المقاومة الفلسطينية.. نقاط القوة وثغرات الضعف ، بقلم : سعيد مضيه
الأبارتهايد أبشع وجوه الكيان الصهيوني الامبريالي
العدوان العسكري الأخير علي مدينة جنين ومخيمها هو إحدى نوبات العدوان المتواصل على الشعب والأرض في فلسطين عبر عقود من حياة الكيان الصهيوني؛ ما دار وسيدور على أرض فلسطين هو عدوان عسكري مستمر ضمن استراتيجية تحويل فلسطين بكاملها الى دولة خالصة لليهود. توقَفَ العدوان، شان عشرات عمليلت عدوان مسلح مثيلة سبقت، مع تهديد بمعاودة العدوان، رغم إلحاق أضرار جسيمة بمساكن اللاجئين وتدمير البنية التحتية للمخيم وقتل أفراد مدنيين وأطفال، الى جانب عدد من المناضلين. في العدوان الأخير هدمت بيوت واضطر 3000 من سكان المخيم الى النزوح عن بيوتهم وجرفت شوارع دمرت معها انابيب مياه وصرف صحي وأسلاك كهرباء ؛ كما فرض حصار مشدد حظر دخول حتى الخبز الى المخيم . هذا الى جانب هجمات عدوانية من قبل المستوطنين تتواصل منذ سنوات وتزداد ضراوتها عاما بعد عام. لذلك كل من المبالغة الحديث عن انتصارات.
بعكس مزاعم نتنياهو واعوانه بالداخل والخارج فإسرائيل ، دولة الاحتلال، لا تقوم بحرب وقائية حين تعتدي على التجمعات السكنية الفلسطينية؛ فهي تمارس العدوان لتدعيم الاحتلال ومشاريع التوسع الاستيطاني، شانها في جميع نوبات عدوانها عبر أكثر من ثلاثة أرباع القرن. ونظرا لكونها دولة احتلال فهي ملزمة ب “ضمان سلامة وامن المدنيين أثناء عمليات العنف ” كما صرح سكرتير عام الأمم المتحدة في 20 حزيران الماضي، مستندا الى اتفاقيات جنيف حول سلامة المدنيين أثناء العمليات الحربية. ولكن قوى الامبريالية ، وإسرائيل جزء منها ، لا تلتزم باتفاقيات ولا بقانون دولي ؛ وأثناء العدون الأميركي على كل من فييتنام وأفغانستان والعراق ألحقت الدمار المادي والخسائر البشرية بالمدنيين على نطاق واسع؛ فقد العراق اكثر من مليون ضحية بسبب غزو الولايات المتحدة عام 2003. لكن قوى الامبريالة تردد الأسطوانة المشروخة يحق لإسرائيل الدفاع عن النفس!
اما رئيس الحكومة فلا يخفي حقده العنصري على الشعب الفلسطيني ولا يتحرج من التعبير صراحة عن إرادة مواصلة انتزاع الأراضي الفلسطينية لمواصلة التوسع الاستيطاني والحيلولة دون إقامة الدولة الفلسطينية. الحكومة الحالية تفكر بالتهجير القسري تخلصا من الأبارتهايد الجلي، النظام المترتب على الضم المنشود للأراضي المحتلة وحرمان الفلسطينيين من الحقوق واعتبارهم من درجة ثانية
على المدى القريب وبصورة مستعجلة يسوق نتنياهو الأحداث باتجاه التوسع الاستيطاني وضم الضفة ؛ سيرحب بانتفاضة جديدة يتعامل معها بالعنف المفرط؛ وحسب تعبير حليفه سموتريتش، ان يهب الفلسطينيون بالسلاح كي نسحقهم بالسلاح. بات التحريض على الفلسطينيين والتعظيم من خطرهم اداة بيد نتنياهو يقهر بها المعارضة بالداخل ويفرض “إصلاح القضاء” كي يفرض سيطرته المطلقة مع حلفائه الفاشيين.
داخل إسرائيل أصدر كل من رئيس الأركان وقائد الشين بيت ومدير الشرطة بيانا وصفوا هجمات المستوطنين العنيفة بأنها “إرهاب قومي بكل معنى الكلمة ” يمارس ضد “مدنيين أبرياء”؛. إثر اغتيال رابين بتحريض من نتنياهو واليمين الفاشي ، ارتفعت في إسرائيل أصوات ضباط امن متقاعدين وقادة عسكريين متقاعدين تطالب بوقف الاستيطان كي لا تغدو إسرائيل دولة أبارتهايد او تفقد طابعها اليهودي إن مُنِح الفلسطينيون حق الاقتراع. لكن تحداهم نتنياهو وواصل مصادرة الأراضي وتوسيع الاستيطان؛ وإذ يستقوي بالوزيرين سموتريتش وبن غفير، وبالصهيونية الدينية، من دعاة التهجير الفوري(، وليس أسيرا لهما كما تزعم فضائيات عربية). تريد طغمة الحكم تشتيت انتباه الرأي العام المحلي والدولي عن مشاكلها وفك أزمتها بتسعير الصدام مع الفلسطينيين ، باعتباره اداة توحيد في الداخل خلف أشد العناصر فاشية .
ما بين 20 و22 حزيران قام ابان كي مون ( سكرتير عام سابق للأمم المتحدة) وماري روبينسون(مفوض سامي سابق للأمم المتحدة لحقوق الإنسان ورئيسة جمهورية إيرلندا سابقا) بزيارة الى فلسطين وإسرائيل ؛ توجها الى المنطقة مبعوثين من هيئة “كبار السن” (الحكماء) شكلها نيلسون مانديلا عام 2007، قوة معنوية من مسئولي الحكومات وأركانها السابقين ومن مؤسسات متعددة الاتجاهات يتولون معالجة معضلات الإنسانية. استشرف المبعوثان هدف معالجة المعضلة الفلسطينية، وأجريا اتصالاتهما في إسرائيل..
لدى مغادرتهما تل أبيب نشر الحكيمان تقريرا قاطعا في مرارته عن الزيارة، أشارا فيه ، انطلاقا من محدثاتهما مع منظمات حقوق الإنسان و من تحرياتهما ، الى “بيّنة تعظم باضطراد ان الأوضاع تلتقي مع التعريف القانوني الدولي للأبارتهايد”. وعندما ناقشا هذه البينة مع مسئولين إسرائيليين،” لم يسمعا تفنيدا مفصلا لبّينة الأبارتهايد”. الخطوط المرشدة لحكومة نتنياهو ، كما أوضح بان وروبنسون تكرس نظام الفصل العنصري تمهيدا للطرد الجماعي.
طاقات فلسطينية مجمدة
استطاع مخيم جنين لوحده التصدي وردع العدوان، بمشاركة جماهير شعبية. يحدث كثيرا انّ تغوّل العدوان وشراسته وتحديه الفظ للمشاعر والقيم ان يستنفر ضده مقاومة تستهين بكل الخسائر المادية، وتعظم طاقتها الكفاحية. كانت المقاومة في جنين ومخيمها مسلحة وشعبية ، وربما حمت المقاومة الشعبية المسلحين وأنقذتهم من المخالب الافتراسية الهمجية. أثبت الصدام في جنين ان المقاومة الفلسطينية ، إذا ما حشدت الاحتياطي المجمد والمقصى عن المشاركة تستطيع رد العدوان وتقليص أضراره؛ فما من داع لشتم المجتمع الدولي أومهاجمة تقصير الدول العربية أو الخارج عموما ، ذلك الذي يدور على الألسنة المرتبكة كلما اعتدت إسرائيل على موقع في فلسطين. كل مجتمع بشري يحل مشاكله وينشد تحرره من الاحتلال، وبشكل عام يطرح المهام السياسية – الاجتماعية باوظيف الامكانات المحلية، يحشد القوى الموجودة حينئذ في المجتمع ذاته ويعبئها؛ فمن نافل القول التعويل على “مجتمع دولي”، أو انتظار أو اشتراط دخول فزعات من الخارج. أما التضامن، إقليميا او امميا، فبقدر كفاحية الداخل يُستنفَر التضامن في الخارج؛ التضامن لا يستجدى وليس عقدا مبرما يستوجب التنفيذ غب الطلب.
الحقيقة ان الجماهير الشعبية برهنت على وطنية عالية تؤهلها للدفاع عن الكرامة الوطنية وانتزاع حق السيادة وتقرير المصير، وهي متحفزة للفعل الثوري. فقد تحركت جماهير واسعة ساخطة على تطاولات الصهاينة وتحديهم بغطرسة القوة المتفوقة. استلهمت الجماهير الشعبية الفلسطينية الدافع الوطني معززا بمخرون خبرتها التقليدية في المشاركة التطوعية. هبت الجماهير الفلسطينية بصور تقليدية تتضامن مع جنين ومخيمها على شكل فزعات من النمط الذي تمارسه الجماهير في حياتها اليومية هنا وهناك. زحف الناس من المخيمات والمدن والبلدات المحيطة الى جنين، تلقائيا بدون قيادة من حزب اوفصيل سياسي، بدون تنظيم يرفع تضامنها الى حراك جماهيري وانتفاضة مناهضة للاحتلال؛ فانتفاضة شعبية تنشر عدواها في المحيط اٌلإقليمي ومن ثم العالمي، شان انتفاضات عربية وفلسطينية سبقت و أجهضت بثورة مضادة تتطلب قيادة قوة تغيير اجتماعي واعية ومنظمة. فاتت على القوى اليسارية، وقد تشكل معظمها في خضم المواجهة المسلحة مع الاحتلال، فاهتمت بتربية الكوادر المقاتلة -التسليح والتدريب على استعمال السلاح- واهملت النشاط في أوساط الجماهير، فرصة تجترح انتفاضة شعبية، او حتى قيادة حراك شعبي يتحول الى انتفاضة تحرك التضامن العالمي؛ قواعد أحزاب اليسار ضعيفة ،إن لم تكن معدومة في أوساط الجماهير الفلسطينية ؛ وبناء القواعد الشعبية للحزب أو الأحزاب السياسية الهادفة للتغيير الاجتماعي هو ثمرة جهد مثابر دؤوب لكوادر الحزب او الأحزاب المثقفة والملمة بسيكولوجيا الجماهير في أوساط الجماهير، نشاط ثوري يسفر عن تربية سياسية ونقل الجماهير من حالة تبخيس الذات الى تحرر الذات و احترام الذات.فوتت القوى اليسارية في فلسطين الفرصة، او فشلت من جديد في قيادة انتفاضة شعبية تحرك التضامن العالمي؛ قواعدها ضعيفة ، إن لم تكن معدومة في أوساط الجماهير الفلسطينية.
تمت هذه التداعيات السلبية في مناخ تشكل إثر قيام السلطة الوطنية عام 1994. طرأث تغيّرات بنيوية على المجتمع الفلسطيني . تحوّلت السلطة إلى المشغّل الرئيسي لنحو 160000 من العاملين في أجهزتها الإدارية والأمنية، وأخضع الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإٌسرائيلي، وتطبع بطابع ريعي، معتمدا بصورة رئيسية على قطاعي العقارات والبنوك، وتراجعت مساهمة القطاعات الإنتاجية، وخصوصاً الزراعي مع نهب الأراضي الزراعية وتقليص الملكيات الزراعية بحيث لم تعد تسد حاجات المزارعين؛ فتضخمت بالنتيجة اعداد العمال الفلسطينيين في إسرائيل وفي المستوطنات.تمت هذه التداعيات السلبية في مناخ تشكل إثر قيام السلطة الوطنية عام 1994. طرأث تغيّرات بنيوية على المجتمع الفلسطيني . تحوّلت السلطة إلى المشغّل الرئيسي لنحو 160000 من العاملين في أجهزتها الإدارية والأمنية، وأخضع الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإٌسرائيلي، وتطبع بطابع ريعي، معتمدا بصورة رئيسية على قطاعي العقارات والبنوك، وتراجعت مساهمة القطاعات الإنتاجية، وخصوصاً الزراعي مع نهب الأراضي الزراعية وتقليص الملكيات الزراعية بحيث لم تعد تسد حاجات المزارعين؛ فتضخمت بالنتيجة اعداد العمال الفلسطينيين في إسرائيل وفي المستوطنات.
ان بناء القواعد الشعبية للحزب أو الأحزاب السياسية الهادفة للتغيير الاجتماعي هو ثمرة جهد مثابر دؤوب لكوادر الحزب أو الأحزاب في أوساط الجماهير، نشاط ثوري يسفر عن تربية سياسية ونقل المعارف للجماهير تتعلق بالوضع الدولي وبقضايا الاقتصاد والسياسية والثقافة والتاريخ والفلسفة إن امكن.لكن الحقيقة المرة ان قوي اليسار مشتتة بسبب ضعف كل منها ونظرا لفقر ثقافي مزمن ابعد عنها المثقفين. وكما كتب المفكر الماركسي الدكتور ماهر الشريف” ترافقت ظاهرة ابتعاد المثقفين عن قوى اليسار مع ضعف العدة الثقافية لقواعد هذه القوى وكوادرها، بل وحتى قياداتها، وذلك جراء الاستخفاف بأهمية التثقيف الحزبي وإهماله وبإهمال التثقيف الحزبي، وافتقاد عدة ثقافية تقدمية متينة، كان من الطبيعي أن يخضع العضو الحزبي اليساري إلى التقاليد والعادات السائدة في المجتمع، حتى الرجعي منها”. يضاف لذلك تقصير اليسار في المجال الاجتماعي والاقتصادي، إذ “لم تعتمد القوى اليسارية برامج تتماشى مع التغيّرات التي طرأت على بنية المجتمع الفلسطيني عقب قيام السلطة الفلسطينية، وخصوصاً تراجع المنظمات الجماهيرية والنقابية والتطوعية التي استند إليها اليسار الفلسطيني في السبعينيات والثمانينيات لصالح المنظمات غير الحكومية التي تكاثر عددها إلى حد كبير، وفقدت طابعها التطوعي وصارت تحصل على تمويل خارجي وتستقطب كوادر اليسار للعمل في صفوفها، وتتبنى برامج متكيفة مع شروط الممولين (فعدد كبير من المنظمات النسوية التي رفعت شعار تمكين المرأة، قصرت هذا التمكين على المجالين الاقتصادي والاجتماعي، ولم تهتم كثيراً، تماشياً مع شروط الممولين، بتمكين المرأة سياسياً وفي النضال ضد الاحتلال).” حتى المنظمات التطوعية التي اكتسبت شعبية واسعة في الدفاع عن الأراضي ضمرت ونراجع نأثيرها بعد أن ألحقت بإدارات حكومية تقودها عناصر من فتح ولا تقيم صلات فاعلة مع المناطق المنكوبة بالتوسع الاستيطاني.
وكذلك الدكتور شرابي رصد خلف النفور من رسالة اليسارتقبع “عوامل التخلف العقلي والقحط العاطفي والشلل الفكري التي احدثتها ثقافة الامبريالية”، وهي ثقافة مكبسلة بخديعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتجد المجال الرحب لها في ثقافة الأبوية وإفرازات أجهزتها والنشاط الاقتصادي التابع لليبرالية الجديدة ونزعاتها الاستهلاكية . وكل من تطاله ترسبات الهدر وتلحقه نزعة الاستهلاكية يغفل عن التحررالذاتي والوطني، ولا تنتابه أشواق الديمقراطية؛ لا يشعر بأية مسئولية اجتماعية. هذه العوامل تستمر “كوابيس تسحق النفسية الاجتماعية والوجدان الجمعي حتى بعد زوال أنظمة الهدر والقهر” . ضمن هذه الحالة على قوى اليسار أن لا تغرق في مستنقع الحيرة ولا تلوم الزمن الرديء؛ رداءة الزمن انعكاس لرداءة من عهدت اليهم المرحلة قيادة حركة التحرر والديمقراطية.
بينت محنة مخيم جنين وفي نابلس وعقبة جبر في أريحا كم هي ضرورية الحركة الجماهيرية الديمقراطية ، والنشاط الجماهيري الواعي والمستنير ، تعم أرجاء فلسطين؛ الحركة الشعبية الديمقراطية لا تشكل فقط الرديف للمقاومة العنفية، بل هي القوة الدافعة للعملية الثورية برمتها. وهذا ما يجب ان تخلص اليه الفصائل لو اعتادت ممارسة النقد الذات.
لكل داء ترياق، وللانسحاق النفسي، الفردي أو الجماعي، ترياق. يستحيل ان يحدث هذا بصورة تلقائية ، ولا يمكن أن تدرك الجماهير ضرورته بصورة تلقائية، مثلما تلمس وتعي سوء الأوضاع المعيشية و عواقب السيطرة الأجنبية. إحلال الصحة النفسية من خلال استنبات الثقة بالنفس لدى الجماهير المسحوقة، واستنهاض العزائم والإرادات هي موضوع علم النفس الإيجابي الذي يتوجب على المناضلين الديمقراطيين وقيادات أحزاب التغيير الاجتماعي الالتفات اليها واستيعابها والاسترشاد بها في نشاط التغيير الاجتماعي.
.بمقدور الشعب الفلسطيني إنجاز واجبه باقتدار إذا ما أحسن تفعيل قوى الاحتياط المجمدة نتيجة خطا في اعتقاد قوى فلسطينية محسوبة على اليسار بأن المشروع الإسرائيلي لا يفشله سوى حشد الطاقات الكفاحية كافة في المجتمع . لا ترى فصائل اليسار ضرورة لإشراك الجماهير في مقاومة مشروع إسرائيل وحملها على التخلي عن مشروعها الإجرامي وتفكيك المستوطنات المقامة على اراضي الشعب الفلسطيني . يضاف لذلك كله عوامل ذاتية تتمثل بإعداد الكوادر الحزبية للعمل في أوساط الجماهير وقيادة تحركها . فقد ألح لينين على ” تكوين المناضل الواعي والثوري” وذلك بوجوب ” أن يرتسم في ذهنه صورة واضحة للطبيعة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المميزة لمالك الأرض ورجل الدين وموظف الدولة الكبير والفلاح والطالب ، ويجب أن يعرف ما هي نقاط القوة ونقاط الضعف في كل منهم ، وان يدرك معنى كل عبارة منمقة ومغالطة تحاول بها كل طبقة أن تموه مساعيها الأنانية وحقيقة ما يعتمل داخلها.” الكفاح المسلح ليس خيارا مزاجيا ولا هو مجرد قوة مقابل قوة ؛ ينبغي فهمه نشاطا اجتماعيا يلتزم بظروف موضوعية وحالة نفسية للجماهير وعلاقات طبقية تنم عن انهيار الثقة بالوضع القائم والإصرار على وضع حد له ، مثلما هو –الكفاح المسلح- ظاهرة اجتماعية تحكم سيرورتها نواميس.
ونظرا لكون مبرر نشوء قوى اليسار ورسالتها التاريخية هو التغيير الاجتماعي الديمقراطي بواسطة جماهير الشعب ولمصلحة الجماهير الشعبية، فإن التغيير الاجتماعي ، كي يكون بلا رجعة، يقتضي تغيير الجماهير الشعبية اولا ونقلها من حالة التبخيس الى السيادة على مجتمعها؛ هذا التحول يتم عبر الممارسة العملية للنضال السياسي والاجتماعي، ونقل الوعي العلمي بطبيعة المجتمع والحياة الاجتماعية والسياسات الدولية وتقديم الثقافة المعرفية والقيمية من خلال الاطلاع على الفنون والآداب، ما يمكن اختزاله بمهمة التربية السياسية والفكرية للجماهير.
حقا، فتحرير الإنسان من قيود التخلف والجهل مشروط بتصفية الاستلاب والإقصاء عن الحياة السياسية، الظاهرتين التقليديتين اللتين ابتليت بهما الجماهيرالعربية والحياة الاجتماعية عبر قرون السيطرة الأبوية المديدة . يستحيل إنجاز التحرر الوطني ومن ثم التحرر الإنساني من قيم التخلف وعلاقاته الاجتماعية وظواهره الاجتماعية – السياسية بدون نقل وعي الذات الى الأفراد والكتل الشعبية ، وعي الاستعباد المادي والروحي في المجتمع الطبقي ، حيث يكتشف الإنسان حقيقة استعباده المأساوي في هذه الحياة كاحد مكونات الحياة الاجتماعية الراهنة الموروثة عن الماضي ؛ ومن ثم ينبغي ان يدرك ان احترام الذات الذي يتوق اليه، ويتراءى امام ناظريه سرابا يتمناه دون إدراكه، إنما يتمثل بادراك الإنسان أنه كائن حر خلاق، حقه الإنساني هو التحرر و الإنطلاق و تحقيق الذات و ربح السعادة في حياته من خلال حرية العمل الخلاق . وبالامكان توظيف التعليم المدرسي والجامعي لتعليم الديمقراطية وسيادة العقل في التفكير والممارسةالاجتماعية ، وصولا الى تحديث الثقافة كشرط أولي لتحديث الحياة الاجتماعية ، وبنائها على منجزات الفكر والعلوم الاجتماعية والطبيعية. احترام الذات الحقيقي ، غير الزائف أوالموهوم، يتحقق من خلال الفعل الجماعي الثوري لتحرير الانسان من الاستغلال والاضطهاد الطبقيين وإنهاء اغترابه ليصبح فيها النظام الاجتماعي كله مكرساً لخدمة الإنسان نفسه على الأرض وهذا هو الهدف الاستراتيجي الموكول لقوى اليسار . وهو المهمة المباشرة للفلسفة الماركسية و لكل حركة ثورية تدرك ضرورة تغيير العالم و ليس الاكتفاء بتفسيره
النشاط السياسي في فلسطين يخضع لرقابة استخبارية إسرائيلية، وان النشاط المسلح محاصر بقوة إسرائيلية مسلحة وبجواسيس يعملون ليل نهار وبمستوطنين ومستعربين اعتادوا السطو المسلح على الشعب والأرض يدعمهم نتنياهو وجيش الاحتلال بكل قوة وجبروت. ورغم العوائق ثبت أن تنظيمات الإسلام السياسي يمكن ان تخوض المقاومة الجادة للاحتلال، لكن بدون نشر ورعاية الديمقراطية وإنشتء حركة شعبية ديمقراطية. التعويل فقط على البندقية وتغييب الجماهير يفقد المقاومة طاقة كفاحية زاخمة وفعالة وقوة الاستمرار. وغياب المقاومة الشعبية ، او ضعفها وعدم تأثيرها في الأحداث، يعزز الميل للنشاط المسلح. لو اعتمدت فصائل اليسار طوال السنوات الماضية ، أو على الأقل استثمرت الدعوة الرسمية وبالإجماع تحريك مقاومة شعبية وتشكيل قيادة جماعية لها ، لو أتبعت قوى اليسار القول بالفعل، شأن اليسار الحقيقي، لأثمر ذلك في نوبة العدوان الهمجي الأخيرة عن انتفاضة شعبية مؤثرة دوليا.
ظواهر تشتت
دأبت فصائل المقاومة المسلحة على الدخول في منافسات ومناكفات بينية تهدر الجهود وتغري بالمزاودات المهلكة، الى جانب مبالغة في إنجازات وفي تقييم القوى الذاتية. لا تقيس الفصائل فاعليتها بالإنجاز ، بل بعدد الشهداء في ساحة المقاومة. بالنتيجة تستخف دعاية الفصائل بالخسائر البشرية، رغم انها بالعشرت واحيانا بالمئات ؛ كما تغفل الخسائر المادية من هدم البيوت وترك عشرات الأسر بدون ماوى. يجري التركيز على خسائر إسرائيل ولو كانت جريحا واحدا. بالنتيجة لم تثبت المقاومة المسلحة في المنازلات الجادة ؛ نزحت المقاومة مضطرة من الأردن ثم انسحبت من لبنان ، وذلك خلال منازلتين تبينت كل منهما عن مبالغة في تقييم القوة الذاتية وتزييف الإنجاز. يبدو ان ظاهرة رفع المعنويات المتخيل لم تفارق الفصائل. في سلسلة مذكرته “دروب المنفى ” تحدث المفكر الفلسطيني الراحل، فيصل حوراني، عن واقعة كان شاهدا عليها، حيث توجه مع فريق صحفي تابع للتلفزيون السوري الى جنوب لبنان لتغطية التصدي لوحدة عسكرية إسرائيلية عبرت أراضي الجنوب. في الطريق عبرلبنان شاهد قادة فصائل في حالة استنفار. وصل موقع تدخل الوحدة الإسرائيلية ليجد الوحدة الإسرائيلية قد غادرت للتو ، وظهر من مخبئهم أفراد وحدة من إحدى الفصائل؛ قال مختار البلدة “والله احنا بنحبهم ، بس لو يدخلوا في مناوشة مع الوحدة المتدخلة”. لدى عودة الفريق الصحفي شاهد كل فصيل يشيد بمأثرة مقاومية في التصدي للمتدخلين وتكبيدهم الخسائر . عبثا حاول إشهار الحقيقة، لكنه لقي الردع إكراما “للمعنويات المرتفعة “.
في العام 2001 بالغت الفصائل في تقييم قواها، وراحت تتوعد بزلزلة الأرض وتعليم إسرائيل درسا لا ينسى، الى ان استباح جيش الاحتلال أراضي الضفة واحكم السيطرة على جميع مناطق فلسطين التاريخية. استطاع شارون خداع الفصائل وجرها الى منازلة عنفية غير متكافئة، وظل يخدعها ويجرجرها باغتيال عناصر من هذا الفصيل اوذاك كي ترد بعمليات “استشهادية” وسط جماهير يهودية؛ لم تحظ باليقظة الثورية لتتوقف وتتامل ما وراء الأكمة، استجابت للتحديات والاستفزازات؛ كانت ردود افعالها ما توقعه شارون وأراده ، حيث تواطأ مع الميديا الامبريالية في الغرب لانتقاء الغمليات الانتحارية فقط من جملة الصدامات الجارية كي تنشر على الجمهور الغربي . بدات “الحرب ضد الإرهاب ” بعد تفجيرات 11/9 /2001 والأخبار الصادرة عن الضفة تظهر ان إسرائيل ضحية “إرهاب فلسطيني”، وتم دمج المقاومة التحررية الفلسطينية ضمن الإرهاب الدولي، وأعلن بوش الابن ان عرفات أساس المشكلة وليس الحل ، ثم صرح باغتياله طوبوغرافية الأرض الفلسطينية لا توفر ملاذا يؤوي المقاومة، حيث تكتسب الخبرة وينصلب عودها ؛ في هذه الحالة تكون التجمعات السكنية عي الملاذ والحضن، شريطة احتدام الحرراك الشعبي ويتصاعد.
تتحدث الفصائل عن وحدة المقاومة ، وفي نفس الوقت تنفرد الفصائل، كل يتحدث عن عملياته؛ وهذا ليس مظهر وحدة، علاوة على انه يسهّل على الأمن الإسرائيلي مهمة الكشف عن الفاعلين وتصفيتهم. الطبيعي ان يتوحد النشاط المسلح قي قوة موحدة تخضع لقيادة مؤهلة .هكذا مضت المقاومة المسلحة لحزب المؤتر الوطني ضد الأبارتهايد في جنوب أفريقيا. تقدم للاشتراك في المنظمة المسلحة صبي ورفض طلبه نظرا لصغر سنه. ولدى انهيار نظام الأبارتهايد انتهى الكفاح المسلح، برز ذلك الصبي، الرجل كريس هاني، القائد العام للتنظيم المسلح، والأمين العام للحزب الشيوعي في جنوب اإفريقيا، والساعد الأيمن لنيلسون مانديلا في توجهه للمصالحة. عائد العمل الموحد اكثر بكثير من مجموع القوى المتآزرة ؛ لكن التنافس بين الفصائل الفلسطينية يبزغ بين ضباب الوحدة المدعاة ؛ يفشي تنافسا محتدما ، حيث تتبع سبلا تستحيل حيالها وحدة المقاومة الفلسطينية؛ فكل فصيل يعلن عن نفسه وبين الفصائل الكبيرة يحدث صراع داخلي ليس فقط على الانفراد بقيادة المقاومة بل لتمثيلها كمرجعية امام الهيئات الدولية . جميعها مجمعة على القيادة الفردية وتجنب المشاركة. هي ظاهرة تاريخية لاحظها الأعداء واستغلوها لتوريط المقاومة في مزاودات مهلكة: فتح نافست قيادة الشقيري بتاجيج المقاومة المسلحة؛ نجحت فتح في الاستيلاء على قيادة منظمة التحرير ، وفرض زعيمها ، ياسر عرفات ، نظاما أبويا ينفرد بسلطة القرار ويرفض المشاركة. ولدى تشكيل اجهزة السلطة ملئت المراكز الرئيسة بكوادر فتح التي غدت حزب السلطة، كما استأثرت بالهيئات الشعبية والنقابات، تشكل إداراتها بقرارات سلطوية أقصت الجماهير عن النشاط الاجتماعي، وباتت المنظمات الشعبية مجرد هيئات إدارية تعيّنها قيادة فتح، شان هيئات الدفاع عن الأراضي ومقاومة الاستيطان والجدار.
ظهرت حماس لتنتزع قيادة المنظمة والهيئات الشعبية من فتح ، وذلك بالمزاودة في العمل المسلح والأعمال الانتحارية ، أثناء ما أطلق عليه الانتفاضة الثانية وانتهت بهزيمة ساحقة للمقاومة ما زالت المقاومة تعاني منها حتى الآن. استغل أيهود باراك فشل مؤتمر كامب ديفيد لجرجرة المظاهرات عام 2000 الى الصدام المسلح؛ اكمل المهمة شارون حين تسلم الحكم بانتخابات شباط 2001، ونجح في استثمار تهافت حماس على الصدارة ، من أجل انتزاع قيادة المقاومة من فتح ، واستدراج المقاومة الى عمليات انتحارية استمرت الى ان استباح مناطق السلطة واحكم جيشه السيطرة على كامل اراضي فلسطين . انتهت “الانتفاضة الثانية” بهزيمة ساحقة للمقاومة الفلسطينية ما زلنا نكابد نتائجها الكارثية. والمراجعة النقدية فريضة غائبة لدى المقاومة الفلسطينيةـ والا خطاء تتكرر خطايا. ويراود الجهاد الإسلامي، كما يتجلى من بياناتها رغبة في تجريب حظها ومنافسة حماس على قيادة النشاط المسلح . وكل ذلك لا يخفي على إسرائيل .
اما الجماهير الفلسطينية فلا يقعدها القنوط؛ لكن لا تتطلع لتحرير الذات واحترام الذات.
تمضي المقاومة الفلسطينية في فترة انتقالية للوضع الدولي ، حيث تتداعى الهيمنة المطلقة للامبريالية على الوضع الدولي يبرز نزوع الى السيادة الوطنية والخروج من أسلر التبعية للامبريالية لدى بلدان آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، ومنها أقطار عربية. في مناخ الانعتاق من التبعية تتعاظم حركة الجماهير وتتردى الهيمنة الامبريالية في المنطقة، الأمر الذي يفعّل البعد الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية ، ويدمجها في حركة عربية للتحرر القومي والديمقراطية والتنمية، مثلما تخسر إسرائيل الكثير من قدرت العدوان والغطرسة المدججة بالقوة المسلحة المتفوقة.
مهما يكن فالأبارتهايد الإسرائيلي بات موضع الاستنكار في بقاع المعمورة، وتنكر وجوده قوى الامبريالية؛ وإذا امكن لإسرائيل وحلفائها التحايل على جمهور وتبرير الاحتلال والضم بمبررات ما زالت تنطلي على ذلك الجمهور، فالتمييز العنصري يعتبر الجريمة الدولية الثانية بعد إبادة الجنس. لا يمكن تبرير الأبارتهايد حتى في نظر الصديق او الحليف؛ علما بانه إحدى الضرورات لدولة صهيونية طبيعتها التمييز العنصري والارتباط العضوي بالامبريالية ، التي تروج في الوقت الراهن لتفوق البيض العنصري والحط من العرقيات والشعوب الملونة. إسرائيل دولة احتلال ودولة امبريالية ودولة ابارتهايد، ثلاثة وجوه ؛ الأبارتهايد هو الوجه الأبشع والمرذول دوليا؛ من خلال التركيز على الأبارتهايد تعزل إسرائيل وتبرز دولة مارقة خارجة على الشرعية الدولية، وطرفا من قوى الهيمنة التي بات قهرها على جدول اعمال قوى دولية متنفذة وهيئات وطنية وأممية .