جنين أَم الاحتلال! بقلم : د. سنية الحسيني
تتصاعد الأحداث الدموية المدوية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بوتيرة متسارعة، كانت جنين آخر معاقل الانفجار خلال اليومين الماضيين، ولن تكون آخرها في الزمان والمكان. ورغم أن جنين تمتلك مقومات خاصة، بالمقارنة بمدن الضفة الغربية، تجعلها تتصدر مشهد الأحداث في فلسطين اليوم، الا أن تطورات الصراع عموماً في الأراضي المحتلة هي المعضلة الحقيقية التي يجب إعادة النظر فيها، لفهم مجرى ومستقبل الأحداث القادمة. ذكرى حدثين مهمين تمر علينا خلال هذه الأيام تضع باختصار حدود المعادلة القائمة اليوم في البلاد، توقيع اتفاق أوسلو قبل ثلاثة عقود، ومعركة جنين قبل ٢١ عاماً، الأول جاء بهدف تحقيق الاستقلال للفلسطينيين عبر طريق سلمي، والثاني جاء رداً على استمرار الاحتلال، وعدم التزامه بتعهداته وفق ذلك الاتفاق. كثير من التطورات حدثت في الأراضي المحتلة خلال تلك العقود السابقة، قد تفسرها دوامة الأحداث المتفجرة، إلا أن حدود المعادلة سابقة الذكر لم تتغير، فالشعب الفلسطيني لن يقبل باستمرار الاحتلال، ومقاومته مستمره، مهما تفنن الاحتلال في قمعها ومساعيه لتغيير واقع الأراضي المحتلة، وخاصة أنه لم ير نتائج تذكر من العملية السلمية.
لم يكن اجتياح جنين خلال اليومين الماضيين مفاجئاً، فتواتر الأحداث منذ العام الماضي، وتصاعدها خلال الأيام القليلة السابقة كان يشير لحتمية المواجهة، ولكن السؤال المهم، هل حققت هذه المواجهة أهدافها؟ لقد غير الاحتلال من تكتيكاته لمواجهة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، ورغم تطور المقاومة وقدرتها تبقى محدودة وبدائية في ظل سيطرة محكمة للاحتلال على جميع مظاهر الحياة في فلسطين. استخدم الاحتلال الطائرات المروحية والمسيّرة لاستهداف المقاتلين الفلسطينيين، والذين كان بالإمكان الوصول اليهم من خلال اجتياح المدينة في أية لحظة، كما هي الطريقة المتعارف عليها، اذ تغير قوات الاحتلال يومياً على أية بقعة في الضفة الغربية لاعتقال المطلوبين او لهدم منازلهم. ورغم هذا التكتيك المستحدث، الا أنه يعكس في نفس الوقت تطور أدوات وقدرات المقاومة الفلسطينية في جنين، التي استطاعت تطوير قدراتها في صد عدوان قوات الاحتلال باستخدام العبوات الناسفة شديدة الانفجار، وفي التحايل على قدراتها الاستخبارية، اذ تقر بعدم معرفتها بشخصيات جميع المقاتلين الفلسطينيين، وفي إطلاق صاروخين بدائيين، يشكل تطويرهما معضلة حقيقية للاحتلال، ناهيك عن عمليات المقاومة الفردية الأخرى. ويقر الاحتلال بإصاباته جراء تطور أدوات المقاومة الفلسطينية، ورغم عملية الاجتياح الأخيرة، وسقوط الشهداء والتدمير الكبير الذي لحق بالمدينة ومخيمها، يؤكد جيش الاحتلال نيته العودة في أية لحظة، لأنه باختصار لم يحقق هدفه بالقضاء على المقاومة في جنين، ولن يحققه، لأن إلغاء وجود وإرادة أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية المحتلة أمر غير قابل للتحقيق.
إن سياسات الاحتلال في الضفة الغربية، والتي اتضحت بجلاء بعد توقيع اتفاق أوسلو، وذلك بتسريع ضم معظم أراضيها، ونقل اليهود إليها، على حساب الفلسطينيين، وهو ما غيّر بالفعل الواقع الجغرافي والديمغرافي فيها، كان من الصعب أن يقابَل بصمت فلسطيني، وهو ما يفسر تصاعد المقاومة خلال تلك السنوات. وجاءت حكومة نتنياهو الجديدة بمكوناتها المتطرفة، التي لم تستطع إخفاء نواياها، لتفجر آخر معاقل الصبر في فلسطين. فالدعوة صراحة والعمل على تسليح المستوطنين، وتكرار جرائم اعتداءاتهم التخريبية على المدن والقرى الفلسطينية والسكان العزل، والعودة للبؤر الاستيطانية المخلاة في شمال البلاد، والبناء فيها، والإعلان عن بناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة، في أنحاء متفرقة من الضفة الغربية، وتزايد عمليات إعدام الفلسطينيين، خارج نطاق القانون، وتصعيد سياسة الاعتقال الإداري، أي دون تهمة أو محاكمة، اذ تخطى عدد المعتقلين الإداريين فقط الألف معتقل، يعد محفزاً منطقياً لتأجيج أي بركان خامد. ويشير استطلاع للرأي أجري مؤخراً إلى أن ٧١ في المائة من الفلسطينيين لم يعد يؤمن بحل الدولتين، و٥٤ في المائة منهم يعتقدون أن المقاومة العسكرية هي طريقهم لتحقيق غاياتهم الوطنية.
سعى الاحتلال طوال السنوات الماضية لمحاصرة الفلسطينيين، وتقليص خياراتهم، وركز بشكل أساسي على تقويض المقاومة المسلحة الفلسطينية، التي تشكل العائق الحقيقي لتحقيق طموحاته غير المشروعة في فلسطين. بدءاً من عهد الانتداب البريطاني، الذي طارد المقاومة الفلسطينية وقمعها بعنف من ناحية، ومكن العصابات الصهيونية عسكرياً، تدريباً وتسليحاً وتصنيعاً، فحسمت المعركة، بإضعاف مقاومة الفلسطينيين. استهدفت حكومات الاحتلال المختلفة الفلسطينيين ومقاومتهم العسكرية وغير العسكرية، فاغتالت الكاتب والرسام والمقاتل، وأنهت وجود المقاومة الفلسطينية المسلحة في خارج فلسطين، ثم وجهت طاقاتها بعد ذلك لحصارها وإضعافها في فلسطين. في جميع الأحوال، مقاومة الاحتلال طريقاً مشروعاً بحكم الشرع والدين والمنطق، وعلى الاحتلال أن يقرر الحدود الزمنية لاستدامة هذه الدوامة من الصراع. ولعل موقف الولايات المتحدة من معركة جنين الأخيرة، يثير السخرية من شدة تناقضه، فبينما تنتقد شفهياً الاستيطان، وتؤكد على أهمية حل الدولتين، تؤكد على حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها، داخل الأراضي التي تحتلها، فأمن إسرائيل مُصان في الأراضي الفلسطينية المحتلة من وجهة نظر أميركية.
طالما اعتبر الاحتلال شمال فلسطين معقل المقاومة في الضفة الغربية، خصوصاً في مدينة نابلس وجنين ومحيطها، فأبرز الهجمات خلال العامين الأخيرين جاءت منها. تاريخياً، تصدت جنين للمحتل، فأحرق نابليون المدينة بعد احتلالها، وطوّق البريطانيون القائد عز الدين القسام وجماعته في محيطها، ودمّر الاحتلال الإسرائيلي مخيم جنين في العام ٢٠٠٢، الذي شهد أعنف هجوم إسرائيلي في تلك الفترة. وتشكل جنين اليوم التحدي الأمني الأكبر للاحتلال، لكنه ليس الوحيد، فالمقاومة المشتركة والموحدة في المدينة تشكل تحدياً أمنياً مهماً للاحتلال فيها، خصوصاً في ظل طبيعة المنطقة المعقدة والحاضنة السكانية المميزة. كما وحدت جنين فلسطين تحت مظلة واحدة، عندما انتفضت مدنها وقراها نصرة لها، مذكرة الاحتلال بأن الاعتداء على بقعة من فلسطين هو اعتداء على جميع الفلسطينيين.