5:17 صباحًا / 23 نوفمبر، 2024
آخر الاخبار

صياغة الحياة بين الشغف والواقع ، بقلم : إبراهيم الشاعر

صياغة الحياة بين الشغف والواقع ، بقلم : إبراهيم الشاعر

صياغة الحياة بين الشغف والواقع ، بقلم : إبراهيم الشاعر

في مطلع كل عام دراسي، وبعد صدور نتائج الثانوية العامة، نتسابق نحن التربويين والأهالي على تقديم النصائح والإرشادات للطلبة ونغرقهم بالمواعظ، احيانا تكون ايجابية واحيانا أخرى سلبية، لكن ربما ننسى أننا نخاطب جيلا متنورا، جيل الثورة الصناعية الرابعة وجيل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، كما نتجاهل أحيانا أخرى ميول هؤلاء الطلبة ورغباتهم وقدراتهم … لماذا هذا الكلام؟

قبل أيام كان لي حوار شيق مع شاب من الناجحين بتفوق في الثانوية العامة، يتذمر من كثرة الواعظين الذين أغرقوه بالتحذيرات والقصص المحبطة، لإقناعه بعدم جدوى دراسة الهندسة المعمارية التي يحب.

قال ذلك الشاب بالحرف الواحد: “أنا أحب الهندسة المعمارية وأحب الرسم والفنون المعمارية، والكل ينصحني بعدم دراسة الهندسة لأنها تخصص راكد، لكن اذا درست ما لا أحب لن انجح لا دراسيا ولا عمليا”.

بهذا الكلام طرح الشاب قضية جوهرية تتعلق بحسن اختيار التخصص المناسب والجامعة المناسبة وقيمة الشهادة الجامعية بعد التخرج، أنا دائما أقول بأن الشهادة الجامعية مهمة وهي عبارة عن مدخل وباب للوصول إلى العمل المناسب، لكنها ستكون بلا قيمة في حالتين:

الحالة الأولى: إذا تم اختيار المجال أو التخصص الذي لا يلبي الرغبة والميول. وهذا ما تثبته تجارب المبدعين والمتميزين، على سبيل المثال، ستيف جوبز، عبقري شركة آبل ومؤسسها، أكد دائما على أنه حقق الإبداع والتميز لأنه كان يحب كل ما درس وعمل … ببساطة اذا لم تكن تحب ما تقوم به وتشعر بالمتعة لن تستطيع الاستمرار ولا المثابرة وستنسحب عند أول صعوبة، فالشغف في أي عمل هو الذي يشحن الانسان لكي لا ييأس عندما يواجه التحديات، وهذا ينسجم مع معادلة منطقية تقول بأن الانسان لا يبدع الا فيما يحب، ولا يحب الا ما يعرف، ولا يعرف الا ما يفهم ولا يفهم الا ما يتعلم. بمعنى أن الجسر ما بين الابداع والتعليم هو الفهم والشغف.

أما الحالة الثانية: إذا لم نستطع بعد التخرج استعمال العلم والمعارف والمهارات المكتسبة، لتطوير الذات وخدمة المجتمع وخلق أثر ايجابي، فهناك أخلال تحدق برسالة الحياة. سأل رجل المهلب بن أبي صفرة (الذي كان حكيما وفقيها وقائدا مشهورا ايام الامويين): كيف نجحت وبلغت ما بلغت من مركز رفيع؟ رد عليه بهذا الجواب البليغ الحكيم: إنما أدركت ذلك بالعلم وحده، فقال الرجل: ولكن غيرك لم يصل إلى ما وصلت إليه وقد تعلم أكثر مما تعلمت؟ فقال المهلب: ذلك لأنني استعملت علمي ولم أحمله، بينما حمله غيري ولم يستعمله.

هذا الطرح الذي يحترم ميول الطلبة ورغباتهم وقدراتهم لا يتناقض بالضرورة مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات سوق العمل واستشراف المستقبل الوظيفي، لكن يتعين أن لا يكون ذلك على حساب شغف المتعلم، كما يتعين ألا يكون فجأة دون تمهيد في المراحل المدرسية الأولى، بحيث يتم مساعدة الطلبة مبكرا على تفجير مواهبهم ومواطن تميزهم واحتضانها ورعايتها وتوجيهها من خلال برامج مدرسية رصينة، ومن خلال خلق مسارات علمية وأدبية وتقنية تناسب الفروق الفردية، بالإضافة الى تنوير الطلبة وارشادهم بالتنسيق مع الجامعات مبكرا ليحسنوا اختيار تخصصاتهم بصورة مناسبة ومتنورة.

كما أن هذا ينسجم مع دعوة القرآن الكريم الى السعي وراء العلم النافع للبشرية وليس فقط ما يرتبط بمردود مادي عاجل أو بوظيفة جامدة، فالآية الكريمة “اقرأ وربك الأكرم” (العلق: 3)، وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس: 5). كما قال تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: 43). آيات تشدد على أهمية تحصيل العلم النافع من أجل العلم ليكرم الله المتعلم بالنهضة والتطور والعزة والكرامة في الدنيا والأخرة، وهذا ضمان لاطلاق العنان للعقل والخيال وضمان عدم قتل الشغف أو إماتة القلب. وهنا نستذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال:” مَنْ تعلَّم علْمًا ممَّا يُبْتَغى به وَجْهُ الله عز وجل لا يَتَعلَّمُه إلا لِيُصِيبَ به عَرَضًا من الدنيا، لمْ يَجِدْ عَرْفَ الجنة يومَ القيامة”. لهذا تصطاد الدول المتحضرة الطلاب الموهوبين وتتخير المتميزين وترعاهم وتوجههم الى شغفهم ليبدعوا، لأنها تدرك أن النخب هي التي تقود.

طبعا هذا لا يعني بأي حال من الأحوال تجاهل البيانات الاحصائية أو المؤشرات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء أو مراكز التخطيط حول احتياجات سوق العمل من المهن المختلفة والموارد البشرية والمهارات التدريبية، ولا يعني أيضا أن تتراخى الجامعات في تطوير برامجها وتخصصاتها بما يتواءم مع سوق العمل، فهذه حقوق فردية وجمعية لتعزيز التنمية والتطور. وبالتوازي مع كل ذلك يجدر بالمنظومة التعليمية، وخصوصا الجامعات، أن تبين للطلبة بأن الحياة الجامعية ليست فقط معارف، وإنما هي مهارات رقمية ومهارات شخصية ومهارات حياتية، كما يتعين عليها أن تواكب العصر في تجديد تخصصاتها بما يستخرج الأفضل من طلبتها ويخدم المجتمع والبشرية جمعاء.

والأهم من كل ذلك يتعين بناء سياسة تعليم وطنية سواء على المستوى التخطيطي أو التنفيذي تضمن رعاية الأطفال الموهوبين والمتفوقين لصناعة عقول ابتكارية إبداعية، بالإضافة الى وضع عقد اجتماعي لمؤسسات القطاع العام والخاص والمجتمع المدني يضمن حماية هذه المواهب بإعتبارهم ثروة حقيقية للمجتمع، وبالتالي من الواجب أخلاقيا ووطنيا تقدير عقولهم وابداعاتهم والحرص على صون حقوقهم الأساسية من خلال منحهم الفرص المناسبة بالعمل بعد التخرج لضمان العيش الكريم.

انطلاقا من قناعتي برأي جون ديوي الشهير بأن “التعليم ليس استعدادًا للحياة، إنه هو الحياة ذاتها”، أكاد أجزم بأن اتباع الشغف أولى من المال، لأن الشغف يمثل الطاقة الكامنة التي تدفع الانسان نحو إنجاز ما يحب، وليس من المنطق أن نجبر أي انسان على كبح شغفه في الحياة، أو أن نعلمه ماذا يتوجب عليه أن يحب أو يكره.

ربما يجادل البعض بأن هذا الرأي مثالي الى حد كبير، لكنني أقول بأن التجربة الانسانية تؤكد بأن من يحالفه الحظ بالعمل في ما يحب غالبا ما يثابر ويتميز ويبدع، وتلقائيا يكسب المال، وكما تقول الأعلامية الشهيرة أوبرا وينفري: “اتبع شغفك، افعل ما تحب، والمال سيتبعك. أغلب الناس لا يصدقون ذلك، ولكنها الحقيقة.” وهذا يؤكد أهمية أن يستثمر الانسان كل ما لديه من طاقات كامنة ومواهب من أجل أن يخلق لحياته العملية رونقا تحكمه الجاذبية ويحركه الشغف ليصوغ حياته كما يشاء وليتقن سياسة الحياة في مسيرته التعليمية والمهنية، وليكون قويا منتجا مبدعا متميزا في حياته.

شاهد أيضاً

الصحفي حسن أبو قفة

استشهاد الصحفي حسن أبو قفة في قصف إسرائيلي على النصيرات وسط قطاع غزة

شفا – استشهد، مساء اليوم الجمعة، الصحفي الفلسطيني حسن أبو قفة ونجله عماد بعد غارة …