يرى كثير من الباحثين أن الحكاية تعد من أقدم الأشكال الأدبية بصفة عامة، ويرجع البعض تاريخها إلى بدايات الإنسانية، فهي رافقت البشرية من العصور البدائية حتى يومنا. تختزل الحكاية في عمقها عدداً من الأنواع، منها ما يعرف بالحكاية الشعبية أو الحكاية الخرافية ـ الأسطورية ـ وتطور السرد، حتى بات اليوم له أشكال وشروط ومتطلبات كالقصة القصيرة أو الرواية أو حتى ما يعرف بالرواية القصيرة أو القصة الطويلة. وبغض النظر عن جميع تلك المسميات، فالنتيجة واحدة وهي الحكاية، والتي متطلباتها واحدة أو معروفة، ولا يتغير في سياقها إلا الحبكة والحدث والعمق وجوانب الإبداع التي لا تخفى. الشاعر والروائي روبرت لويس ستيفنسون، مؤلف الرواية الشهيرة “جزيرة الكنز”، والذي يعد من رواد القصص المرموقين يقول: “ليس هناك إلا ثلاث طرق لكتابة القصة؛ فقد يأخذ الكاتب حبكة ثم يجعل الشخصيات ملائمة لها أو يأخذ شخصية ويختار الأحداث والمواقف التي تنمي تلك الشخصية أو قد يأخذ جوًا معينًا، ويجعل الفعل والأشخاص تعبر عنه أو تجسده”.
في هذا العصر نشاهد هذا الكم من الإنتاج الروائي والقصصي، والذي يضم بين جنباته الكثير من التطوير والتحديث ومحاولات لا تهدأ من المؤلفين للتميز في طريقة الكتابة، وتناول الأحداث والمواقف، فباتت هناك روايات فلسفية عميقة، قد تقرأها ولا تخرج بصورة واضحة عن أحداثها، بسبب تعقيد لغتها، وطريقة كتابتها. الحكاية الشعبية تختلف تماما في هذا الإطار، فهي تأتي بلغة عفوية واللهجة الدارجة، وسردها واضح، أما أحداثها وتفاصيلها فهي تختزل التشويق، وتتلاطم فيها الأحزان والأفراح، ولكن في عمومها تكون نهاياتها سعيدة ومفرحة.
كنت محظوظة، وأنا أقتني كتاب تحت عنوان: “حكايات خرافية”، من إعداد وجمع الباحث عبدالعزيز المسلم، وقد ضم بين دفتيه، عشر قصص، هي: الربان وابن الأخت، السلطان والسبع، ميره والهام، بنات واق واق، دواء الحمل، عزيز، العنزة السحرية، غدير الغزلان، بديحة. وأنا أقرا هذه الحكايا، بعفويتها وبساطتها التي لم تلغ عمقها وتأثيرها، تبادر إلى ذهني تلك الأجواء الجميلة التي كان الأحفاد يلتفون خلالها حول الجدة لتروي واحدة من تلك القصص، ويبدو أننا ودعنا ذلك الجو الحميمي، فلم نعد نشاهد أو نسمع أو حتى نعرف الحكاي، الذي يلتف حوله أهل الحي من الصغار والكبار لسماع إحدى القصص الخيالية والخرافية. فلقد بتنا مشغولين جداً في حياتنا المادية. وكما يظهر فإن وسائل الاتصال والتحديث المستمر قد ألغت هذا الفن الأدبي الإنساني العميق أو على الأقل حدت منه بشكل كبير.
وغني عن القول إن الحكاية فن ترفيهي ابتكره الإنسان من أجل تمضية الوقت وإيصال رسائل معينة للسامعين. وكما يظهر فإن الحكاية الشعبية لم تعد تروى كالسابق، وانتقلت لتكون من التراث. الذي نستدعيه كلما أخذنا الحنين إلى الماضي والآباء والأجداد، لعلنا نجد ما يسلينا لبعض الوقت عن قسوة الحاضرة وماديته العنيفة.
كما يعلم الجميع فإن التراث لا يقتصر على المأكل والملبس والعادات والتقاليد فقط، بل إن حتى القصص التي كانت تروى في قديم الزمان تعتبر تراثاً يعكس ثقافتنا وماضينا.
أهمية مشروع عبد العزيز المسلم، واسميه مشروع، لأنني أعتقد أن هذه المهمة الجميلة التي تصدى لها، يجب أن تستمر وتتحول إلى مشروع أدبي، ينتج التراث القصصي، إذا لم يكن للخليج برمته فعلى الأقل للإمارات التي هي غنية وثرية بمختلف أنواع القصص والحكايا الشعبية.. أهمية هذا المشروع تكمن في أنه ينقل جانبا مهما جدا من تراث الآباء والأجداد، ويظهر مدى عمق التجربة القديمة ومدى رسوخها، كذلك فإن ظهور الحكاية الشعبية على الرغم من بساطتها وعفويتها إلا أنها تعتبر فناً خالداً وجميلاً، حيث ظهر وبشكل واضح من خلال هذه المجموعة أن المسلم، ترك الراوي يبحر في خياله الخصب، خالقاً شخصيات من لب مجتمعنا، وعارضاً أحداثا من صميم واقعنا، من أجل إيصال عبرة جميلة في النهاية، كالصدق والأمانة والرحمة.. فهو لم يتدخل بتعديلات أو نحوها من المحسنات.
تعتمد القصة الشعبية عادة على بعض من الخيالات الخرافية، وهذا الجانب جاء في أكثر من حكاية من المجموعة، مثل حكاية بنات واق واق والعنزة السحرية وميره والهام.. وكان واضحاً أن الراوي قد حولها من حكاية بسيطة إلى أسطورة. أما لماذا؟ قد يكون السبب في أن الأساطير فيما مضى كانت بديلاً عن العلم، حيث توفر للناس الرغبة في معرفة سبب حصول الظواهر الطبيعية من دون الاستناد على المنطق أو التجربة العلمية، بل عن طريق إطلاق قصة خرافية. وعلى سبيل المثال، فإن بعض القصص تدور حول ظهور وحش مرعب يتسبب في حصول الأعاصير البحرية أو أن بطل القصة يتحلى بقوة خارقة من أجل نشر الأمن والأمان على المدينة، وغيرها من القصص، ومن ثم تتحول إلى أسطورة واعتقاد راسخ.
لدينا نحن العرب أيضاً جملة من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية، كحكايات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، لكن الحكايات الشعبية وعلى الرغم من استنادها على بعض الخرافات أحياناً من أجل إضافة عامل التشويق إلى القصة، إلا أنها أبسط من الأسطورة بكثير، فهي في البداية والنهاية مجرد قصة قصيرة ـ قد تطول ـ باللهجة الدارجة وعفوية من أجل التسلية وتمضية الوقت، تتضمن أحداثا مشوقة، ولكنها من مجتمعنا وواقعنا.
وساهمت الحكايات الشعبية في توطيد الروابط الاجتماعية بما تحمل من قصص عن القيم والروابط الأسرية، وتخلق جواً من التواصل بين الراوي والمستمعين، سواء كانوا أبناءه أو زملاءه، وكانت الحكاية الشعبية عبارة عن انعكاس لهموم المجتمع، حيث تروي ما يقاسيه الصياد من الفقر أو التاجر من الغربة، ومشكلات الأسرة، ومن ثم يوضع الحل في قالب قصصي جميل، حاملاً الكثير من المعاني النبيلة والراقية. وفي هذا السياق ظهرت الحكايات الشعبية كمرآة للمجتمع في الماضي حيث تطلعنا على الطريقة التي كان يفكر فيها، ويعيشها أجدادنا، وتجعلنا ندرك همومهم ومشكلاتهم وطموحاتهم، فهي تراث أصيل وجميل، يتوجب الحفاظ عليه في الكتب واستخدام وسائل التقنية من أجل نشره، فنسيان الماضي والتراث أثناء مد التطور خطأ فادح يرتكب بحق المجتمع، وها هي الحكايات الشعبية التي تتردد على ألسنة ركاب القوافل والصيادين والتجار في الماضي تواجه خطر الاندثار، ومن أجل مكافحة زوال عطر الحكاية الشعبية، كان هذا المنجز السردي التراثي الجميل.
من الأمور الجميلة والمفيدة في هذا المنجز الأدبي التراثي، أن الأديب والمؤلف عبدالعزيز المسلم، حرص على أن يضع في ختام كل حكاية بعض الكلمات ومعانيها، وهي كلمات قديمة تراثية، وقام بتوضيح وشرح معانيها، مثل: البز وهو لفظ إماراتي يعني جميع أنواع الاقمشة. وكلمة المحلوي، والتي تعني في الإمارات بائع الحلوى. وكلمة القلافة وتعني حرفة صناعة السفن الخشبية في الخليج، وغيرها كثير توزعت بين سطور كل حكاية، من هذه المجموعة القصصية التراثية.
شاهد أيضاً
اللجنة الرياضية لمحافظة سلفيت تزور نادي سرطة الرياضي
شفا – بتوجيه من محافظ سلفيت اللواء د.عبدالله كميل، نفذت اللجنة الرياضية في محافظة سلفيت …