خطاب مرسي بعيد عن إرادة الثورة، وبعيد عن الحس الديمقراطي الذي أوصله للرئاسة، فالديمقراطية لا ترضى أن يمثلها حزب بأبعاد دينية مفرغة من الهمّ الوطني والبعد المؤسساتي المدني وبدستور توافقي يتقبله الشعب بنسبة تفوق 70% ، فمرحلة تأسيس دولة المؤسسات وبناء قواعد الديمقراطية يحتكمان لمعيار التوافق.. لا لمنطق الأغلبية مقابل الأقلية الذي يكرره مرسي في خطاباته الشللية الحزبية
في كتابه (ما الثورة الدينية.. الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة) وبتوصيف دقيق لمظاهر الأزمة والتصدع التي هزت بنيان الحضارات الشرقية الكبرى والمختزنات الروحية والفكرية الكبيرة يصور داريوش شايغان المفكر الإيراني الحضارات التقليدية إزاء فشلها في مواجهة الحداثة بأنها تقف في مرحلة بين بين، بين ماض لن يعود كما تهوى وتشتهي، وبين مستقبل لا تستطيع اللحاق به”، وكأنه بهذا التوصيف يصقل لنا المرآة أمام تخبط الحكومات الدينية في البلدان العربية بعد وصولها للحكم جراء ثورات شعبية وبأداة الثورات المجيدة” الديمقراطية”..
مفهوم الديمقراطية يعد ألزم مفردات الحداثة، لكنه سجل في تلك البلدان ارتداداً غير مسبوق يوازيه عنف وهمجية وتسطيح وتغليف رجعي، وبين الديمقراطية وحقوق المواطنة تغيب مفاهيم الدولة المدنية لصالح الدولة الدينية الحزبية الضيقة بعد استخدام أهم منافذ الحداثة؛ “الديمقراطية”، ومن ثم انقلاب عليها وإنكارها!!
ولا غرو فحتمية التاريخ تثبت أن رجعية البنى الذهنية المتشددة لايمكن أن تشكهل مواطنة مدنية حديثة تشاركية تؤمن بانطلاق الحقوق في رحاب الإنسانية؛ مفتوحة الآفاق..
جماعة الإخوان المسلمين يعرفون الدولة الدينية بشكلها المتطرف الذي يؤمن بأن شرعية الملك تأتي من الحق الإلهي المقدس في الحكم” الحاكمية” وحلم دولة الخلافة الإسلامية، كان ولا يزال، هدفا رئيساً لكافة تيارات الإسلام السياسي، بل إن جماعة الإخوان المسلمين قامت بالأساس عام 1928 كرد فعل لقيام كمال أتاتورك في عام 1924 بإعلان انتهاء الخلافة العثمانية، وشروعه في تأسيس الدولة التركية الحديثة على النمط الغربي.. وبذا فهي في خط عكسي لاتجاه بوصلة الحداثة ومفهوم المدنية.
وقد جاء أوضح وأقوى تعبير عن هذا الهدف بعد ثورة 25 يناير على لسان د. محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، الذي عبر في آخر رسائله عن أن إحياء الخلافة هو الهدف الأعظم لجماعة الإخوان المسلمين، التي تؤهل المسلمين ل “أستاذية العالم”.
ورغم أن قيادات جماعة الإخوان تؤكد أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، وأن الدولة في الإسلام كانت وستظل دولة مدنية، إلا أن واقعها أكبر شاهد على كذب مزاعمها.
العالم اليوم يركز على مآلات الديمقراطية في مصر بالذات كون مصر تمثل ثقلاً سياسياً عربياً لا يشبهه غيرها، ولكن من يستطيع أن يستشرف المستقبل وسط التموجات الإخوانية الميكافيلية المهاترة ذات الحقيقة الزائفة للمبادئ والقيم التي تستبطن عكس ما تظهره؟
سؤال ربما لا ادعاء يشمل أبعاده..
موقف الإخوان من الثورة هو المناورة والحنكة والخوف من الخسارة. ولما انتصرت الثورة جاء الإخوان وقالوا نحن هنا وبدأوا المشاركة في الثورة، وللغتهم العاطفية الجياشة المتمسحة بالدين حشدوا الجماهير ففازوا في الانتخابات بفارق ضئيل لا يعدو ضربة حظ عاثر في زمانه.
جاء مرسي بعقلية تنظيم الجماعة فأراد من الشعب معاملته معاملة الجماعة لمرشدهم” مبدأ السمع والطاعة” فخرج بعد جمعة الإعلان الدستوري”الدكتاتوري” ليلقي خطاباً بين مؤيديه في مقر الاتحادية ينضح بفوقية تستهجن كل من عداه وعدا جماعته وحزبه وحلفائه، ليصور حقيقة أيديولوجيا الحزب الديني وماهية ارتباطه السياسي ليتجاوز تشويه الدين إلى الغلو بفرض السيطرة والاستبداد حيث لاسواه، وما دونه ففي دائرة المهيمن عليه ليفرض رؤيته الأحادية على مفاصل الدولة والقرار، بالعزم على أخونة الدولة ومؤسساتها.
لم، وأعتقد، لن يدرك الرئيس مرسي معنى كونه رئيسا لكل المصريين.. ففى اليوم التالى لإعلانه الدستوري” الدكتاتوري” وجّه خطابه إلى عشيرته التى تجمعت حوله فى الاتحادية، ودان معارضيه الذين تظاهروا فى مظاهرة سلمية، ودافع عن مشروعه الدكتاتوري بالزعم بأنه يريد إعادة الهيبة لمصر، فكيف يكون الاستبداد جالباً للهيبة إلا في عقول تشربت فكر التسلط والثأر والإكراه؟!
وعندما تبين حجم المعارضة لإعلانه الدكتاتوري الشمولي دعا لحوار وجّهه وجهة خاصة لا تقرأ الخلاف لتعالجه بل تنحو بالحوار وجهة لا طائل منها ولا فائدة.
في الخطاب الإخواني تتمظهر جدلية الدين والعنف والسياسة بمنطلقاتها الفكرية المعاكسة لمعطيات الواقع؛ فها هو مرشد الإخوان يتهم القوى السياسية المعارضة بممارسة الفساد والاستبداد والإجرام، ولا يرى الاحتجاجات سوى “باطل تجب مقاومته” وتقوم جماعة حازم أبو إسماعيل باعتصام أمام مدينة الإنتاج الإعلامي لتطهير الإعلام، ووقف ما سماه « الإعلام الفاسد»
استطاع الإخواني مرسي أن يقسم مصر إلى فسطاطين كما يذكر حمدي قنديل في مقال له”المشكلة لا تكمن فقط فى الإعلان الدستوري ولا فى الجمعية التأسيسية ولا في الدستور ولا في الاستفتاء. المشكلة أكبر من ذلك بكثير..المشكلة أننا تحققنا جميعا أن مصر انقسمت فعلا إلى فسطاطين: فسطاط من يتحدثون باسم الإسلام، وفسطاط المؤمنين بدولة ديمقراطية مدنية.. وطالما أن الفاشيين الجدد يعتبرون أنهم وحدهم قوى الحق، وحدهم القادرون على الحشد بالميليشيات، وأن غيرهم كارهون للإسلام، وغيرهم فى منزلة أدنى، فلن ينجح حوار بين الجانبين، بل لن يقوم الحوار أصلا”
اضطر الإخواني مرسي للحوار بعد أن استشعر موقف الضنك وبعد أن سال الدم وأغمضت الدولة عينيها عن الجناة الذين مارسوا عنفاً، وقاموا بتعذيب وحشي لم تعرفه مصر من قبل عشية مظاهرة لا للإعلان الدستوري، حيث سُجل بالفيديو العنف الذي مارسه أعوان الرئيس مرسي بكل وحشية أمام قصر سيادته وشوهد ميليشيا الإخوان وهم يمارسون التعذيب الوحشي العنيف ليجبروا المتظاهرين على القول بأنهم من فلول النظام السابق!!
يبرر سعد عمارة، عضو الهيئة العليا لحزب الحرية والعدالة، ذلك العنف من جماعة الإخوان بأنه رد فعل منطقي ل«سفالة الألفاظ والإشارات من الطرف الآخر، وأن المتظاهرين تجاوزوا الشرعية في مظاهراتهم، ما استدعى نزول مؤيدي الرئيس، وهو تصريح يمرر العنف كدليل يثبت أبجديات منهجهم الفكري المتوحش.. ويتوالى العنف والهجوم الغاشم على مقرات أحزاب المعارضة خاصة حزب الوفد، والهجوم على الصحف والقنوات الخاصة وحصارها لمعارضتها السياسات المتخبطة للرئاسة التي ستودي بالبلاد إلى الهاوية.
ويستمر هرج ومرج الإخوان بالخطابات والهتافات الرجعية التي ترى كل معارض للرئيس مجرماً وعدواً ومحارباً لله ورسوله.. وبالطبع لمرسي، ويعلنون الحرب على الإعلام، الذي طالما انتقد مبارك علانية كما لم يحدث بأي بلد عربي، لكنه اليوم يجب أن يطبل لمرسي وإلا عُدّ خائناً شريراً يهدف لإسقاط الشرعية؟!
خطاب مرسي بعيد عن إرادة الثورة، وبعيد عن الحس الديمقراطي الذي أوصله للرئاسة، فالديمقراطية لا ترضى أن يمثلها حزب بأبعاد دينية مفرغة من الهمّ الوطني والبعد المؤسساتي المدني وبدستور توافقي يتقبله الشعب بنسبة تفوق 70% ، فمرحلة تأسيس دولة المؤسسات وبناء قواعد الديمقراطية يحتكمان لمعيار التوافق.. لا لمنطق الأغلبية مقابل الأقلية الذي يكرره مرسي في خطاباته الشللية الحزبية.
وربما يكذّب كل مداهنة يحاولها مرسي أن غالبية الشعب بدأت تدرك مدى المفارقة بين نظام الرئاسة السابق، وتنظيم الإخوان، وأنها لاتعدو أكثر من مقاربة بين الفساد والاستبداد، أما تطبيقه للديمقراطية فلا أدل على بعده عنها من استهتاره بها في خطابه المتعالي بين جماعته”مش هيّا دي الديمقراطية اللي بيؤولوا عليها ؟؟!! “، وهو أمر بدهي، فقد انتهى مفعول الديمقراطية بعدما أوصلته للرئاسة ولتذهب بعد ذلك للجحيم، هذا تماماً ما يعبر عنه بجملته الساخرة من الديمقراطية.
الديمقراطية بفضائها المفتوح ومضامينها المرتكزة على احترام الحريات كافة أبعد ما تكون عن نظام لازال يحتكر الحق في جماعة من الناس بل وفي جماعة مخصوصة من ديانة خاصة، أما القرب بين المفهوم وممارسة النظام الديمقراطي فأبعد من حدود تفكير جماعة تقسم الناس إلى فريقين: أحدهما في الجنة، والآخر في السعير، وتحكم بنهايات مغلقة على تخلفها اليقيني الساذج للحياة والدولة والمصير.
في تاريخ الإخوان امتداد غاشم لصناعة الموت والجاسوسية، فهم أول من سن الاغتيال باسم الإسلام في العصر الحديث عندما اغتالت الجماعة القاضي الخازندار كونه ينظر في قضية ” تفجيرات سينما مترو” المتهم فيها عدد من المنتمين لجماعة الإخوان، فعندما قال حسن البنا المرشد العام للجماعة في اجتماع مع جماعته” ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله” اعتبره أعضاء في التنظيم بمثابة “ضوء أخضر لاغتياله، فاغتالوه بتسع رصاصات سقط بها صريعاً في دمائه، لتتوالى الاغتيالات، فيقتل أحمد ماهر عام 1945، ثم النقراشي باشا 1948..
لقد طلب حسن البنا مؤسس الجماعة من أتباعه وبخط يده في رسائله” طاعة بلا تردد، وبلا حرج وبلا شك وبلا مراجعة”، وقال أيضاً: إن الإخوان سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها” وهم لا يترددون في تصفية أي عضو منهم يخرج عن قناعاتهم، كما حدث مع السيد فايز عندما عبر عن غضبه على التنظيم الخاص” السري” لقتلهم القاضي الخازندار، وبطريقة بشعة عن طريق خدعة بتمرير صندوق له بدعوى احتوائه على حلوى المولد، ولما فتحه انفجر في وجهه.
الطاعة المطلقة في الغرف المظلمة مع المصحف والمسدس والى تخريج القتلة من هذه الجماعة البدعية ليغتالوا الرئيس أنور السادات الذي لم يشفع له كل ما فعله لأجلهم.
أما الجاسوسية فيذكر مؤلف كتاب “مع الشهيد حسن البنا” محمود عساف أمين المعلومات في جماعة الإخوان “أن الجماعة تمارس جمع المعلومات عن جميع الزعماء والمشاهير من رجال السياسة والفكر والأدب والفن سواء أكانوا من أعداء الإخوان أم من أنصارهم، وكانت المعلومات ترد لي لأحفظها في الإرشيف”..
اليوم نحن بانتظار نتيجة الاستفتاء الرقم 17 في تاريخ مصر، فقد شهدت مصر منذ قيام ثورة يوليو 1952، التي أنهت حكم أسرة محمد علي وأقامت النظام الجمهوري 16 استفتاءً، تنوعت ما بين اختيار رئيس الجمهورية، وتعديلات دستورية وقضايا سياسية.
واللافت للنظر أنها جميعاً جاءت ب”نعم” وبنسب عالية جداً، فهل نشهد بفضل الديمقراطية نتيجة في الاتجاه المعاكس، أي بلا..؟!
الله أعلم.. لكنني لا أتمنى على أحبتنا في مصر أن يتذكروا وعد الرئيس السابق مبارك بانتقال سلمي! للسلطة وتنازل عن الحكم، وتعديل خمس مواد من الدستور بما فيها المادة 179 الممهدة لإلغاء قانون الطوارئ فيندمون على تفويت الفرصة.. فالفوضى الإخوانية المتناهية تنبئ عن مستقبل مخيف.. فهل هي إرهاصات الفوضى الخلاقة؟!
وأي خلق من الفوضى يا ترى سيكون؟! أم ملامح شرق أوسط جديد كما توعدت أمريكا أو وعدت به من زمن قريب؟!!
وبين الوعد والوعيد ضباب كثيف عسى أن يهطل بالخير على شعب مصر الحبيب..
شاهد أيضاً
اللجنة الرياضية لمحافظة سلفيت تزور نادي سرطة الرياضي
شفا – بتوجيه من محافظ سلفيت اللواء د.عبدالله كميل، نفذت اللجنة الرياضية في محافظة سلفيت …