نائبة بايدن في مرمى “نيرانٍ” إسرائيلية ، بقلم : محمود الريماوي
تعرّضت نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، لحملة إسرائيلية شعواء، على خلفية انتقادها المخفّف خطّة الحد من صلاحيات القضاء الإسرائيلي، في موقفٍ لها ينسجم مع موقف الإدارة الديمقراطية التي تعارض خطّة الائتلاف الأشد يمينية، بقيادة زعيم الليكود بنيامين نتنياهو. وقد عمد وزير الخارجية الإسرائيلية، إيلي كوهين، إلى التقليل من مكانة هاريس ومداركها عندما أعلن أنها تجهل الخطة موضوع الجدل في تل أبيب، وأنها عاجزة عن تحديد بند واحد في الخطة للاعتراض عليه. وهاريس مثل الرئيس بايدن مؤيدة تقليدية لدولة الاحتلال وللحركة الصهيونية، وتعدّ من الجناح اليميني في الحزب الديمقراطي الأميركي، غير أن ذلك لا يشفع لها لدى النسخة الجديدة من اليمين الإسرائيلي الاستيطاني. وإلى جانب هاريس، يتعرّض السفير الأميركي في تل أبيب، توماس نايدز، إلى حملاتٍ متواصلة من أطراف هذا اليمين بداعي أنه يدسّ أنفه في شؤون داخلية إسرائيلية. وتلاقي خطة إصلاح القضاء موجة كبيرة من الاحتجاجات حتى داخل صفوف اليمين الرسمي الإشكنازي، وهو ما عبّر عنه وزير الدفاع السابق، بيني غانتس، بأنه ستتم زلزلة كيان الدولة إذا ما جرى المضي في خطة السيطرة الحكومية على القضاء. وبينما جمدت الخطة، فإن حكومة نتنياهو أعلنت عن التمسّك بها، وهو ما يثير ثائرة المحتجّين الذين يطالبون بالتخلي التام عن الخطّة، وليس مجرّد تجميدها أو تأجيلها. ولطالما عبّر البيت الأبيض عن ما يعتبره القناعة بأن التشارك في “القيم الديمقراطية” مع الدولة العبرية يُملي التحذير من نتائج هذه الخطّة والتحفّظ عليها.
من النادر أن يعمد حلفاء واشنطن إلى انتقادها علناً، وإذا ما فعلوا، فإنهم يتعرّضون إلى عقوبات كحال تركيا، أو على الأقل إلى حملات من الكونغرس، غير أن الجناح الأكثر صلفاً في اليمين الإسرائيلي لا يتوانى عن توجيه انتقاداتٍ لاذعة إلى واشنطن، من دون أن يثير ذلك أية تفاعلات تُذكر سوى بعض مقالات الرأي التحليلية. وقبل أقل من عام على بدء الحملات الانتخابية الرئاسية، يتسابق الحزبان الكبيران، الجمهوري والديمقراطي، في إعلان الولاء للدولة العبرية، ويبادر بعض المترشّحين غير الرسميين بزيارتها. وقد حافظت إدارة بايدن على إجراءات الرئيس السابق دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل (مع إمكانية أن يكون جزء منها عاصمة لدولة فلسطينية في المستقبل)، وواصلت السفارة الأميركية عملها من القدس، وتراجعت الإدارة عن فتح قنصلية أميركية في القدس الشرقية لخدمة المواطنين الفلسطينيين في المدينة، واستعاضت عن ذلك بقسم خاص داخل السفارة الأميركية للتعامل مع الفلسطينيين، مع ربط القسم مباشرة بوزارة الخارجية في واشنطن.
وبينما يواظب المسؤولون في الإدارة، وخصوصاً رئيس الدبلوماسية، أنتوني بيلنكن، على إبداء التمسّك بحل الدولتين، إلا أن حكومة نتنياهو تتصرّف على أن هذا الموقف لا يستحقّ الإصغاء إليه. وقد خفّفت الإدارة من انتقاداتها الاستيطان، رغم الجموح الاستيطاني المتزايد، واستعاضت واشنطن عن ذلك بالإعراب عن تحفّظها على وجود وزيري الأمن والمالية، أيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، في صفوف حكومة نتنياهو، ووجدت من طرفها مخرجاً لذلك بالقول إن موقفها من الوزيرين الأشد تطرفاً لا ينسحب على الموقف من الحكومة ككل التي تواظب على التواصل معها، وهو ما تشاطر دول الاتحاد الأوروبي واشنطن به، بينما تعزف واشنطن عن أي دفع إلى حلّ الدولتين في مجلس الأمن أو خارجه.
وقد برز منذ نحو عام خلاف بين واشنطن وتل أبيب على خلفية جريمة اغتيال الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، غير أن واشنطن لم تتخذ أي إجراء ضد الطرف الذي تجتمع القرائن ضده، خلافاً لما تُعرف من مواقف أميركية مناصرة لحرية الصحافة والصحافيين وسلامتهم، وقد طالب، أخيراً، سناتور أميركي، هو كريس فان هولن (ديمقراطي) بالكشف عن تفاصيل التحقيق الذي أجراه المنسق الأمني الأميركي لإسرائيل والسلطة الفلسطينية، لكن التقرير ما زال يخضع للسرّية، بحسب بيان النائب العضو في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ. وإلى أبو عاقلة، يعتبر استهداف الصحافيين الفلسطينيين والأجانب منهجاً ثابتاً لدى حكومات الاحتلال، وتترك واشنطن للمنظمات الحقوقية مهمة انتقاد هذه الإجراءات وإدانتها، مع الامتناع عن اتخاذ أي إجراءات بهذا الشأن، وذلك رغم الادّعاء أن واشنطن وتل أبيب تتقاسمان القيم الديمقراطية، وحيث تقع حرية الصحافة في القلب من هذه القيم.
وبينما تميل قواعد الحزب الديمقراطي، وخصوصاً لدى الأجيال الشابة، إلى مناصرة العدالة في فلسطين، يتعرّض المجاهرون بهذه الآراء لحملات شرسة في الكونغرس وفي الجامعات، ويجري استخدام تهمة معاداة السامية على نطاق واسع وأوتوماتيكي لإسكات أي انتقاد لإسرائيل، وبما يجعل هذه الدولة المارقة دوناً عن بقية الدول فوق النقد وخارج المساءلة، وهذا بمنزلة مرض سياسي تفشل النخب المتنفذة بواشنطن في الشفاء منه أو حتى الاعتراف به. وتكتفي إدارة الرئيس بايدن بالتعبير عن مواقف رمزية انتقادية لتل أبيب بين آونة وأخرى. ولعل أوضح هذه المواقف امتناع البيت الأبيض عن توجيه دعوة لنتنياهو للقاء الرئيس بايدن، وذلك خلافاً للعُرف المتّبع بدعوة رؤساء الحكومات الإسرائيلية إلى واشنطن بعد أسابيع من إشغالهم هذا المنصب، وهو ما لم يحدُث هذه المرّة، وبعد نحو تسعة أشهر على تشكيل نتنياهو حكومة أقصى اليمين.
ولعل بايدن هو المقصود بالحملة المريرة على نائبته هاريس، إذ دأبت واشنطن على استقبال وزراء ومسؤولين سياسيين وأمنيين إسرائيليين، ولكن من دون توجيه دعوة إلى رئيس الحكومة نتنياهو الذي عرف عنه تفاهمه الوثيق مع الرئيس السابق ترامب، وإخراجهما معاً ما سمّي بصفقة القرن التي وضعتها الإدارة الحالية جانباً. كما نشأ تفاهم عميق بين الرجلين بخصوص الملف النووي الإيراني، وكان التخلي الأميركي عن الاتفاق الغربي مع طهران أوضح عناوين الانسجام بين ترامب ونتنياهو وحتى نهاية ولايتي الرجلين. وبينما يتعرّض ترامب لملاحقات قضائية قد تسدّ عليه الطريق أمام ترشيحه في العام المقبل، فإن في الإمكان، في ضوء ذلك، فهم التحفّظات الأميركية الثابتة على خطّة نتنياهو وحلفائه بخصوص القضاء. وليس سرّاً أن المحتجّين في شوارع تل أبيب على هذه الخطّة يستقوون بالموقف الأميركي الناقد لها، وهو ما حمل بعض غلاة المتشدّدين في تل أبيب على اتهام واشنطن بأنها وراء هذه الاحتجاجات، علماً أن هذه الاعتراضات قديمة، وتعود إلى فترة الحكومة السابقة لنتنياهو، وكل ما في الأمر أن هذه الاعتراضات على الرجل وجدت وقوداً جديداً لها في خطة إصلاح القضاء.
على هذا النحو، تتأرجح العلاقات بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، وذلك بمزيج من الفتور السياسي والالتزام الاستراتيجي، وهو أقصى ما تجود به هذه الإدارة إزاء الدولة التي تضرب أحكام القانون الدولي عرض الحائط.