عالم اليوم يتغيّر كثيراً، خاصّةً منذ مطلع عقد التسعينات وتحوّل الولايات المتحدة إلى نقطة المركز والقيادة في دائرة الأحداث العالمية. فإدارة بيل كلينتون، التي حكمت 8 سنوات (1993-2001)، عزّزت مفهوم “العولمة” كبديل عن انقسام العالم بين “شرق شيوعي” و”غرب رأسمالي”، وهو ما كان عليه وصف حال العالم لنصف قرنٍ من الزمن. أيضاً، حرصت إدارة بوش الابن في سنواتها الثمانية (2001-2009) على الحفاظ على سياسة “العولمة”، لكن بمضمون عسكري استهدف فرض واقع الإمبراطورية الأميركية والانفراد بالقرار الأميركي في تقرير مصير الأزمات الدولية، بعدما طغى في حقبة كلينتون أسلوب الهيمنة الأميركية بمضمون تجاري واقتصادي.
ووجدنا لاحقاً في فترتيْ إدارة أوباما (2009-2017) محاولة لإعادة ما ساد في حقبة كلينتون من “عولمة” تجارية واقتصادية، ومن تجنّب لاستخدام القوة العسكرية الأميركية في مضامين هذه “العولمة”، ومن سعي لمشاركة أميركية فاعلة في عدّة تحالفات واتفاقيات دولية؛ كالشراكة بين دول المحيط الهادئ، وكاتفاقية “نافتا” مع المكسيك وكندا، ودعم العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وكالاتفاقية الخاصّة بالمتغيّرات المناخية.
الآن، مع مجئ إدارة ترامب إلى “البيت الأبيض” تتّجه أميركا، ومعها قريباً ربّما دول كثيرة، إلى سياسة التخلّي عن “العولمة” بجانبيها الاقتصادي والعسكري، واستبدالها بسياسات قائمة على “قوميات” ومصالح، وليس على تكتّلات دولية تُقيّد حركة الولايات المتحدة أو تُلزمها بتحالفاتٍ لا جدوى خاصّة منها. وقد لمسنا هذا التحوّل الأميركي في الأسبوع الأول من حكم ترامب؛ من خلال أمره التنفيذي بالخروج من “اتفاقية الشراكة” مع دول المحيط الهادئ، ومن أزمته مع المكسيك، ومن مواقفه السلبية من “اتفاقية نافتا” ومن اتفاقية باريس بشأن المناخ، ومن تصريحاته السلبية عن “حلف الناتو”، ومن تشجيعه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ومن يتابع تصريحات قادة الأحزاب اليمينية المتطرّفة في عدّة دول أوروبية يجد جامعاً مشتركاً مع مقولات ترامب وتوجّهاته ضدّ كل مضامين “العولمة”، وعلى قاعدة من مفاهيم عنصرية.
المسألة الأخرى، التي ترادف موجة التراجع في الغرب عن “العولمة” لصالح “القوميات”، هي ظهور العامل الديني المساعد على تبرير العنصرية ضدّ الشعوب والثقافات المغايرة، كما لمسنا ذلك في التيّارات الدينية المحافظة التي دعمت دونالد ترامب، والتي تدعم المرشّحين الأوروبيين اليمينيين. وخطورة هذا العامل في الحياة السياسية بالدول الغربية هو أنه يجنح بحكّامها نحو التطرّف والتناقض مع دساتيرها ومجتمعاتها العلمانية، ويجعل حربهم مع الجماعات الإرهابية في العالم وكأنّها حروب مع أديان وقوميات أخرى!.
لقد استخدمت الولايات المتحدة عامليْ الدين والقومية في صراعها مع الاتحاد السوفييتي، خاصة في فترة الرئيس ريغان، وشجّعت واشنطن، خلال حقبة الثمانينات من القرن الماضي، الكثير من الحركات السياسية في أوروبا الشرقية التي كانت تنشط بطابع ديني أو قومي ضدّ هيمنة موسكو على بلدانها، كمثال ما حدث في بولندا وغيرها. أيضاً، دعمت واشنطن الجماعات الدينية في أفغانستان ضدّ الحكم الشيوعي فيها، وهي الجماعات التي أطلقت عليها واشنطن اسم “المجاهدين الأفغان”، والتي منها خرجت لاحقاً “القاعدة” وأخواتها بعدما ورّطت الولايات المتحدة عدّة دول عربية وإسلامية في تلك الحقبة من الصراع مع “الشرق الشيوعي”. وقد تزامن ذلك كلّه مع حدوث الثورة الإيرانية التي قامت على خلفية دينية وساهمت في إشعال التيّار الديني بعموم العالم الإسلامي.
فقد اتّسم عقد الثمانينات بأنّه عصر “القومية والدين”، بعدما ساد العالم نصف قرن من “الحرب الباردة” بين “الشرق الشيوعي العلماني” وبين “الغرب الرأسمالي العلماني”، وحيث كلاهما ما كانا يقيمان اعتباراً لمسألتيْ: الدين والقومية. وهكذا خرجت عدّة دول من فلك روسيا العظمى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
ولعلّ أبرز المضامين المعطاة الآن لمفهوميْ “الشرق” و”الغرب” هي قضايا تميّز بين كتل الشعوب (وليس الدول) على أسس سياسية وثقافية. فالغرب هو مصطلح يعني الآن الشعوب التي تعتمد الأنظمة السياسية الديمقراطية ونظام الاقتصاد الحر، وتأخذ بالمنهج العلماني في الحكم، رغم الطابع الديني المسيحي لهذه الشعوب. وبالتالي، فإنّ دولة مثل أستراليا الموجودة في أسفل الكرة الأرضية، والتي هي غير معنيّة جغرافياً بتوزيع العالم بين “الشرق” و”الغرب”، هي الآن دولة فاعلة في معسكر “الحضارة الغربية”!.
وقد وجدت إسرائيل ومن يدعمها من دول “الغرب” الأوروبي والأميركي مصلحة كبيرة في هذه التسميات التي تجعل منها “دولة غربية” و”شرق أوسطية” معاً. إذ أنّ تسمية “الشرق الأوسط” تنزع الهويّة العربية عن المنطقة فتقضم منها دولاً عربية وتضيف إليها إسرائيل، بكلّ ما تمثّله الأخيرة من ثقل عسكري وسياسي واقتصادي “غربي”.
وفي الحالتين: تقسيم العالم إلى “شرق” و”غرب” أو إلى “شمال” و”جنوب”، هناك مسؤولية أولى عن الاختلاف الحاصل بين المجتمعات، وهي مسؤولية الإمبراطوريات التي صنعت استقرارها وتقدّمها السياسي والاجتماعي عن طريق قهر شعوب أخرى واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها الوطنية وإضعاف عناصر وحدتها الاجتماعية، فأفرز ذلك كلّه على مدار عقود من الزمن تنميةً في بلدان أوروبا وشمال أميركا مقابل تخلّف وفوضى وحروب في معظم المجتمعات الأخرى.
إنّ دعاة مفهوم “الإمبراطورية الأميركية” خلال حكم “المحافظين الجدد” وجدوا مصلحة في إبقاء “الغرب” كتلةً واحدة تحت قيادة أميركية، بل وجدوا مصلحةً أيضاً في إضافة دول أخرى إلى “المعسكر الغربي” كما حصل مع مجموعة دول أوروبا “الوسطى” و”الشرقية”، وهي الدول التي كانت منذ أقلّ من ثلاثة عقود من الزمن محسوبةً على “الشرق السوفييتي” فإذا بها الآن تأخذ “الهويّة الغربية” وتصبح جزءاً من “حلف الأطلسي”!.
فتقسيم العالم إلى “شرق” “غرب” هو مسألة نسبية، ولا مضموناً علمياً له رغم اعتماد هذا التقسيم للتمايز الثقافي والسياسي بين دول العالم. أمّا على الجهات الأخرى، أي “الشمال” و”الجنوب”، فنجد تصنيفاً مختلفاً يعتمد على التمايز الاجتماعي والاقتصادي بين دول شمال الكرة الأرضية ودول جنوبها. وهو تمايز يقوم على مستويات الفقر والثراء، وعلى مدى التخلّف والتقدّم في الحياة الاقتصادية ومثيلتها الاجتماعية.
أيضاً، فإنّ توزيع العالم بين “شرق” و”غرب”، و”شرق أدنى” و”شرق أوسط” و”الشرق الأقصى”، هي تسميات لحقب تاريخية ماضية، عِلماً أنّه لا يجوز رؤية العالم بين “شرق” و”غرب” بحكم نسبية المكان على أرض كروية تسبح في فلك عظيم، كل مكان فيها هو “شرق” لجهةٍ ما و”غرب” لجهةٍ أخرى.
لكنّ الأمّة العربية هي حالةٌ فريدة جداً بين أمم العالم، فهي صلة وصل بين “الشمال” و”الجنوب”، وبين “الشرق” و”الغرب”، وبين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة، ومن تلك الأرض: أرض العرب، خرجت حضارة إسلامية وعربية امتدّت لكل الجهات الأربع وساهمت في إطلاق شعلة النهضة الأوروبية قبل قرونٍ من الزمن. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة وللأطماع الأجنبية.
لذلك، ستبقى هذه المنطقة العربية ساحة صراع لقوى النفوذ العالمية، وسترتجّ أرضها لدى أي اختلال يحدث في الميزان الدولي القائم على صراعات “الشرق” و”الغرب”، أو على تباينات “الشمال” و”الجنوب”، أو على بروز “الحركات القومية والدينية”. ولا يمكن لهذه المنطقة ككل أو لأجزاء منها أن تختار السلامة والأمن عن طريق العزلة، فهناك حتمية الصراع الدولي على هذه المنطقة وموقعها وثرواتها، لكن ليس هناك حتمية لنتائج هذه الصراعات، فالأمر يتوقّف أصلاً على شعوب الأمّة العربية ومدى وعيها وتضامنها وقوّة المناعة في دولها، وهي عناصر تتّصف كلّها الآن بالاختلال وانعدام التوازن السليم!.
المشكلة في الأمّة العربية هي أنّ حكّامها وشعوبها لم يحسنا التعامل لا مع “العولمة والعلمانية” ولا أيضاً مع “القومية والدين”، ففي عصر صراعات “الشرق” و”الغرب” كانت المنطقة العربية هي ساحات حروب بين المعسكرين، ثمّ في فترة “القومية والدين”، وبعدها في حقبة “العولمة”، ازدادت الانقسامات العربية البينية على أسس إقليمية وطائفية، وهاهي عدّة بلدان عربية تشهد صراعاتٍ أهلية وإقليمية تتناقض تماماً مع حقيقة الأديان ومضامين الرسالات السماوية، كما هي محصّلة للتخلّي عن الهُويّة العربية المشتركة.
شاهد أيضاً
وزارة الثقافة الفلسطينية تنظم ندوة بالتعاون مع كلية الأمّة الجامعية ضمن فعاليّات ملتقى فلسطين للقصة العربية
شفا – ضمن فعاليّات ملتقى فلسطين للقصة العربية 2024، نظّمت وزارة الثقافة الفلسطينية بالتعاون مع …