إننا ننتمي الى أوطاننا مثلما ننتمي الى أمهاتنا ، بقلم : دانييلا قرعان
في كل مرة أسافر فيها خارج البلاد للمشاركة ببعض المؤتمرات الدولية في شتى بقاع الأرض، أشعر بالحنين لوطني، وكأنني قد غبت عنه أعوامًا عديدة. هذا الشعور الذي ينتابني كل مرة لم يأتي من فراغ، بل نتيجة علاقة حب وطيدة تربطني بوطني الأردن، فالوطن كالأم ننتمي اليه كما ننتمي الى أمهاتنا، ونشتاق اليه كما نشتاق لحضن الام، فهذا التشبيه العميق ما بين الأم والوطن يبين لنا العلاقة الفطرية التي تربطنا بأوطاننا عندما نغيب عنها، فحب الام حب طفري ملاصق لنا منذ الولادة، وهو حق مكتسب نكتسبه مجرد ولادتنا، ورؤيتنا وجه أمهاتنا لأول مرة، كذلك الوطن هو حب فطري أبدي ملاصق لنا منذ الولادة، لذلك الوطن هو تمامًا كالأم الحنون التي تحتضن اطفالها وتمنحهم الشعور بالأمان والسكينة. وطني الأردن من لي بغيرك عشقًا فأعشقه، ولمن اتغنى، ومن لي بغيرك شوقًا وأشتاق له، وطني ذلك الحب الذي لا يتوقف، وذلك العطاء الذي لا ينضب.
” لا يعرف الوطن إلا من عرف الغربة ” لقد علمني المدعو غربة أكثر من أي أستاذ آخر، وأكثر من أي مساق آخر، كيف أكتب أسم الوطن بالنجوم على سبورة الليل، وعلمني المدعو غربة أن لا بديل عن طني مهما حييت، وعلمني أن ما يحدث في وطني هي مشاكل عائلية أسرية سرعان ما يتم حلها، فالأخوة داخل البيت الواحد، يتنازعون ويفترقون لبرهة من الوقت، لكنهم سرعان ما يتصالحون، وتعود المياه لمجاريها، وكذلك نحن أبناء الأردن، نتنازع وتفرقنا الكلمة والموقف الواحد، لكننا نبقى كالسد المنيع في وجه الاغراب، ونتحد ونصبح كالجسد الواحد، ولا يستطيع أحد أن يفرقنا، أو أن يزرع بذور الفتن والكراهية وخطاب التطرف بيننا؛ لأننا أخوة بالدم والصلة والانتماء، ولا نشعر بأهمية الوطن ومقدار المحبة له إلا عندما نفارقه، ونندمج بثقافات وحضارات أخرى، هنا نشعر أن لا بديل للوطن، وأن الوطن كالدم يسري في عروقنا وشرايينا دون توقف.
من الجميل أن يموت الانسان من أجل وطنه، ويفديه بروحه، لكن الأجمل والأهم أن يحيى من أجل هذا الوطن، أن يقدم كل ما بوسعه من أجل رفعة هذا الوطن، وأن يتباهى بوطنه، وكأن لا وطن غيره في هذا العالم، ومن الجميل أن يسخر الانسان كل إمكانياته وطاقاته وعلمه ومعرفته من أجل تقدم ورقي هذا الوطن. ألم الفراق عن الوطن من أصعب الآلام ومن أشدها. فمن لا يبكي لفراق الوطن؟ ومن لا يشتاق لأرض وطنه؟ فلو لم يكن الوطن غاليا لهذه الدرجة لما سمي ب ” الوطن الام”، ومهما سافر الانسان ومهما دار من بلدان حول العالم، فلن يجد أحن من حضن وطنه ولا أدفئ منه.
قال تعالى: “ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم”. وحين قدم أصيل الغفاري مهاجرًا من مكة إلى المدينة، سأله النبي (ص)، فقال له: يا أصيل! كيف عهدت مكة؟، قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضّت بطحاؤها، وأغدق اذخرها، وأسلت ثمامها، وأمشّ سلمها، فقال: ويها يا أصيل! دع القلوب تقرّ قرارها. حتى أنً النّبي (ص) بكى وحزن لفراق مكة، رغب أنّها كانت بحسب وصف القرآن الكريم “وادٍ ليس ذي زرع” إلا أنّها كانت تمثّل له الوطن الأم الذي ولد فيه واللقب الذي كان يُعرف به حيث كان يوصف بالنبي “المكّي”. بالرغم من أنّ أهل مكة آذوه كثيراً وجبروه أن يهاجر منها، إلا أنّها ظلّت في قلبه.