أبعد من هدم بناية وترويع مدينة ، بقلم : نهاد ابو غوش
ليس في العالم من يعرف كالفلسطينيين أهمية “البيت” للعائلة وأفرادها بكل ما ينطوي عليه مفهوم “البناية” و”المنزل” و”الدار” من دلالات اجتماعية ونفسية ومادية، فالشعب الذي عايش التشريد والاقتلاع وقاسى ويلات الحروب، أعاد النهوض من وسط رماد النكبة ودمار الحروب التي لا تتوقف، ليبني حياة تجسد صموده وبقاءه وتليق به وبإنسانيته التي يريد الاحتلال استلابها.
كل ذلك مفهوم لنا وللمحتلين ايضا، ولكن هل تبرر شهوة القتل والرغبة في الانتقام تجريد حملة عسكرية هائلة من خمسين آلية عسكرية، ومئات الجنود المسنودين بسلاح الجو والطائرات المسيرة والتكنولوجيا المتقدمة، وهي إمكانيات تكفي لاحتلال مدينة كبيرة، لمجرد هدم بناية عائلة الأسير إسلام الفروخ أو تخريبها بجعلها غير صالحة لسكن أسرته وجيرانه؟
ظاهر الأمر مخالف للمنطق السياسي والعسكري ولكل قواعد العدالة، فلا يُعقل أن دولة تصيح أبواقها ليل نهار عن خطر النووي الإيراني وصواريخ “خيبر” و”الفتاح” البعيدة المدى، وتجري مناورات مستمرة استعدادا لحروب متعددة الجبهات، تصرف طاقاتها العسكرية على مواصلة ملاحقة الفتية الفلسطينيين في أزقة القرى والمخيمات، والتنكيل بالعمال والفلاحين، وحماية المستوطنين لدى قيامهم بحرق المحاصيل وسرقة المواشي، وهدم المنازل الفلسطينية وكأنها منشآت لتخصيب اليورانيوم.
من الناحية القانونية تمثل هذه السياسات الوحشية تمثل مخالفة جوهرية صارخة لكل مبادئ العدالة مثل مبدأ “شخصية العقوبة” المتمثل بحصر العقوبة في الشخص الذي تثبت عليه الإتهامات ولا يمكن إيقاعها على غيره حتى من أقاربه وأفراد أسرته. كما تتناقض هذه العقوبات الهمجية مع مبدأ “قضائية العقوبة” الذي ينص على عدم جواز إيقاع اي عقوبة إلا إذا ورد فيها نص قانوني صريح وصدر القرار عن هيئة قضائية متخصصة، وكما نعلم فإن الأسير الفروخ ما زال موقوفا ولم يصدر بحقه حكم قطعي بعد، بينما تصدر قرارات هدم المنازل الفلسطينية عن ضباط في جيش الاحتلال وتنفّذ بمصادقة وزير الجيش، وهي عقوبات لا تمت لمنطق دولة القانون والمؤسسات بصلة بل هي ممارسات وحشية مستوحاة من تقاليد القرون الغابرة ومَروِيّات التوراة التي سطرها الخيال الجامح.
تستند إسرائيل في تطبيقها لعقوبات هدم المنازل إلى أنظمة الطوارئ الانتدابية التي ما زالت مطبقة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي تمثل إرثا استعماريا قبيحا ومشينا لبريطانيا ولدولة الاحتلال التي ما زال الغرب ينظر لها كواحة للديمقراطية في صحرائنا الشرق الأوسطية مع أن كل الوقائع تؤكد أن استمرار تطبيق نظامين قانونيين متمايزين في نفس البقعة الجغرافية، ولفترة زمنية طويلة وممتدة هو أجلى التعبيرات الصارخة عن نظام الفصل والتمييز العنصري (الأبارتهايد) المقترن بالاحتلال الكولونيالي.
ومع أن وسائل الإعلام العالمية والإقليمية تنظر لاستباحة مدينة رام الله من زاوية العلاقة بمكانة هذه المدينة كمركز لمؤسسات السلطة وقياداتها، وما يمثله ذلك من استفزاز للسلطة واستخفافا بوجودها، إلا أن ذلك يجب ألا يمنعنا من رؤية الصورة الكاملة من حيث كون العملية جزءا من الهجوم الشامل الذي تشنه حكومة التطرف الفاشي في إسرائيل على كل ما هو فلسطيني لجملة من الأسباب الداخلية والخارجية. فعلى الصعيد الداخلي الإسرائيلي تهدف الحملة لاستعادة صورة القوة، وبث رسائل طمأنة للجمهور الإسرائيلي الذي لم يعد يثق في قدرة حكومته على توفير الأمن، وإثبات أن يد إسرائيل الطويلة قادرة على الوصول إلى اي مكان مهما كلف الأمر، ومن الأسباب التي تدفع إسرائيل لتنفيذ مثل هذه العمليات كذلك إبقاء الجمهور الإسرائيلي مشدودا للتحديات والمخاطر الأمنية والعسكرية، وتنصُّل دولة الاحتلال من أية استحقاقات سياسية من خلال إيهام العالم بأن إسرائيل تواجه تهديدات وجودية.
بالنسبة للفلسطينيين تحمل العملية جملة من الرسائل: أولها ترسيخ مبدا الردع الإسرائيلي الذي يقوم على تدفيع الشعب الفلسطيني كله ضريبة دعمه للمقاومة وتمجيده لها، إنها وسيلة لردع الشعب وترهيبه، ودفع كل من يفكر بالمقاومة إلى أن يأخذ في حسابه أن أهله وأقرب الناس له سوف يدفعون ثمن قراره وأفعاله، بهدم منزلهم والتضييق على حياتهم في كل شيء بما في ذلك تصاريح العمل والسفر، وبالتالي خلق قناعة لدى فئات واسعة من الناس بأن المقاومة هي عبء عليهم وليست وسيلة لتحقيق أهدافهم ولا هي رافعة لبرنامجهم الوطني.
وهذه العملية هي جزء من الهجمة السياسية والعسكرية الرامية لتنفيذ مشروع حسم الصراع بقوة الحديد والنار وليس عن طريق المفاوضات، وهي بالتالي حلقة في مسلسل الاجتياحات وعمليات القتل اليومي ونهب الأراضي الفلسطينية، وإبقاء الفلسطينيين طوال الوقت تحت وقع الضربات، يلاحقون نتائج العدوان، ويفكرون بالنجاة بأنفسهم وأطفالهم.
تدرك إسرائيل أن هذه العملية، مثل سائر عمليات اجتياح المدن وتنفيذ عمليات الإعدام والاعتقالات والهدم وحتى إغلاق المؤسسات بالشمع الأحمر، تحرج السلطة وتضعفها وتظهرها عاجزة عن حماية شعبها، وهذا يتناقض تماما مع التصريحات المخادعة التي يطلقها بعض المسؤولين الإسرائيليين عن ضرورة دعم السلطة، ومع التفاهمات التي تبرمها إسرائيل مع أطراف دولية وإقليمية وحتى مع السلطة نفسها كما جرى في اجتماعات العقبة وشرم الشيخ. لكن إسرائيل ترمي من وراء ذلك إلى توجيه رسائل أخرى وتحقيق أهداف سياسية واضحة، فهي تقول للسلطة الفلسطينية بلغة النار والرصاص: إذا لم تبادري أيتها السلطة إلى كبح المقاومة ومنعها واعتقال المقاومين وجمع السلاح، فإن الجيش الإسرائيلي سوف يقوم بهذه المهمة بنفسه، بصرف النظر عن النتائج . وذلك جزء من ضغط مستمر ومتواصل على السلطة لإضعافها واختزال دورها إلى مجرد وكيل أمني وحاجز بين دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني، وليست نواة لمشروع وطني فلسطيني.
عملية رام الله التي أسفرت عن إصابة عشرات المواطنين بجروح، ومواجهات واسعة شملت عدة أحياء في المدينة ومحيطها، لم تمر بسهولة ويسر كما خطط لها، بل شهدت مقاومة بطولية وإن كانت عفوية وبوسائل محدودة وبدائية، ولأنها لن تكون الأولى ولا الأخيرة يصبح من واجب جميع القوى والهيئات الفلسطينية التحضير لكيفية التصدي لعمليات مشابهة ومتوقعة قريبة، بدلا من إصدار بيانات الشجب والتخوين الجاهزة والمعدة سلفا.