفكارنا وتتطور، ومن خلالها نكتسب اللغة والمفردات، وعن طريقها نغوص في أعماق الثقافات، فقد كانت القراءة وما زالت الهواية صاحبة المكانة العالية، وينظر لصاحبها بشيء من الجلال والهيبة، ولعل هنالك من يعتبرها أمراً أساسياً من أساسيات الحياة وليست مجرد هواية ثانوية، فالهواية في نظرهم أمر ثانوي في الحياة في حين أن القراءة تكسب الفرد قيمته الإنسانية وتطور فكره وتهذب وجدانه، وتعرفه بالعالم المحيط به، فكيف وهي بهذا الحال أن تكون أمراً ثانوياً!
للقراءة أهمية كبيرة في بناء الأجيال وتأثير إيجابي على الفرد والمجتمع بشكل عام، فهي تعمل على رفع الثقافة والمعرفة، حيث تساهم الكتب والمقالات والمواد الأدبية والعلمية في توسيع آفاق الأفراد، وزيادة معرفتهم بالعالم وبالمواضيع المتنوعة. ولعل من الفوائد المهمة والمتعارف عليها للقراءة أنها تسهم في تطوير مهارات اللغة، فهي تساعد في تحسين مهارات القراءة والكتابة، وهذا يؤثر بشكل إيجابي على التواصل والتعبير الشفهي والكتابي، وتعزز هذه المهارات قدرة الأفراد على التواصل بفعالية، وتشجع على التفكير النقدي والتحليلي فينشأ الفرد على تقييم المعلومات واستنتاج الأفكار الرئيسية والتفاصيل الهامة، وبالقراءة ينمو الخيال والإبداع لدى الأفراد، حيث تعمل على توسيع مخيلتهم وتطوير قدرتهم على إبداع الأفكار وتصور العوالم الخيالية. وهي على هذا النحو تؤدي إلى تحسين مستوى التعليم والتحصيل الأكاديمي، وإذا تم تشجيع الأطفال على القراءة منذ صغرهم، فإنهم يكونون أكثر تفوقًا في المدرسة ويتطورون أكثر على مستوى التعليم لامتلاكهم أداة اللغة بشكل أكبر مما يمكنهم من الاتصال والتواصل والتحليل والاستنتاج وبناء التنبؤات وتقديم الأفكار الإبداعية باستمرار.
وعلى الجانب الاجتماعي فالقراءة تسهم في تعزيز الوعي الاجتماعي لدى الأفراد، فمن خلال قراءة الكتب والمقالات عن مواضيع متنوعة مثل التاريخ، والثقافات المختلفة، والقضايا الاجتماعية، يمكن للأفراد أن يفهموا العالم بشكل أفضل ويشاركوا بفعالية في المناقشات الاجتماعية، كما أن لها دوراً مهماً في بناء القيم والأخلاق بالاستفادة مما تحمله القصص والروايات من قيم وأخلاق عالية واتجاهات إيجابية، وبالتالي ينشأ الفرد نشأة سوية ويحمل قيماً إيجابية حول ذاته ومجتمعه. مما يسهم في بناء مجتمعات أكثر تطورًا وتقدمًا.
وقد شهدت ثقافة القراءة تطورات كبيرة بين الماضي والحاضر، وذلك بفضل التقدم والتطور التكنولوجي في زمننا الحالي، فالوصول إلى المواد القرائية في الماضي كان محدودًا بسبب عدم وجود وسائل التكنولوجيا الحديثة، فقد كان على الأشخاص الاعتماد على المكتبات المحلية والكتب المطبوعة، أما في وقتنا الحالي وبفضل التقدم التكنولوجي، أصبح من السهل الوصول إلى الكتب والمقالات والمواد القرائية عبر الإنترنت، ويمكن للأفراد الآن قراءة الكتب الإلكترونية والمدونات والأخبار على أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية بسهولة ويسر، فأصبحت كتب المكتبة محملة على رفوف سحابة إلكترونية ضخمة، وليس على رفوف خشبية فقط.
في الماضي كانت القراءة نشاطًا هامًا في حياة الأفراد، فقد كانوا يخصصون وقتًا أكبر للقراءة والتفكير في مواضيع مختلفة، وتحليل محتوى ما يقرؤون، وقد نشأ أغلب الجيل السابق على وجود مكتبة في داخل بيته، وعلى وجود حصة مدرسية مخصصة للقراءة تحت مسمى “حصة مكتبة”، وعلى هدايا الكتب والقصص والروايات في المناسبات الخاصة، وهذا ما جعل ثقافتهم أكثر اتساعاً ولغتهم أكثر نضوجاً وعمقاً، وبالمقابل في أيامنا الحالية ومع تزايد مسببات التشتت والانشغال، انخفض مستوى القراءة لدى معظم الأفراد، وقد يكون لوسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية دور كبير في التأثير على ثقافة القراءة في العصر الحاضر، فقد أصبح الناس يقضون وقتًا أكبر على مواقع التواصل الاجتماعي والقراءة السريعة للمحتوى القصير، مما أثر على قدرتهم على قراءة الكتب والمواد الطويلة. كما أن لهذا النوع من القراءة محاذيره الهامة، فرغم توفر المحتوى المقروء بسهولة ويسر إلا أنه يجب على الأفراد أن يكونوا حذرين وانتقائيين فيما يتعلق بالمصادر التي يقرؤونها.
ومع ذلك لا يزال هناك العديد من الأشخاص الذين يحتفظون بعادات القراءة الجيدة ويعتبرونها جزءًا مهمًا من حياتهم، ولكن التكنولوجيا وتغيرات العصر قد أثرت على كيفية ممارستها وأساليبها، ويأتي هنا دور المربين من معلمين وأولياء أمور بمساعدة الطلبة في عملية انتقاء المواد القرائية سواء كانت ورقية أو إلكترونية، ومراقبتها، وتقييم أهميتها وجودتها، وهذا عبء كبير ومسؤولية عالية وخاصة في ظل وجود عالم افتراضي مفتوح على كل عوالم المعرفة المختلفة، وسهولة وصول الطالب له في أي وقت.
وفي تحليل سريع لما نلاحظه من عزوف عن القراءة وخاصة في فئة الطلبة فيلاحظ أن لذلك أسباب عديدة منها: تطور التكنولوجيا ووسائل الترفيه الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي وتوفر الألعاب الإلكترونية الرقمية، ونمط الحياة السريع في الوقت الحالي، وقلة الحماس للقراءة نظراً لعدم التعود عليها، ونقص التشجيع والتحفيز من قبل الأسرة والمدرسة والمجتمع، وتغير الأذواق والاهتمامات بين الأفراد بشكل عام، بالإضافة لضيق الوقت والانشغالات الشديدة في أمور الحياة.
ولعل من الإيجابي والمبشر بالأمل لتطوير ثقافة القراءة بين طلبتنا هو التخطيط الحالي من وزارة التربية والتعليم بإيلاء الاهتمام بمفاهيم القرائية، وتعزيز ثقافة القراءة، والاهتمام بالمكتبات المدرسية والصفية، إلى جانب تشجيع المشاركة في المسابقات المحلية والدولية مثل مسابقات تحدي القراءة. لما لذلك من دور في تعزيز ثقافة القراءة بين الأجيال الجديدة.
وخلاصة القول لا بد من تشجيع القراءة منذ الصغر، وتوفير الوصول إلى مكتبات جيدة، وتقديم الكتب والمواد القرائية التي تناسب اهتمامات الطلبة وتحفزهم على القراءة، وترفع من جاهزيتهم اللغوية والمعرفية. وهي دعوة في الختام لكل مهتم لإيقاد الشرارة الأولى لدى الأبناء ومنحهم بعضاً من الوقت في زيارة معرض الكتاب الدولي والمكتبات المختلفة، وحتى الوقوف على عربات الكتب المنتشرة على أرصفة الشوارع، وتدريب الطلبة على آليات الانتقاء والتمييز بين الغث والسمين مما هو معروض. وختاماً كلمة شكر لمن زرع فينا حب القراءة من آباء ومعلمين.