8:43 صباحًا / 23 نوفمبر، 2024
آخر الاخبار

عصرٌ جديدٌ للبشرية ، بقلم : مالك ابوعليا

عصرٌ جديدٌ للبشرية ، بقلم : مالك ابوعليا

عصرٌ جديدٌ للبشرية ، بقلم : مالك ابوعليا

مؤلف المقال: الأديب السوفييتي ادواردس بينيامينوفيتش ميجيلايتيس*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)… هي من عمل المُترجم

عندما يتحدث المرء عن العصر الجديد الذي أطلقه الهُجوم على قصر الشتاء، فإن ذلك ليس مُجرّد عبارةٍ مجازية. لقد انتهت سنوات الثورة الفرنسية في ضباب برومير بونابارت وفي ظلام استعادة البوربون. لكن روسيا، أرض السكيثيين الفقراء والجياع، بسُكانها الملايين المُكونة من قبائل مُتنوعة، صعدوا خُطوةً بخُطوة، سقوها بدماء أجسادهم، و وأقاموا عالماً جديداً بدلاً من العالم القديم الذي سحقوه من أساساته. عشرة أيام قلَبَت التاريخ رأساً على عقب، وصارت خمسين عاماً لاحقةً، مهداً ومدرسةً وابداعاً للانسانية الجديدة.


لقد قالَ أحد الدُعاة الفرنسيين ذات مرة أن الأطفال يفهمون الفلسفة بأسهل ما يكون، ويفهمون التاريخ بأصعب ما يكون. ان اصدقائنا الذين ينتمون الى بُلدان العالم الجديد يشعرون معنا أن التاريخ بالنسبة لنا اليوم هو قبل كُل شيء علم المُستقبل. نحن نرى في العواصف والمعارك التي نعيشها اليوم، مُستقبلاً منظوراً وملموساً.


ان نصف قرن، تُشكّل نُقطةً مشروعةً يُمكننا من خلالها النظر الى الوراء والى الأمام. هذا صحيح بالذات عندما كان هُناك في البداية، شرارةٌ تحوّلَت الى شمس. ان الحديث عن معالم التاريخ الجديدة، ومساعي البشر المُذهلة والعظيمة التي وُلِدَت في اكتوبر، أمر طبيعي للغاية، لأننا ندخل الآن في الثُلُث الأخير من القرن العشرين من الألفية الثانية. تحدّثَ الناس قبل مئة عام حول حلول نهاية القرن، نهاية عصرٍ ما، والذي أضفوا عليه نغمةً جنائزيةً للغاية. انتهت الألف سنة الأولى من العصر بالصراخ وآلام المخاض وكوارث الدول الأوروبية التي نهضت من البربرية. هاي هي الألفية الثانية تقتربُ من نهايتها، مُضاءةً بحكمة الانسان الذي ستحل مئوية ميلاده في جميع أنحاء الكوكب.


أعتقدُ أن مسألة الشاعر والشعر في المُجتمع هي مسألة الانسان. انها ليست مسألة وحدةٍ فسيولوجية، ولا مسألة روبوت من مصنع كمبيوترات، ولكنها مسألة (الانسان)، الانسان كما هو انسان.


انني من أنصار رأي اولئك الذين يقولون أن غوركي العظيم هو النبي الأول للانسان الجديد. هناكَ شُموسٌ لا تغرب تحت الأُفق، ونُجومٌ لا تخفُت. كان غوركي أحد تلك النجوم. كان نبياً للوجود الجديد ومُفكراً عميقاً واستاذاً في الأدب، مثل طائر الفينيق الذي ينهض لحياةٍ جديدةٍ من جُثة العالم القديم. لقد استوعبَ جيداً واستخدم تراث الأدب الروسي الانساني العظيم، ولكن أصبَحَت تلك الانسانية القديمة بين يديه وفي استخدامه، انسانيةً ثوريةً جديدةً بمعنىً جديد. وان كان الأدب الروسي،، قبل غوركي، قد اكتَسَبَ نُفوذاً هائلاً في العالم من خلال نضاله من أجل الانسان، فهو يحتل الآن، مكانةً رياديةً في العملية الأدبية العالمية. لقد طَرَحَ مكسيم غوركي صيغةً جديدةً حول جوهر ووجود الانسان الجديد. وعلى الرغم من أن هذا الانسان قد وُلِدَ واكتُشِفَ للتو وما زالت عملية تشكّلهِ مُستمرةً حتى يومنا هذا بحيث أنه يستحيل (استكمال) جوهره، فقد اكتَشَفَ غوركي حتى ذلك الحين معالم وجنين ذلك الانسان.


لقد مارَسَ الأدب الروسي-أدب الروح الثورية- تأثيراً هائلاً على تطور كُل الأدب العالمي الحديث. ليس المؤلفون الروس وحدهم، بل الكُتّاب التقدميون في العالم أجمع يحملون راية النضال من أجل الانسان، طالما أن الثورة الشيوعية ليست قضية شعبٍ بعينه، بل قضيةً عالميةً وأُممية.


وهُنا تكمن الدعوة الأسمى، وأعظم حملة انسانية (لا داعي للخوف من كلمة “حملة”) للأدب في عملية اعادة تشكيل الواقع والتي تحدُثُ على مر القرون وتحدث اليوم على هذه الأرض، على كوكب البشر الرائع. ان الخلافات حول ما اذا كان ينبغي توظيف الأدب عاطفياً أم فكرياً في ذلك التشكيل والبناء، هي خلافاتٍ فارغة لا معنى لها. ماذا سيبقى من الأدب اذا ابتَعَدَ عن مُثُله الأساسية: الفينيق الذي يُجدد نفسه ذاتياً؟


ان الانسانية الثورية هي مُختبر مهول، حيث يوجد مكانٌ لكل شيء جميلٍ يصنعه الانسان وتحل هنا التجربة الجمالية للانسانية بأكملها. وهنا ينشأ تركيبٌ يتوافق مع الانسان الناشئ في العالم الجديد.


خلال سنوات دراستي في الثانوية، كان التاريخ يجذبني. كان مُعلمونا في هذا المبحث في جميع الصفوف التي مريت بها مجموعةً مُصطفاة بعناية، مُتميزين ومُحبين لمبحثهم. لقد استمعتُ بشغفٍ خاص الى قصصهم عن الماضي البعيد للبشرية. وأتذكرُ أثناء استماعي الى دروسهم، كلمة “الحُكم الثلاثي” triumvirate(أ) منذ الصف الثالث. شعرتُ تدريجياً، بخيبة أملٍ من “الحُكم الثلاثي” الروماني وغيرهم من الجنرالات العسكريين والغُزاة القُساة والمتعطشين للدماء. لكن في الصفوف العُليا وفي الجامعة، أُعجِبتُ بثلاثة شعراء: الكسندر بلوك Aleksandr Blok وفلاديمير ماياكوفسكي Vladimir Mayakovsky وسيرجي ايسينين Sergei Esenin. وبطبيعة الحال، انجذبت أيضاً الى شُعراء عالميين آخرين أيضاً. لكن ذلك الثُلاثي الشعري، كان ولا يزال بالنسبة لي عزيزاً وقريباً عليّ. عندما أقرأ سطورهم بيني وبين نفسي أو بصوتٍ عالٍ، ما زلت أشعر بأحاسيس الرقّة والتحمّس المُرتعد. ربما كان السبب في ذلك هو أنهم لمعوا أمامي في الحركة السرية الثورية باعتبارهم المُمثلين الأكثر حيويةً للعصر الجديد. لقد كانوا ثلاثة خطوطٍ تبدأ من نُقطةٍ واحدة، وتتحرك بالتوازي ثم تتقارب مرةً أُخرى عند نُقطةٍ واحدة. وكانت النُقطة الأولى هي الثورة الروسية، وكان الهدف هو الثورة الروسية. أتذكر بأنني انبهرتُ بهذه الخطوط الثلاثة من الشعر الثوري. لقد عكسوا ثلاث طبقاتٍ من التُربة الشعرية. كان بلوك صوت المُثقفين الروس القُدامى الرائعين، والعُمق الفكري للمُجتمع. ومن خلال صوت ماياكوفسكي انطلقت القوة الثورية للشوارع والميادين والمدينة بصيحةٍ مُتفجرةٍ للغاية لأول مرة. ومن خلال شفَتي ايسينين، غرّدَت الروح المُتناقضة للقُرى، مُغنيةً برقة وبتمرّدٍ كذلك.


بطبيعة الحال، هذا مُخطط مُبسط يجب ملؤه بالعديد من الألوان والظلال والنغمات.
من المُستحيل أن يُحشَرَ الشاعر في اطارٍ مُعيّن.


ومن أجل راحتي الشخصية، فقد أطلقتُ على هؤلاء الثلاثة اسم “الثُلاثي” triumvirate، وبالتالي أبديت احترامي لذاكرة طفولتي. لكن يبدو لي، حتى اليوم، أن ثلاثة اتجاهاتٍ شعرية نشأت وما زالت تتطور في الأدب الروسي وفي آدابٍ أُخرى. واختزال الشعر في مسارٍ واحد سيكون أمراً مُملاً للغاية، فكُل سحر هذا الشعر يكمن في تحدد سماته وأساليبه ولمساته الشخصية، وأخيراً مهامه. وكلما اتسعَ نطاق كل تلك الأمور، كلما كان الشعر أكثر جاذبيةً. افتتحت ثُلاثيتي العزيزة على قلبي، العصر الثوري على مصراعيه. ويُواصل شعرنا اليوم، بألوانٍ مُتعددة، التقليد الثوري لابداعات هؤلاء الثلاثة الرائعين.


عصرنا، هو عصر الملاحم والسيمفونيات. انها ليس نشازاً من فوضى بدائية، وليست تشوشات أصوات بُرج بابل(ب). انها جوقة مُكونة من ألف صوت مُضخمة الى تناغماتٍ عظيمةٍ لم يسمعها أحدٌ في العصور السابقة. يبدو لي أن بيتهوفن يستمع بابتسامة رضا، الى معزوفة عصرنا. واذا كان الأمر كذلك، فقد نال فن الشعر مكانةً مُشرفةً في وجودنا.
لكن اليوم ليس من المُمكن بعد الحديث والكتابة عن الانسان بهدوءٍ وثباتٍ الهيين. لا يزال رماد الملايين من البشر ممن حُكِمَ عليهم بالموت باسم العداء المَرَضي للانسانية وأكل لحوم البشر الذي ارتقى الى مصاف النظام السياسي الفاشي، أقول، لا يزال يُؤلم قلوبنا.


كان للأرواح الشريرة التي أشرفت على طقوس المذابح العالمية وجوهٌ عديدة. ويعملون اليوم، في أغلب الأحيان، تحت قناع الشكية ويُسممون أجواء الكوكب بالمُخدرات الرهيبة المُتمثلة في اليأس والوحدة القاتلة. ان النابالم الفكري الذي ينهمر على جيل الشباب في الغرب يُولد من الموت وهو مُعادٍ بشدة للانسان الحقيقي.


وهنا في الخطوط الأمامية للمعركة الجارية الآن من أجل روح البشرية، الشعر هو قُوات المشاة وسلاح الصواريخ في آنٍ معاً. كيف لا يُمكننا هُنا أن نتذكر قصيدة (مسيرة اليسار) لماياكوفسكي؟ ومرةً أُخرى يتطابق فجر اكتوبر مع فجر اليوم.
في لُغتي الأُم، الليتوانية، كلمة “انسان” لا تبدو ذات كبرياءٍ وحسب، بل لطيفة للغاية. أود أن أقول أنها تُعبّر عن مشاعر علاقة القُربى. ولهذا السبب هذا الشعار عزيزٌ عليّ: “الانسان هو أخٌ للانسان”.


ان الشيوعيين، وهم انسانيي القرن العشرين، يصيغون انسان الألفية الثالثة. ما الذي يُنهِضُ ويُنمّي شعور الأُخوّةِ والرفاقية أفضل من الفن والموسيقى والشعر؟


يجب أن لا ننسى أبداً هدفنا الرئيسي، الا وهو أن نُدرب الانسان أن يخدم. الخدمة ليست وظيفةً ولا عملاً يومياً. انها الهِبَة الحُرّة والبهيجة لقوى يديه وقلبه وروحه من أجل المُثُل العُليا السامية. هذا “الانسان من أجل الانسان” سيكون قادراً أيضاً على الكشف عن جميع قُدراته الفردية ونصيبه من العبقرية الانسانية.


لا شك أن مؤرخي المُستقبل سُيطلقون يوماً ما على عصر ثورة أُكتوبر “عصر النهضة الشيوعية العظيمة”، عصر ميلاد البشرية والانسان.

  • ادواردس بينيامينوفيتش ميجيلايتيس 1919-1997 شاعر ومُترجم ومُحرر سوفييتي. وُلِدَ في ليتوانيا السوفييتية، وصار منذ عام 1935 عضواً في منظمة الكومسومول، وكان مُراسلاً حربياً في الفرقة الليتوانية السوفييتية عام 1943. كان سكرتيراً للجنة المركزية لكومسومول ليتوانيا من 1943-1946، وعَمِلَ في مكتب تحرير مجلة النجمة. وفي الأعوام 1954-1959 أميناً لاتحاد الكُتّاب الليتوانيين وأمين مجلس اتحاد الكُتّاب السوفييت منذ عام 1959. وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي في ليتوانيا منذ 1960-1989 ونائب مجلس السوفييت الأعلى لاتحاد الجمهوريات السوفييتية 1962-1970، ونائب رئيس هيئة رئاسة مجلس السوفييت الأعلى لجمهورية ليتوانيا السوفييتية منذ عام 1975. تَرجَم كُتب لبوشكين وليرمنتوف ونَشَر عدة كُتُب تحوي على قصائد للأطفال. مؤلف لملحمة (القصيدة الأخوية) 1955، ومجموعة قصائد شعرية مثل (ـحجار غريبة) 1957 و(بانوراما جنوبية) 1963 و(دراسات غنائية) 1964 و(خبز وكلمة) 1965 و(فراسات الليل) 1966 و(ليتوانيا هُنا) 1968 و(آفاق) 1970 وغيرها الكثير.
    حَصَلَ على جوائز: بطل العمل الاشتراكي 1974، جائزتي لينين، وجائزة ثورة اكتوبر 1979، وسام الصداقة بين الشعوب 1984 وجائزة شاعر الشعب الليتواني 1974.
    لم يعترف ميجيلايتس بـ”استقلال” ليتوانيا وظل شيوعياً.

أ- الحُكم الثلاثي الروماني كان حلفاً سياسياً غير رسميّ قام بين يوليوس قيصر وبومبيوس الكبير وماركوس كراسوس، نَتَجَ عن مُحاولة لموازنة القُوى الطبقية في روما، تأسس عام 60 ق.م
ب- تقول الاسطورة أن البشر سكنوا برج بابل وتحدثوا لُغةً واحدة، ولكن قامت الآلهة بتدمير هذا البُرج، فتفرق الناس الى مجموعات، وهنا نشأ تعدد اللغات.

ترجمة لمقالة:
E. Mezhelaitis (1968) A New Era for Man, Soviet Studies in Literature, 4:2, 5-9

شاهد أيضاً

الصحفي حسن أبو قفة

استشهاد الصحفي حسن أبو قفة في قصف إسرائيلي على النصيرات وسط قطاع غزة

شفا – استشهد، مساء اليوم الجمعة، الصحفي الفلسطيني حسن أبو قفة ونجله عماد بعد غارة …