قضية فلسطين في التصور السياسي الأرجنتيني: الفكر المناهض للإمبريالية من الحرب الباردة إلى النظام النيوليبرالي
جيسيكا ستيتس مورا…. ترجمة: محمود الصباغ
في العام 2003، وأثناء المظاهرات والمسيرات المناهضة للعولمة في الأرجنتين، قامت مجموعة صغيرة، تنتمي لإحدى الجماعات السياسية الناشطة في البلاد، تبنت، إلى وضع الكوفية [الفلسطينية] لتكون رمزاُ لهم كهوية جماعية لتمييز أنفسهم عن بقية المجموعات الأخرى من المتظاهرين.
ومن المعروف أن هذا الوشاح المخطط بالأبيض والأسود، والذي يعد جزءً من اللباس الفلسطيني التقليدي في الشرق الأوسط، بات منذ زمن بعيد رمزاً للقضية الوطنية الفلسطينية وأيضاً لعناصر المقاومة الراديكالية الذين ينتمون للطبقات الاجتماعية الدنيا، ليس فقط في الأرجنتين، بل في أجزاء عديدة من العالم(1).
وكان باستطاعتنا مشاهدة المتظاهرون وهم يعبرون شوارع العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس ليعبروا عن تعاطفهم مع نضال الشعب الفلسطيني ” فلسطينيوننا nuestros Palestinos”، بوصفه جزءً عضوياً من نضال مشترك ضد الاضطهاد وضد سياسات قوى الإمبريالية العالمية، بما يشبه نضالهم على الصعيد المحلي ضد المظالم التي يتعرضون لها. وشكّل هذا التضامن العابر للحدود مع فلسطين، من الاحتجاج على إنشاء دولة إسرائيل في العام 1947 إلى مظاهرات التضامن الحالية مع حملات القوارب لفك الحصار في غزة، جزءً من سياسات اليسار في الأرجنتين. وسوف نتناول هنا تاريخ تعيين التضامن مع مصير الشعب الفلسطيني في الأرجنتين، كمثال على التعبئة السياسية عبر الأطراف [مقابل المراكز] المتخيلة لجنوب الكرة الأرضية(2).
لطالما انخرط التضامن العابر للحدود في أعمال تموضع إيديولوجي بالنسبة لليسار في الأرجنتين، من الجمعيات المدنية المناهضة للفاشية وتنظيم العمل النقابي الفوضوي[الأناركي] وصولاً إلى الشبكات المؤثرة من المثقفين ونشاط وسائل الإعلام الداعية إلى العصيان(3).
ورغم زيادة الأدبيات المتعلقة بهذا النشاط التضامني العابر للحدود، إلا أنه لم يحظ باهتمام كبير بخصوص علاقات دول جنوب- جنوب. وثمة عدد قليل جداً من الدراسات تناولت التضامن السياسي من منظور التاريخ الثقافي(4). وسوف نستخدم هنا مثل هذا المنظور الثقافي بهدف الكشف، من وجهة نظر المجال الرمزي، ومن خلال اللقاءات الإنسانية للأبنية الشبكية، عن التصاميم التي يمكن تتبعها للسياسات التضامنية. كما سوف نعمل على “استخراج المتخيل” (بدلاً من تقصي الحقائق)(5).والكشف عن التصورات السياسية التي تم حشدها لخدمة المسؤولية السياسية الخارجية. كما سوف نقرأ هذه التصورات بوساطة التفاهمات حول “المسألة الفلسطينية” عبر اللقاءات المتقطعة وغير المنتظمة لليسار الأرجنتيني مع جامعة الدول العربية ومنظمة الدول العربية وحركة عدم الانحياز، خلال فترة الحرب الباردة وصولاً إلى النظام النيوليبرالي.
وسوف نتبع هنا أيضاً، التقدم النظري الذي تحقق من خلال دراستين حديثتين لشبكة علاقات منظمة التحرير الفلسطينية على الصعيد الدولي، حين سلطتا كل من هاتين الدراستين الضوء على طرق التعاطف الرئيسية ضمن ما يحدد فيه “اليسار العالمي” مطابقة أهدافه ونضاله مع نضال القضية الفلسطينية. وتتساءل الدراستان عن مدى تميز اليسار الأرجنتيني ضمن وإزاء هذا الإطار العالمي.
ويؤكد بول تشامبرلين، في عمله الرائد، الهجوم العالمي The Global Offensive، سعي منظمة التحرير الفلسطينية لجذب دعم لصالحها من خلال نقل معاني النضال السياسي، مما مكنها من تشكيل تحالفات استراتيجية عبر العالم الثالث. كما يشير، بدرجة كبيرة، إلى أن انتشار حملات التضامن حول العالم إنما يعود لجهود السلطة الفلسطينية، وكذلك لسياسات إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة (بوصفهما من الإعداء الأوقياء لمعسكر الاستعمار الجديد)(6). وكان ديفيد لويد ولورا بوليدو، قد أشارا، في دراستهما عن الصلات بين حركة شيكانو Chicano والفلسطينيين، إلى استناد ظاهرة التضامن على “تمايز تجارب الاضطهاد، والنضال ضد أنظمة الهيمنة العالمية مثل الإمبريالية والرأسمالية”(7). أما بخصوص النزعة القومية لدى الفلسطينيين، يرى لويد وبوليدو أن غير المعنيين بهذه النزعة سوف يجدون صراعاً غير مكتمل ضد مسائل الفصل العنصري (الأبارتيد)، يسلط الضوء على قضايا مُنع النقاش فيها سابقاً مثل قضية شعب الشيكانو ومجتمعات السكان الأصليين الذين يعيشون في المناطق الحدودية في الولايات المتحدة. ويشير لويد وبوليدو إلى أن النضال الفلسطيني على أساس وصفه كفاحاً يبلور مفهوم المواطنة غير المتكافئة، مثل إنكار حقوق الملكية أو التنقل أو التوطن(8)، مما يخلق طبقة عاملة محرومة لا تتمتع بحقوقها.
ويعبّر السلوك التضامني في الأرجنتين، كما في أي مكان آخر، عن ممارسة مركزية لقوى اليسار “لا غنى عنها لاستمرار نشاط وفعالية الحركات الاجتماعية والسياسية الراديكالية”(9).
وقد سعت قوى اليسار الأرجنتيني، خلال فترة الحرب الباردة، إلى إعادة صياغة هوية جديدة يمكن تحقيقها سياسياً في ظل الأزمة الداخلية والاضطهاد الخارجي.
ووجدت القوى اليسارية، من خلال وضع الخبرات السياسية المحلية في سياق نضالات “التحرر الوطني”، مقاربة جديدة لإعادة النظر في تاريخ اليسار الخاص بالفكر المناهض للإمبريالية وإعادة تموضعه. وبهذا، وعبر استخدامه لتقنيات حياتية عن التمثيل وثقافات ابتكار المعنى السياسي، تمكن اليسار الجديد الناشئ من ملائمة مطالبه لجهة منظومة الاقتصاد السياسي المتحول وغير المستقر لفترة الحرب الباردة ولجهة مجموعة متنوعة من الممارسات اليسارية. وسوف نجادل هنا بأن تمثيلات اليسار للقضية الفلسطينية وفّرت مجالًا يمكن من خلاله رسم استراتيجيات سياسية تدور حول القيم والتفكير الأخلاقي وأنماط التمثيل الذاتي.
اعتبارات اليسار الراديكالي الأرجنتيني لمنظمة التحرير الفلسطينية
اجتمع في العام 1941، عدد من المهاجرين العرب من الأمريكيتين في بوينس آيرس لمناقشة الاستعمار الأوروبي في أوطانهم الأصلية، ونشروا إعلاناً يدين إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين(10).
وقد أظهرت الدولة الأرجنتينية ثباتها الفعلي من خلال التعبير عن موقف محايد اتجاه أطراف الصراع المعنية عندما أعلنت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين في العام 1947 قرار التقسيم الرسمي لأراضي الانتداب البريطاني السابق إلى دولتين منفصلتين، يهودية وعربية(11). وكان الدافع وراء موقف الأرجنتين يعود ،جزئياً، إلى رفضها الاستجابة لإملاءات الحلفاء في أعقاب الحرب العالمية الثانية(12)، كما كان يقف وراء هذا تاريخ طويل عرفته البلد من خلال هجرة كل من العرب واليهود إليها، مما جعلها تحافظ على روابط سياسية واجتماعية اقتصادية مهمة مع المجموعات المنافسة في الشرق الأوسط(13). وفي العام 1948 اقترحت الأرجنتين كوجهة محتملة لجلب اللاجئين الفلسطينيين الذين تشردوا بسبب قيام دولة إسرائيل، مثلما اقترحت، قبل ذلك بعقود، كوجهة محتملة لاستقبال اليهود العاربين من الاضطهاد في أوروبا(14). وعموماً، بدأت تظهر هنا، بعد قرار التقسيم، أولى الحملات المؤيدة لفلسطين التي ارتبط معظمها بالجمعيات المدنية للجاليات السورية- اللبنانية الكبيرة في مدينة بوينس آيرس(15). وعلى الرغم مما لاقته هذه الأنشطة من بعض النجاحات القليلة هنا وهناك، فقد بقيت محصورة ومحدودة بين أفراد الشتات [العربي] في الأرجنتين، وبعيدة عن مسارات النضال المناهض للإمبريالية لليسار السياسي. ومع ازدياد حدة التنافس بين الدول العربية مع بداية خمسينيات القرن الماضي، أصبح العديد من اليساريين الأرجنتينيين، لا سيما الشيوعيين والاشتراكيين وجماعة اليسار الراديكالي الآخذة في النمو، أكثر تشككاً في نوايا إدارة بيرون تجاه بالمنطقة وبدأوا في الالتفات إلى الشتات الفلسطيني للبحث عن إجابات لتساؤلاتهم.
وبينما حاولت كل من مصر والعراق “إنشاء” كيانات فلسطينية “تابعة لهما”(16)، استغل الاتحاد السوفيتي الصراع العربي الإسرائيلي للتفاوض على بناء علاقات جديدة مع الدول العربية(17)، مما أثار الكثير من التردد في أذهان اليساريين بشأن كيفية انعكاس الصراع على العلاقات الجيوستراتيجية الأوسع والخطط الإمبريالية.
أبدى اليسار الأرجنتيني الراديكالي، خلال هذه الفترة، مزيداً من الشكوك الصريحة أتت في تصريحات بعض الشخصيات البارزة والمرموقة في العالم الثالث بشأن السياسات الثورية ومزاعم معاداة الإمبريالية، ومن بينهم شخصيات ورموز مؤثرة محسوبة على تيار العروبة، وقد أكدت دورية “بالابرا أوبريرا Palabra Obrera ” ([بمعنى كلمة العمال] (والتي تمثل الصوت الإعلامي لجماعة “العمال الثوريين: التروتسكيين في الأرجنتين، الذين اصبحوا فيها بعد يعرفون باسم حزب العمال Partido Obrero (PO)) منذ العام 1959 ) أن كاسترو كان مؤيداً للإمبريالية، ولطالما تحدثت الدورية ضد توجهات كاسترو، القومية وانفتاحه الدولي.
كما وصف الحزب كل من ناصر، ونهرو، وكارديناس، وبيرون، وكاسترو بهذه التمظهرات “البونابرتية”، و أن هؤلاء القادة الثوريين قاموا بنقل السلطة من قطاع برجوازي إلى آخر(18).
وفي المقابل دعم حزب العمال احتلال الأرض الزراعية و “نقابة الفلاحين sindicalismo campesino”، وإرسال المقاتلين إلى بيرو، على سبيل المثال، للمساعدة في احتلال الأراضي الريفية في منطقة كوزكو.Cuzco.
كما ساجل الحزب بخصوص المقاومة الفلسطينية اتجاه العروبة واتجاه أشكال أخرى من النزعات القومية اليسارية.
وسوف يساعد موقف الحزب الإيديولوجي في تشكيل معظم الأنشطة اليسارية في الأرجنتين، لاسيما بعد انضمامه في العام 1963 إلى الجبهة الثورية للشعوب الهندية الأمريكية Frente Revolucionario Indoamericano Popular مع القوى الأخرى ليصبح اسمه حزب العمال الثوري Partido Revolucionario de los Trabajadores (PRT)
اليسار المتشدد، كحالة تنظيمية منظورة
كانت استجابة حزب العمال الثوري(PRT) لقضايا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر علاقته بحركة فتح التي تمثل مشروع الشتات القومي ل ياسر عرفات ، والتي كانت بداياتها تعود للعام 1958 في الكويت وقطر، وهما دولتان هامشيتان في الشرق الأوسط العربي، وبحلول العام 1962، بدأت الحركة بإصدار نشرتها الإعلامية الخاصة “فلسطيننا”، وأنشأت مكتباً لها في العاصمة الجزائرية، عاصمة العالم المحرر ما بعد الاستعمار. وفي كانون الثاني1964، في القمة الأولى لجامعة الدول العربية في القاهرة، شهد الشتات الفلسطيني، لاسيما في مخيمات اللاجئين، تصعيداً في المشاعر القومية، مما أدى إلى خلق “كيان وشخصية” فلسطينية.
وسوف يحل هذا الكيان الذي سيعرف باسم منظمة التحرير الفلسطينية محل اللجنة العربية العليا التي كانت مسؤولة عن النضال الفلسطيني منذ الحرب العربية الإسرائيلية 1947-1948، مما يسمح، نظرياً، من خلال خلق هذه المنظمة، الحفاظ على درجة أكبر من الاستقلالية للفلسطينيين. ورغم أن هذا الكيان الجديد سيكون تحت رعاية جامعة الدول العربية، إلا أن ظهوره مثل بروزاً واضحاً لدور اللاجئين الفلسطينيين ضمن الصراع.
كانت الصين الماوية أول دولة تمنح منظمة التحرير الفلسطينية اعترافاً دبلوماسياً، وتقدم لها دعماً عسكرياً ودعائياً(19).
لم تدعم المنظمات اليسارية الأرجنتينية، مثل بقايا حزب العمال (PO) وحزب العمال الثوري(PRT)، منظمة التحرير الفلسطينية بصورة تامة إلا بعد قيام المنظمة بتمييز نفسها ككيان مستقل فعلاً عن جامعة الدول العربية.
كان الانقسام الصيني السوفييتي يميل، في الأرجنتين، لأن يكون خطاً فاصلاً مهماً للكثير من اليساريين في سياق التعبير عن مواقفهم الإيديولوجية المتنامية.
وانتقدت بعض فصائل اليسار الاتحاد السوفيتي من خلال اتهامه بعدم معرفة ما يحدث في العالم الثالث في حقبة ما بعد الاستعمار، بينما شكك البعض الآخر في إصرار الصين على محاولتها لعب دور قيادي في حركات العالم الثالث في اجتماعات باندونغ والقاهرة التي سبقت تشكيل حركة عدم الانحياز(20) . وكان يشاع، ضمن إطار السياق الأوسع للسياسة اليسارية في فترة الحرب الباردة، أن صراع منظمة التحرير الفلسطينية يعتمد على مقاومة الإمبريالية السوفيتية في الشرق الأوسط، واقترح بدلاً من ذلك، نزعة ماويّة داخل حركة القومية العربية، ولم تتضح هذه الأمور إلى حد ما إلا بعد تأييد ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1964، والذي تم تعديله لاحقاً في العام 1968، عملية التحرير الوطني من خلال الكفاح المسلح، والإعلان عن عدم شرعية قرار التقسيم والحث على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. وقد أيدت حركة فتح بقيادة ياسر عرفات، قبل انضمامها إلى منظمة التحرير الفلسطينية، نهج حرب عصابات” guerrilla ” طويلة الأمد ضد إسرائيل. كانت فتح واضحة أيضاً في أنها تهدف إلى فلسطنة الصراع، وبالتالي فصل قضية فلسطين عن الصراع الإقليمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. كانت استراتيجية عرفات، في تلك الفترة المبكرة، واضحة لقادة اليسار في أمريكا اللاتينية، مثل ماريو سانتوتشو، مؤسس حزب العمال الثوري (PRT)، الذين اعترفوا به كممثل حقيقي للقضية، بفضل تاريخه القوي المستمد من تأسيسه للحركة الطلابية وقيادتها والنضال ضمن صفوفها وضمن صفوف الحركة النقابية العمالية للشتات الفلسطيني(21)، بالإضافة إلى اعتراف وتثمين العديد من كوادر حزب العمال الثوري وغيرهم من اليساريين رفض حركته [فتح] التورط في الصراع والتنافس الإمبريالي الناتج عن الحرب الباردة. وبالتالي أصبح تقرير المصير الفلسطيني، على هذا النحو، القضية الرئيسية التي تبناها الشيوعيون الأرجنتينيون، بمن فيهم العديد من الجماعات الشيوعية الراديكالية، لا سيما بعد نأي الحزب الشيوعي الأرجنتيني بنفسه بعيداً عن هوية اليسار الغيفارية التي باتت تعرف باسم “الموقف الثالث/الطريق الثالث” في حركة عدم الانحياز(22).
أنشأت جامعة الدول العربية، مكتباً إعلامياً في بوينس آيرس في العام 1964 وبدأت توزيع سلسلة نشرات وكتيبات وكتب ومجلات تثقيفية عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الأمر الذي سمح لعناصر اليسار الأرجنتيني الحصول على معلومات أوفر حول الشؤون السياسية في الشرق الأوسط. الشرق(23).
وعندما انضمت فتح أخيراً إلى منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1968، سرعان ما فرضت سيطرتها على المؤتمر الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية للمنظمة، فاندمجت أخيراً المُثُل الطوباوية المتعارضة في قضية واحدة: حيث قوبلت، أخيراً، الدعوة إلى تقرير المصير والتحرر الوطني بدعوة الحركات الطلابية والعمالية التي جعلت تنظيم عرفات ناجحاً سياسياً في الشتات. وفي العام 1969، انتخب عرفات رئيساً لمنظمة التحرير، ومنذ ذلك الحين، بدأت الدوريات الشيوعية والاشتراكية اليسارية في الأرجنتين في مناقشة الوضع السياسي للفلسطينيين بصورة متكررة. وبحلول العام 1973، بدأت حركة تضامن الأحزاب المختلفة في التبلور لصالح القضية الفلسطينية. ووقف المثقفون والقادة اليساريون في هذه المرحلة، على الأقل من الناحية الإيديولوجية، إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات في تبني أهدافها المعلنة لتقرير المصير وحق العودة(24). واستشهد العديد من المثقفين ذوي الميول اليسارية بماضي الأرجنتين الذي يحفل بتاريخ طويل من تدفق المهاجرين العرب، واحتفوا بهذا التاريخ في كتاباتهم(25). كما شارك العديد من الكتّاب والفنانون اليساريون، لا سيما الصحفيون وصانعو الأفلام، في النشاط الثقافي عبر الإقليمي مع نظرائهم في فلسطين ودول الشرق الأوسط، حيث رأوا في منظمة التحرير الفلسطينية شكلاً أصيلاً من أشكال المقاومة اليسارية ضد القوى التي تقود الحرب الباردة.
اليسار البيروني والصهيونية الأرجنتينية
احتفظ اليسار البيروني باهتمامات ومخاوف تختلف عن تلك التي كان الاشتراكيون والشيوعيون والجماعات الأكثر راديكالية في الأرجنتين يصارعون من أجلها لفك التناقض بين مُثُلهم الإيديولوجية المناهضة للإمبريالية والأبعاد العابرة للحدود الوطنية للحرب الباردة.
كانت البيرونية الرسمية تميل إلى تركيز اهتمامها على مشكلة رأس المال الدولي وفوائد القومية، مما أثار الشكوك، لا سيما داخل المجتمع اليهودي الأرجنتيني، حول طبيعة بيرون المعادية للسامية، علماً أن بيرون نفسه حاول السير على خط رفيع لموازنة سياسته الخارجية تجاه الشرق الأوسط. وبعد أكثر من عقد من نفي بيرون في العام 1955، أحيت المقاومة البيرونية خطابها الذاتي المناهض للإمبريالية لإعادة تعريف نفسها كمصدر حقيقي لمقاومة العنف الاستعماري. بدأ منشور مجلة “ميليتانسياMilitancia” التابعة لجماعة مونتونيرو البيرونيةPeronist Montonero ، بنشر تحديثات متواترة عن الوضع الفلسطيني، والتنديد بالصهيونية باعتبارها أحد أشكال الاستعمار، على الرغم من الانتقادات التي مست مفهوم العروبة وعدم جدواه العملية. اختلفت التقارير الصحفية للمجلة البيرونية عن التقارير التي تقدمها المجلات الإخبارية الأخرى من حيث أنها أولت اهتماماً بوضع القضية الفلسطيني في سياق مشروع إمبريالي رأسمالي أطول، بدءً من الدولة العثمانية والبريطانيين وصولاً إلى المنافسة في سياق الحرب الباردة الحالية. وتصف تقاريرهم أيضاً تورط الولايات المتحدة مع شركات النفط في الشرق الأوسط، وربط نضال التحرر الوطني بالسجالات المحلية المتعلقة بالاستثمار الأجنبي، والمصالح النفطية، والنيوكولونيالية(26). وفي كانون الثاني1974، قدمت مجلة “ميليتانسيا” وصفاً لما أطلقت عليه ظاهرة “الإمبريالية الفرعية”، انتقدت فيه الدوافع التوسعية للبرازيل ودول أمريكا اللاتينية الأخرى التي لا تزال متورطة في نزاعات على الأراضي والموارد والحدود. واجتمع العديد من المثقفين والجماعات السياسية من اليسار الأرجنتيني، بما في ذلك اليسار البيروني، تحت راية جبهة مناهضة الإمبريالية من أجل الاشتراكية Frente Anti-Imperialista y por el Socialismo للاحتجاج على استمرار الاستعمار في الداخل والخارج(27). وفي وقت لاحق من ذلك العام أصبحت قضية منظمة التحرير هي ما تمثله “الثورة الفلسطينية من حرب ضد الإمبريالية العربية، والتي كانت، بجانب الولايات المتحدة، مسؤولة عن أزمة النفط التي تهدد استقلال دول عدم الانحياز(28). وبدأت مجموعات طلابية، بعضها متحالف مع البيرونية، باستخدام خطاب مماثل، من خلال إصدار دعوات للعمل التضامني ضد حرب الفيتنام(29).
وفي العام 1974، صادق المجلس الوطني الفلسطيني على قرار الأمم المتحدة رقم 242، كما أقر قيام “سلطة وطنية” على أي قطعة أرض يتم تحريرها. وقامت منظمة التحرير الفلسطينية بحملة أنشطة لكسب الاعتراف السياسي بها، وسافر عرفات نفسه لزيارة أكثر من 100 دولة للترويج لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها “الممثل الشرعي الوحيد” للشعب الفلسطيني. وأتت اللحظة الحاسمة في العام 1975، عندما أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية عضواً رسمياً في حركة عدم الانحياز، قبل عام من أن تصبح عضواً كامل العضوية في جامعة الدول العربية، وصوتت البرازيل رسمياً مع قرار آخر للأمم المتحدة يقضي بأن “الصهيونية شكل من أشكال العنصرية”(30).
وخلال هذه الفترة، من 1975 إلى 1979، نمت حالة مجموعة دول أمريكا اللاتينية داخل حركة عدم الانحياز وحققت زخماً مطرداً، حيث أصبحت أهدافها أكثر أهمية لبعض أعضائها، لا سيما بالنسبة لفيديل كاسترو في كوبا. حيث أعلن المؤتمر السادس لحركة عدم الانحياز الذي عقد في هافانا 1979، عن الأهداف الرئيسية للحركة المتمثلة في “القضاء على الاستعمار، والنيوكولونيالية، والفصل العنصري (الأبارتيد)، بما في ذلك الصهيونية”، وبالتالي النظر إلى “قضية فلسطين، بالنسبة للعديد من اليساريين، كجزء من الحركة الأممية internacionalismo وتضامن دول العالم الثالث(31). ومن جهتها ، واجهت المنظمات الصهيونية في بوينس آيرس الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ومزاعم تواطؤهم مع مشروع إمبريالي في الشرق الأوسط من خلال إصدار رواياتهم الخاصة عن الصراع. واستهدفت مجلة “إتغار ديسافو Etgar Desafı´o ” التابعة لإدارة منظمة بيتار في أمريكا اللاتينية Departamento Latinoamericano del Betar دائرة جمهورها من اليهود الصهاينة في الأرجنتين، كما أنها تواصلت مع جمهور أوسع، وتحديداً الشباب الذين قد يكونون متعاطفين أو مجندين في القضية المعادية للصهيونية، فقدمت المجلة رؤية بديلة للنزاع. وتشكل أعداد المجلة مصدراً ثرياً للنقاش السياسي الذي يستهدف الشباب اليهودي اليساري، خاصة أولئك الذين تربطهم صلات معينة بالحزب الشيوعي، وتوضح مقالات المجلة الطبيعة المعقدة لمحاولة مجموعة واحدة على الأقل التعامل مع الأهمية الثقافية لما يعنيه هذا الصراع ليس فقط في سياق صراع العالم الثالث ولكن أيضاً في سياقات معاداة السامية. وتصف الباحثة بياتريس غورويتز Beatrice Gurwitz ، في دراستها المميزة عن نشاط الشباب اليهودي المعادي للصهيونية، هذه الظاهرة بأنها نوع من “لعبة المرايا”، وتشبهها بعملية تطوير الهوية التي أطلقتها آليات ما بعد السرديات meta-narratives المزعزعة للاستقرار في فترة الحرب الباردة(32).
ويعرض أحد مقالات “إتجار ديسافو” الذي حررته أدا لوكاتو Ada Luchatto ، والتي تعمل مراسلة لصحيفة معاريف الإسرائيلية في إيطاليا، وتحظى باحترام كبير، تفاصيل تجربة العائلات التي غادرت الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل بسبب القمع الديني. وقد سافرت لوكاتو مؤخراً إلى موسكو لإجراء مقابلة مع ممثلين عن حركة التحرير الوطنية اليهودية في الاتحاد السوفيتي National Jewish Liberation Movement in the USSR ، والتي أشارت إليها باسم “العائلة” المقاتلة في موسكو la “familia” combatiente de Moscu(33). وبهذه الطريقة، صاغت لوكاتو معنى الصهيونية للقراء الشباب كرد على الأعمال العدائية للإمبراطورية السوفيتية ومعاداة السامية، وليس شكلاً من أشكال الإمبريالية نفسها. وتقارن المجلة قصة لوكاتو هذه بقصتين إضافيتين تعيدان تأطير فلسطين باعتبارها تمثيلاً للعدوان العربي في الشرق الأوسط وضحية لوعي يساري زائف في ذات الوقت. وتم التأكيد على هذه النقطة الأخيرة من خلال مقابلة “رجل في الشارع” حيث أكد فلسطيني إسرائيلي، وصف نفسه بأنه “شيوعي دولتي”، أن الحديث حول الشرطة السرية في الاتحاد السوفيتي مجرد إشاعات كاذبة، روّجها يهود مرتشين.
ويتم التركيز على طرق تمثيل الوعي السياسي الفلسطيني بهذا الأسلوب من خلال ما يتخلله من عبارات محددة تدل بصورة مباشرة على وعي يساري سطحي يظهر مدى الجهل الذي يعاني منه هذا اليسار، ومن هذه العبارات: “الدول العربية ستكون أفضل لو كانت روسيا تملك اليد الطولى في المنطقة” ، و “ساعدت روسيا في منع تشيكوسلوفاكيا من أن تصبح إمبريالية”، و “العرب يؤمنون بروسيا والصين”، (34). وتعكس جهود مجلة “إتغار ديسافو” لفك تشابك التعقيدات الإيديولوجية لليسار الناشئ، أمام جمهوره اليهودي، مدى الجدية التي ناضلت بها مجموعات مثل هذه للفوز بقلوب وعقول الشباب الأرجنتيني، وهم الفئة الاجتماعية الأكثر ميلاً إلى الراديكالية خلال هذه الفترة. وناشدت مقالات المجلة فئة الشباب المسيس الذي يكافح عبر انخراطه في قضايا الصراع ضد الإمبريالية من خلال العمل على تأليبهم ضد عدو إمبريالي أكثر تهديداً. وتم اقتباس العديد من مقالات المجلة مباشرة من محتوى الندوات التي استضافتها المنظمات ذات التفكير المماثل، والتي تتناول “الاضطرابات الفكريةinquietudes intelectuales” (…) في المجال الإيديولوجي والسياسي والوجودي en el campo ideolo´gico, politico y existencial لمجتمع يحمل ارتباطات عميقة بالأحزاب الشيوعية والاشتراكية الأرجنتينية(35). إن ما يجمع بين الصهاينة واليسار البيروني هو المشاريع التي حاولت العثور على هوامش المشهد السياسي الراديكالي لليسار السياسي الأرجنتيني، لإيجاد مكان للصهيونية، أو للقومية، دون التخلي عن صعوبات المداولات الإيديولوجية.
معاداة السامية واليسار الموالي لمنظمة التحرير الفلسطينية
احتفظ الصهاينة في بوينس آيرس، فيما بينهم، بأسباب وجيهة للريبة في اليسار الراديكالي، حيث انتشرت الشائعات حول تواطؤ الجماعات اليسارية في أعمال عنف معادية للسامية. وأكثر هذه الحالات شهرة هي بالتأكيد قضية حركة تاكوارا الوطنية Movimiento Nacionalista Tacuara، وهي مجموعة يشتبه في حصولها على دعم مالي مباشر من جامعة الدول العربية. ففي العام 1964، عمل حسين التريكي، أحد المتعاطفين الناشطين مع النازيين والمتعاون معهم أثناء الحرب العالمية الثانية، كممثل لجامعة الدول العربية في أمريكا الجنوبية، وكان مقر عمله في بوينس آيرس. تم ربط التريكي علناً بحركة تاكوارا وبكوادر الشرطة الفيدرالية المشتبه بارتكابهم هجمات معادية للسامية(36). وفي العام ذاته وزع الجيش الأرجنتيني وثيقة استراتيجية نادرة حصلت عليها فيما بعد المنظمة الصهيونية المركزية، وتحدد الوثيقة عشرة “سلالات [نزعات]” مختلفة من الراديكالية السياسية التي تعتبر تهديداً للدولة الوطنية.
من بين هذه السلالات العشر، صنفت اثنتان كتشكيلات معاداة السامية، وكلاهما مرتبطتان بمجموعات قومية متطرفة، بينما تم وصف اتجاه يساري، مدرج باسم الناصرية Nasserismo ، على أنه جناح راديكالي “شديد العداء للصهيونية violentamente antisionista “. وتوصف الناصرية بأنها “نزعة ديمقراطية شعبية كتلك التي كانت سائدة في عهد عبد الناصر في حقبة الجمهورية العربية المتحدة RAU [دولة الوحدة المصرية السورية]، والتي تم مطابقتها مع مفهوم العروبة Pan-Arabism”. وتحدد الوثيقة أيضاً حسين التريكي كممول معروف لمنظمتي تاكوارا وأوتورونكوس Uturuncos، وهذه الأخيرة مجموعة قومية متمردة ارتبطت بالحركة البيرونية في أعقاب الانقلاب العسكري عام 1955(37). وخلال الفترة التي نشطت فيها التريكي في أمريكا الجنوبية، كانت منظمة التحرير الفلسطينية، منهمكة تماماً في إقامة روابط مع عدد من الحركات المسلحة السرية، من أجل تعزيز صورتها الثورية، مثل حركة ديف غينج DEV-GENÇ في تركيا [اختصار لحركة الشباب الثوري Devrimci Gençlik وهي فصيل ماركسي لينين ي تشكل في العام 1965]، والجبهة الوطنية الإيرانية Irani National Front، و الجيش الأحمر الياباني Japanese Red Army، الفهود السود Black Panthers، الجبهة الوطنية لتحرير إريتريا National Front for Liberation of Eritrea، الجيش الجمهوري الأيرلندي Irish Republican Army، الحركة اليسارية المغربية السرية Moroccan Leftist Underground، حركة فرولينات التشادية Frolinat in Chad، توباماروس الأوروغواينية Uruguayan Tupamaros، بالإضافة إلى الحزب الوطني الديمقراطي النازي الجديد (NPD) في ألمانيا الغربية والجماعات الفاشية الجديدة في إيطاليا(38). وفي العام 1972، قطعت كوبا علاقاتها بإسرائيل وسلمت السفارة الإسرائيلية في هافانا إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ودعمت عرفات بنشاط في المنتديات العامة ودعت مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية للتدريب على التكتيكات الثورية في الجزيرة(39). ومع تنامي الدعم لمنظمة التحرير الفلسطينية في اليسار الأكثر راديكالية في أمريكا اللاتينية، ازدادت شكوك الجماعات الأكثر اعتدالًا والمناهضة للعسكرة في صلة الروابط المؤيدة لفلسطين بالعنف ومعاداة السامية.
اتهمت حركة تاكوارا Tacuara، (وهي جماعة ذات علاقات وثيقة مع الشبيبة البيرونية Juventud Peronista وذات ميول إيديولوجية ماركسية وناصرية،) من قبل الصحافة الشعبية بانحيازها القوي المعادي للسامية. وكان جو باكستر، الأمين العام لحركة تاكوارا، بصفته مؤيداً قوياً للعروبة ومعادٍ للصهيونية، هدفاً متكرراً لانتقادات المنظمات الصهيونية واليمينية التي تتطلع إلى تشويه سمعة اليسار.
وبرغم تأكيد باكستر العلني بعدائه للصهيونية وليس للسامية، فقد وجعت له علامات اللوم، في كثير من الأحيان، بسبب العنف المعادي للسامية من قبل الشرطة الفيدرالية، رغم عدم وجود أدلة تدينه(40).
وساعد باكستر في تأسيس الجيش الثوري الشعبي Eje´rcito Revolucionario Popular (ERP) مع ماريو سانتوتشو، بعد أن أمضى عامين في الصين وفيتنام، من عام 1965 إلى عام 1966، يقاتل باسم جبهة التحرير الوطنية، وعاد إلى الأرجنتين قائداً وجندياً مكرماً من الفيتكونغ. وكلن قد التقى سانتوتشو في باريس في المؤتمر الدولي الرابع للتروتسكيين IV Trotskyist International، وترأس الاثنان، في العام 1970، واحدة من أكثر الجماعات اليسارية الراديكالية نشاطاً في الأرجنتين، ERP-PRT. وفي العام 1972، ساعد باكستر في اختطاف أوبيردان سالوسترو Oberdan Sallustro المدير العام لشركة تصنيع السيارات الإيطالية FIAT، ثم هاجر، بعد ذلك، سراً، إلى تشيلي (1973) يعد شكوكه في عفو هيكتور كامبورا عن الجيش الثوري الشعبي ERP وعودة البيرونية إلى البلاد(41). ويبدو أن وجود شخصيات مثل باكستر أثارت موجة من التردد في وسط العديد من اليساريين بخصوص دعم منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي شبهات حول تضامن هذه الشخصيات مع القضية الفلسطينية، قد يعكس فقط نزعة معادية للصهيونية وللسامية.
شبكات التضامن والعالم الثالث
شهد العام 1973 تزايد الانقسامات والانشقاقات في صفوف قوى اليسار التقليدي والراديكالي في الأرجنتين. وقد اعتبرت بعض الأحزاب بأنه لا يوجد موقف ثالث بين من يؤيد القمع ومن يقاتل ضده، بينما سعى آخرون إلى حل وسط(42) .
أما على الصعيد الخارجي، فقد بدا حرص الثوار الكوبيين على بناء محور مناهض للإمبريالية في بلدان التريكونت “Tricont” مقياساً منطقياً لمقاومة العنف الدولي والهجمات التي ترعاها الولايات المتحدة على اليسار الأرجنتيني. ونتيجة لذلك، سعت عدة مجموعات إلى الاستفادة من الوضع وإنشاء شبكات تضامن عبر إقليمية تتمحور حول النموذج الثوري الكوبي بقيادة كاسترو. وفي العام1964، وعدت كوبا بالتضامن مع فتح إذا ما تبنت هذه الأخيرة خوض تجربة الكفاح المسلح بمعزل عن الدول العربية(43). وبدأت الأنباء تتردد عن تدريب مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في كوبا منذ العام 1969(44). ثم بعد ذلك بوقت قصير بدأت تظهر في الأخبار تقارير عن تدريب مقاتلين من أمريكا اللاتينية في قواعد منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن ولبنان وغزة.
سعى أفراد اليسار إلى التواصل المباشر وتكوين علاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية. فسافر صانع الأفلام السياسي اليساري خورخي جيانوني، وهو عضو في الجيش الثوري الشعبي ERP، في العام 1973 إلى الجزائر لتمثيل الأرجنتين في حركة السينما الثالثة Third Cinema بعد أن أخرج وأنتج فيلماً طويلاً بعنوان Palestina, otro Vietnam “فلسطين فيتنام أخرى”(1971) الذي قدم قضية منظمة التحرير الفلسطينية كجزء من معركة العالم الثالث الأوسع ضد الاستعمار.
عاد جيانوني إلى بوينس آيرس وأسس مركز دراسة العالم الثالث والشرق الأوسط في جامعة بوينس آيرس، والذي يقال أنه ساعد في نشر المعلومات حول القضية [الفلسطينية] بين مختلف الأطراف، الأكاديمية وغير الأكاديمية. وفي العام 1977، حيا ياسر عرفات المقاومة الشعبية الأرجنتينية، بتوجيه من الحركة البيرونية Movimiento Peronista Montonero، في نضالها من أجل تحقيق برنامجها في التحرر والسلام(45). وفي تلك الفترة أيضاً التقى ياسر عرفات بأبرز قيادات الحركة البيرونية ماريو فيرمينيتش Mario Firmenich وفاكا نارفاخا Vaca Narvaja وقد وعدهما بدعم حركة فتح مقابل دعمهما الصريح لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. دورت منظمة التحرير الفلسطينية علاقتها بمهارة وذكاء مع حلفاء محتملين في أمريكا اللاتينية خلال هذه الفترة من صياغة الشبكات النشطة. وعندما وصل ثوار الجبهة الساندينية إلى السلطة في نيكاراغوا كان أحد ما فعلوه قطع العلاقات مع إسرائيل وتسليم السفارة إلى عرفات ومنظمة التحرير على غرار ما فعلته كوبا من قبل. علماً أن أكثر من 200 ثائراً ساندينياً تلقوا تدريبات في معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية و الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الأردن ولبنان، وشجع كاسترو بنشاط على إقامة العلاقة بين الطرفين، وقام بتحويل الأموال إلى الجبهة الساندينية للتحرير الوطني Frente Sandinista de Liberacio´n Nacional (FSLN) من خلال منظمة التحرير الفلسطينية بدءً من أواخر الستينيات(47). وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد دعمت، بنشاط، المقاتلين المناهضين للحكومات في الأرجنتين وأوروغواي وبيرو، رغم أن حكومات هذه الدول تقدم، في الحقيقة، دعماً رسمياً لمنظمة التحرير الفلسطينية في المنتديات العامة مثل الأمم المتحدة ومؤتمر العالم الثالث(48). وخلال فترة بناء الشبكات هذه التي ذكرناها قامت حركة مونتونيروس بإصدار دورية بعنوان El Descamisado [بمعنى عاري الصدر؟]، والتي أرّخت نضال المجموعة ضد النظام العسكري، وبعد ذلك مشاركتها في العمل مع فترة الرئاسة الثالثة لبيرون. وتضمنت معظم أعداد المجلة أقساماً طويلة حول مكافحة الإمبريالية، مع أقسام خاصة عن حرب الفيتنام وفلسطين والصراعات الإقليمية، مثل الحرب في بوليفيا أو الاشتراكية في عهد أليندي في تشيلي. ومن أبرز ميزات المجلة كانت الرواية المصورة المتسلسلة “أمريكا اللاتينية والإمبريالية Latinoame´rica y el Imperialismo ” لهيكتور جيرمان أوستيرولد He´ctor Germa´n Oesterheld، والتي رسمها ليوبولدو دورانونا Leopoldo Duran˜ona والتي تقدم صورة أخرى لصراع اليسار الأرجنتيني مع تاريخه الخاص الحافل بمواجهة المخططات الإمبريالية، ولكن هذه المرة من منظور بيروني.
كان أوستيرولد مناسباً تماماً للمجلة البيرونية الجديدة، بعد أن أثبت وجوده بين اليساريين من خلال قصص مصورة سابقة(49). وقام بمشروع طموح لمحاولة فهم الإمبريالية بطريقة أكثر تعقيداً، منذ غزو الإسبان إلى النضالات الحالية من للفئات المهمشة داخل الأرجنتين الحديثة.
وأعاد النظر في تاريخ الأرجنتين الوطني، واعتبر شخصيات مثل روساس Rosas منخرطة بعمق في الطموحات الإمبريالية. كان أوستيرولد يخصص عدداً من أعداد المجلة لفترة محددة من تاريخ الأرجنتين تحت عناوين “الزنوج”، “الحدود”، “سولداديراس Soldaderas “، حيث درس، على التوالي، في استعمار الدولة الأرجنتينية للأرجنتينيين من أصل أفريقي ومجموعات السكان الأصليين والنساء. انضم أوسترولد إلى ميليشيا مونتونيرو في العام 1973، مع بناته الثلاث، ثم انخرطوا سويةً في العمل السري بعد وصول إيزابيل بيرون إلى السلطة في العام التالي. اختطف أوسترولد في العام 1978، وقُتل هو وبناته الثلاث أيضاً، وكانت اثنتان منهن حوامل وقت اختطافهن(50). وهكذا سوف تدفع عائلة أوستيرولد الثمن الأعلى لاتهام الدولة الأرجنتينية بالطموحات الإمبريالية.
التكهنات والشائعات السياسة الخارجية من رئاسة بيرون الثالثة إلى الحكم العسكري
كانت الكويت تمثل أكبر مورد نفطي للأرجنتين في العام 1972، وبعد مفاوضات متأنية مع الجيش الأرجنتيني، في العام 1973، باتت المملكة العربية السعودية تقدم إلى البلاد نصف وارداتها النفطية. وعندما تولى بيرون السلطة للمرة الثالثة، أعاد تشكيل سوق النفط الأرجنتيني، معتبراً أن كلاً من الكويت والمملكة العربية السعودية مرتبطتان بشدة بالمصالح الأمريكية. وما إن أتى العام 1974 حتى كانت الأرجنتين توقع مع ليبيا عقود نفطية تجعل من هذه الأخيرة مورد النفط الرئيسي للأرجنتين. كما دفع الضغط المصري إلى اضطرار بيرون إعلان دعمه لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكوفئ على دعم الأرجنتين لقرار مجلس الأمن 242 بزيادة الاستثمار الأجنبي من الدول العربية، والذي ارتفع من 24 مليون دولار إلى 215 مليون دولار سنوياً بحلول العام 1975.
وفي العام 1974 سرت تكهنات حول حصول الأرجنتين على قرض بقيمة 2.3 مليار دولار من مصادر عربية عبر حساب مصرفي سويسري. غير أن الأحوال تدهورت مع وصول إيزابيل بيرون إلى السلطة وأصاب العلاقات بعض التوتر حين رفضت الأرجنتين إدانة إسرائيل بوصفها عنصرية في اجتماع حركة عدم الانحياز في العام 1975 في ليما، فضلاً عن تعاقدها مع إسرائيل لشراء صفقة صواريخ بحرية موجهة(51). كما انتشرت شائعات أخرى تفيد قيام خوسيه لوبيز ريجا، وزير الرعاية الاجتماعية والمؤسس السري للتحالف الأرجنتيني شبه العسكري المناهض للشيوعية، باتصالات شخصية مع العقيد القذافي والتوقيع على ثلاث اتفاقيات بدأت في عهد بيرون. كانت الاتفاقية الأولى تتعلق بمبادلة منتجات زراعية وصناعية بحوالي3 ملايين طن من النفط بسعر ثابت، كما تشمل اتفاقاً تقدم الأرجنتين بموجبه مساعدة زراعية وبناء مصفاة نفطية ومصنع لتعبئة الغاز في ليبيا. في حين شملت الاتفاقية الثانية وعداً بتدريب علماء ليبيين في الأرجنتين على استكشاف اليورانيوم وإنتاج المواد النووية. وأخيراً، توقيع ميثاق ثقافي تقوم الأرجنتين بمقتضاه بترويج أخبار وكالة الأنباء الثورية العربية في أمريكا اللاتينية على أن تقوم ليبيا بتوزيع نشرات وكالة الأنباء الوطنية الأرجنتينية عبر الشرق الأوسط(52). ومن غير المعروف ما إذا تم تنفيذ هذه الاتفاقيات بعد فرض الحكم العسكري في العام 1976. وعلى كل حال، وبصرف النظر عن هذه الشائعات لم يكن للنظام العسكري موقفاً غامضاً في المشهد السياسي والاقتصادي للحرب الباردة.
أصبح مصير الفلسطينيين منذ العام 1976 إلى فترة “التحول الديمقراطي” في العام 1983 قضية استراتيجية كبرى.
وكما يؤكد ديفيد شينين في مكان آخر، فقد أدت حرب مالفيناس Malvinas إلى زيادة حدة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في دوائر السياسة الخارجية الأرجنتينية، باعتبارها تمثل مسرحاً لمواجهات الحرب الباردة و “أرضية اختبار للقوى العظمى”(53). فتلاشت في هذه الحقبة الجديدة التحالفات “القديمة” مع فلسطين، والتي تركزت حول عرفات وفتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتلاشت كذلك مغازلة بيرون للدول العربية، والخوف من النفوذ السوفيتي في المنطقة، والشكوك المحيطة بتدفق البترودولار في الاقتصاد الأرجنتيني.
وشهدت السنوات القليلة الماضية من الحرب الباردة ارتفاعاً في التجارب النيوليبرالية في ظل حكومات مدنية، والتي كانت استمراراً للسياسات التي اتبعتها الأنظمة العسكرية على الرغم من العودة إلى الديمقراطية. بالإضافة إلى ذلك، كانت الإخفاقات الاقتصادية للاتحاد السوفييتي مؤشراً للكثيرين على هزيمة قوية لليسار العالمي. وفي السادس من تموز1984، تم التوقيع على إعلان ساو باولو من قبل مجموعة متنوعة من المنظمات في أمريكا الجنوبية والوسطى ومنطقة البحر الكاريبي لـ “تركيز الجهود لتحرير فلسطين من خلال تنظيم مجتمعات الشتات في أمريكا اللاتينية”(54). وبعد عام واحد فقط، بدأ مركز الدراسات الفلسطينية الهام جداً والمؤثر في نشر ترجمة إسبانية لمجلته على يد هيئة تحرير من أمريكا اللاتينية مقرها في بوينس آيرس. ويبدو أن كلا الحدثين مرّا دون إثارة كثير انتباه للنظام الديمقراطي “الانتقالي” لراؤول ألفونسين، الذي انصب اهتمامه على ضمان شرعية عودة الأرجنتين إلى الحكم المدني وحماية حقوق الإنسان.
صياغة السياسات الرمزية في خضم الأزمة المالية
أسست منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1985، وبصورة سرية، مكتباً ثم، فيما بعد، تحول إلى نادي في مدينة روزاريو. وبدأت المنظمة في العام 1989، مخططاً لإنشاء سفارة فلسطينية وسط العاصمة بوينس آيرس. وأخيراً قامت، في العام 1996، بالحصول على مبنى من الدولة لإدارة أعمالها [الدبلوماسية]. وفي تلك الفترة تم تأسيس اتحاد الكيانات الفلسطينية الأرجنتينية Federacio´n de Entidades Argentino Palestinas (فيديربال Federpal) وجمعية التضامن الارجنتينية مع فلسطين Asociacio´n Argentina de Solidaridad con Palestina (آرسوبال Aarsopal)، وبدأت في الحصول على دعم واعتراف هام بها من قبل قادة سياسيين يساريين. أصبحت فلسطين قضية رئيسية حول العالم مرة أخرى في العام 1987 مع بداية الانتفاضة. وبعد العام 1987، أصبحت فلسطين رمزاً عالمياً لمقاومة “النظام العالمي الجديد” المتشكل حديثاً. ومع بداية التسعينيات، أصبحت المظاهرات ضد دولة إسرائيل شائعة في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية، التي غالباً ما كانت مرتبطة بالحركات الاجتماعية الجديدة والأحزاب السياسية اليسارية. لكن في الأرجنتين، كانت هذه النضالات ذات الطابع العالمي تتموضع ضمن أطر أكثر تعقيداً في معانيها. غير أن هذا الاهتمام المتزايد بالنزاع تضائل في أواخر التسعينيات بعد الهجمات على السفارة الإسرائيلية ومركز الجالية اليهودية في بوينس آيرس التي جعلت من الصراع يبدو غامضاً ومرعباً(55).
واستمر الوضع على حاله حتى موعد المحاكمات الفاشلة ضد المشتبه بهم في تنفيذ تلك الهجمات، حين عاد اليساريون الأرجنتينيون، مرة أخرى، إلى نشر القضية الفلسطينية، لكن هذه المرة بوصفها ضحية النيوليبرالية، وليس الحرب الباردة. وفي بداية تموز 2001 حضر أكثر من 500 شخص الاجتماع العام لنشطاء القطب الاجتماعي للعاصمة ومقاطعة بوينس آيرس Plenario de Militantes del Polo Social de la Capital y la Provincia de Buenos Aires ، اجتمع أكثر من 500 شخص لمناقشة وتحديد بناء قطب اجتماعي Polo Social كتحالف سياسي لخوض الانتخابات المقبلة.
وكان من بين الحضور نشطاء يمثلون حركة المتقاعدين، جمعيات تقديم الطعام المجاني communitarian soup-kitchens، ومجموعات طلاب الجامعات، والمراكز الثقافية، وتجمعات الأحياء، وجماعات حقوق الإنسان، ومجموعة متنوعة من الجمعيات الأهلية، كما حضر ايضاً منظمة بين الذاكرة ” كاسا دي لا ميموريا Casa de la Memoria ” ، واتحاد عمال الدولة، واتحاد الأرض والإسكان، وممثلون عن الحزب الشيوعي الرسمي (PC-CE)، والحزب البيروني من أجل التحرير، ومجموعة المعونة الخاصة (GES). كانت الخيوط الرئيسية المشتركة في الحطابات التي ألقاها أعضاء هذه المجموعات تتمحور الهجوم على النيوليبرالية، ونبذ “المنعمية Menemismo” [ نسبة إلى سياسات الرئيس الأرجنتيني الأسبق كارلوس منعم]، والدعوة إلى إعادة النظر في مبادئ غيفارا. كان هذا التجمع بمثابة تصور مسبق للتحالف الفضفاض غير الرسمي الذي سيبدأ أفراده في التظاهر في الشوارع بعد بضعة أشهر فقط، عندما أشارت التدابير التي اتخذتها الدولة الأرجنتينية لـ “تحجيم” النظام المالي إلى انهيار مالي سيكون الأكثر تدميراً لذوي الدخل المنخفض والأشخاص ذوي الدخل المنخفض ولأفراد الطبقة العاملة والمتوسطة. ودعا التحالف، بحجة الالتزام بالتضامن المتجدد، إلى عقد تحالفات بين الشعوب المضطهدة في دول الجنوب العالمي. واعتبرت منظمة “وطن حر Patria Libre “، وهي إحدى المنظمات المشاركة في التجمع، أن النضال الفلسطيني ضد الاستعمار – إلى جانب النضال ضد العولمة النيوليبرالية ومواجهة العدوان الأمريكي في العراق وأفغانستان وكولومبيا- بأنه مرحلة جديدة من مراحل النضال ضد تواطؤ النيوليبرالية والعدوان اليانكي الأمريكي الأبيض.
وأطلقت في حزيران من العام الماضي نشرة من قبل الحركة الاشتراكية Movimiento al Socialismo (MAS)، التي أسسها ناهويل مورينو Nahuel Moreno إبان فترة الانتقال، وبدأت في استخدام صور تشير إلى قضيتها المشتركة مع شعب فلسطين. ويظهر غلاف العدد الأول من منشور “الاشتراكية أو البربرية Socialismo o barbarie ” شاباً ملثماً، وهو يرشق الحجارة في مواجهة مع الشرطة في الشارع، وهي مطابقة تقريباً للصور التي ظهرت بشكل بارز في وسائل الإعلام الدولية أثناء الانتفاضة [الفلسطينية] ما بين 1987 إلى 1991 . كان العدد بحد ذاته مكرساً لاستراتيجيات المقاومة المالية لصندوق النقد الدولي، وبسلط الضوء على ارتباط الأرجنتين بدول العالم الثالث الأخرى في الكفاح ضد رأس المال العالمي، والتركيز على المشاركة في المنتديات العابرة للحدود، مثل اجتماع سياتل(57). في وقت لاحق من ذلك العام، تضمن المنشور ملفاً من تسع صفحات حول القضية الفلسطينية، بعنوان ” غضب شعب غاضب”، وقصد محرر الملف فضح فكرة الإرهاب المتعصب وانتقاد إخفاقات عملية السلام واتفاقات أوسلو، كما تناول مسألة الاستعمار الصهيوني، ووصف الفلسطينيين بأنهم “السكان الأصليين” في المنطقة، زاعماً أن المستعمرين الإسرائيليين، حتى المدنيين منهم، لديهم الحق في حمل السلاح (..) وأن رياضتهم المفضلة ليست كرة القدم، ولكن ممارسة الرماية، باستخدام الفلسطينيين كأهداف لهم”(58)، ويتضمن الملف ملحقاً يوضح عملية الاستعمار منذ وعد بلفور في العام 1917 وحتى حرب العام 1967 بين العرب وإسرائيل. ويصف ما حصل بين عامي 1947/1949 بأنه فترة “تطهير عرقي”(59). ويلقي الكاتب بعض اللوم على العقبات التي واجهها الشعب الفلسطيني على سقوط الاتحاد السوفيتي، الذي مثل إفلاس فعلي تلاه إفلاس روحي(60). ويؤكد أن منظمة التحرير الفلسطينية تمثل اليسار العالمي كدولة علمانية وديمقراطية غير عنصرية، ولهذا السبب يجب على اليسار الأرجنتيني استخدام علم منظمة التحرير الفلسطينية كرمز(61). وفي نيسان 2002 تظاهر أعضاء الحركة الاشتراكية أمام السفارة الإسرائيلية، وهم يهتفون: “فلسطينيون وأرجنتينيون.. عدو واحد كفاح واحد Palestinos y argentinos: los mismos enemigos, la misma lucha.”
وكانت الحركة العمالية الاشتراكية Movimiento Socialista de los Trabajadores (MST) عرضت، بالتنسيق مع الحركة الاشتراكية MAS وبالتحالف مع حركة اليسار المتحد Izquierda Unida، دعوة للتضامن مع فلسطين في عدد 10 نيسان 2002 من “البديل الاشتراكي Alternativa socialista. معتبرةً أن إسرائيل دولة إبادة جماعية un estado genocida، وقدمت سرداً لتسلسل الأحداث من العام 1948 وحتى العام 1967 تؤكد فيه اتهامها للمخططات الإمبريالية الأوروبية الغربية والإسرائيلية. ويقارن الكتّاب في هذا العدد، وفي العديد من الأعداد الأخرى، التكتيكات المستخدمة في إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني بتلك التي استخدمتها ألمانيا النازية(62). كما هاجمت المجلة إسرائيل لدعمها زعماء الديكتاتوريات أمريكا اللاتينية أمثال سوموزا وبينوشيه وفيديلا، وعلاقاتها الودية مع نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) في جنوب إفريقيا(63). وإلى جانب مقال عن المظاهرات في الرباط، علق ائتلاف اليسار المتحدIzquierda Unida على مظاهرة 5 نيسان 2002، مشيراً إلى أنه في اليوم السابق فقط، احتج المجتمع العربي الأرجنتيني في نفس المكان، متسائلاً عن سبب عدم احتجاج الجماعتين معاً على الرغم من القضية المشتركة. ودعت Socialismo o barbarie إلى مظاهرة لاحقة في الخامس عشر من الشهر نفسه بقيادة “التجمع اللامركزي بين الأحياء Inter-Barrio Assembly، لمطالبة إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة. وفي بيان أطول، أدرج برنامج اليسار المتحد السياسي ضمن مطالبه ضد إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية جديدة، وحق عودة النازحين، وإعادة الممتلكات المصادرة، والديمقراطية العلمانية، ووضع حد للعنصرية(64).
ومن المرجح أن حركة كيبراشو الوطنية الثورية Movimiento Patrio´tico Revolucionario Quebracho ، التي تربطها علاقات قوية بهوغو شافيز في فنزويلا، كانت أول مجموعة بدأت في ارتداء الكوفية في المظاهرات العامة. وفي أواخر التسعينيات، بدأت المنظمة في نشر إصداراتها الخاصة التي تحمل اسم كيبراشوQuebracho والتي دعمت بشكل علني منظمة التحرير الفلسطينية، وحزب الله أيضاً. وفي العام 2001، عارضت جميع أشكال الإمبريالية في الشرق الأوسط، واصفة الولايات المتحدة وإسرائيل بـ “الدول العنصرية” وشجب استعمارهم وعنفهم ضد العالم العربي. وأصدرت نداء للتحرك، وحثت أنصارها للانضمام إلى لجنة الدفاع ضد العدوان على الشعوب العربية Comite´ de Defensa Contra la Agresio´n a los Pueblos Arabes (CDCAPA) ، وهي منظمة مستقلة غير مرتبطة بأي جهة رسمية، سياسية أو اجتماعية أو دينية. اجتمعت هذه اللجنة في أيلول 2001 في لابلاتا وضمت أعضاء بارزين من الجالية العربية الأرجنتينية، مثل السفير الفلسطيني سهيل هاني ضاهر عقل وهوراسيو منير حداد من الهيئات العربية الأمريكية American-Arab Entidades ، وأمين عام الاتحاد العربي في بوينس آيرس، خوان غابرييل لبكي(65). وعرضت صور مجلة كيبراشو رجال يرتدون الكوفية ويلقون الحجارة أو يستخدمون المقلاع في المظاهرات، في إشارة واضحة إلى المقاومة الشعبية الرمزية للنضال الفلسطيني. وفي العام 2003، أصبحت الكوفية [الفلسطينية] هي الوشاح الذي يضعه معظم أفراد هذه المجموعات الثلاث أثناء المظاهرات. وفي العام 2006، أدان قادة الجالية اليهودية (DAIA و AMIA) ووزير الخارجية الإسرائيلي منظمة كبراتشو، ووصفوها بأنها تشكل تهديداً للديمقراطية الأرجنتينية، ومنذ ذلك الحين، ابتعدت الجماعة إلى حد ما عن الفصائل اليسارية الأخرى بسبب راديكاليتها الشديدة والدعوة لإلغاء الملكية الخاصة(66).
أما بالنسبة لوسط اليسار، ففي نيسان 2001 تناولت نشرة طلاب جامعة بوينس آيرس “المفتاح الأحمر En clave rojo ” المسألة لوطنية في النصال الفلسطيني. ويقرر محررو النشرة أن الصراع في الشرق الأوسط يمنح” الطبقة البرجوازية الإمبريالية” في الولايات المتحدة أسباباً لزيادة الإنفاق العسكري والدعاية المناهضة للإرهاب تمكّن مباشرة من قمع الطبقات العاملة، ويحدد محررو النشرة موقفهم هذا على خلفية مواقفهم المتحالفة مع عمال المصانع المحتلة والتزاماً منهم بالوحدة بين الحركات العمالية والطلابية. ويربط محررو الافتتاحية المجهولين بين الحروب الجارية في العراق وأفغانستان وعمليات عرفات السياسية والانتفاضة في باكستان، ويؤكدون بأن الحرب ضد الإرهاب الدولي، وهي السمة المميزة لسياسة بوش الخارجية، تفصل بشكل كاذب بين جماهير “البلدان شبه المستعمَرة” عن صراع العمال في الدول الإمبريالية(67).
وفي واحدة من أكثر الإشارات الرمزية لفتاً للانتباه تجاه القضية الفلسطينية لليسار الأرجنتيني قام أومبيرتو توميني، الأمين العام لمنظمة “وطن حر” (وهي منظمة تأسست عام 1987 في كوردوبا وتتمتع بتأييد عمالي قوي )، بإطلاق حملة خطاب من منصة مغطاة بالكوفية وذلك في تشرين الثاني2004 (68)،ويعتبر توميني مناضل سابق في الحركة الثورية الشعبية ERP ومنتقد قوي للنيوليبرالية، استخدم مناسبة تدهور صحة عرفات لتخصيص الكوفية الفلسطينية كرمز للنضال ضد الفاشية والنيوليبرالية والتقدمية المعتدلة التي يربطها بشخصيات مثل نيستور كيرشنير Ne´stor Kirchner، رئيس البلاد آنذاك، وإليسا كاريو Elisa Carrio، منافسة توميني الأزلية في بناء الائتلاف. ودعا العديد من الحلفاء مثل Movimiento Barrios de Pie و Movimiento de Educacio´n Popular و Red de Mueres Solidarias و Venceremos وغيرهم إلى مقاومة الانزلاق والتحول إلى معسكرات سياسية متناحرة، والالتزام بالخطوط الإيديولوجية لغيفارا وإيفيتا والجنرال سان مارتي. لمحاربة الظلم والتعبئة من أجل التغيير(69). وقبل بضعة أشهر فقط، أصدرت نشرة حقيقة العامل La Verdad Obrera، الناطقة بلسام حزب العمال الاشتراكيين Partido de los Trabajadores Socialistas ، نقداً لاذعاً لزيارة آرييل شارون للأرجنتين، والتي استعار منها توميني بوضوح بضع النقاط للحديث عن الزيارة(70). وقد مثلت فلسطين، بالنسبة لتوميني، ارتباطاً رمزياً بمناهضة الإمبريالية، وهي رمزية لم يتردد صداها في الأحزاب اليسارية والحركات الاجتماعية فحسب، بل استمرت عبر الأجيال أيضاً.
خلاصة واستنتاجات
يعكس استمرار استخدام اليسار الأرجنتيني لـ “قضية فلسطين” الروابط الجغرافية والتاريخية غير المتوقعة بين الحرب الباردة والنظام النيوليبرالي. وكانت فلسطين، كمؤشر، رغم ما تمثله من جدل أحياناً، عاملاً مشتركاً بين عناصر اليسار الأرجنتيني في تحديد موقفهم على الصعيد الوطني وإزاء تطورات المشهد الدولي. لقد احتلت القضية الفلسطينية حيزاً رمزياً مهماً في ربط المطالبات التاريخية المختلفة لليسار السياسي بمناهضة الإمبريالية وفي تبديد التواطؤ بخصوص إنكار حقوق المواطنة الكاملة للفئات المهمشة والفقيرة في الداخل. غالباً ما كانت الصور والسرديات المبنية لحشد التضامن تمثل تجسيداً لبعض التأملات النقدية لواقع السياسية الأرجنتينية وأولويات اليسار المتغيرة. وعلى الرغم من الادعاءات الخطابية التي صوّرت الدعوة إلى العمل كنوع من التضامن مع القضية الفلسطينية، غالباً ما طغت عليها الانشغالات المستمرة بعلاقة الأرجنتين بالاستعمار والإمبريالية، وبدرجة أقل قليلاً، بمخاطر الأنواع الحصرية للقومية التي تحرم الكثيرين من المواطنة الحقيقية. كان صراع القوميين الفلسطينيين مع دولة إسرائيل بمثابة مرآة لليسار، تعكس صورة نضالهم الخاص يمكن بموجبه التغلب على التشظي الجدي في صفوف الأحزاب اليسارية المحلية. وغالباً ما توفر حملات التضامن مورداً سياسياً للأمل لقوى اليسار، لا سيما في مواجهة عدو صلب وقوي مثل الإمبريالية أو رأس المال العالمي.
أخيراً، يساهم التضامن مع منظمة التحرير الفلسطينية في الأرجنتين إلى فهم أكثر دقة للتضامن بين دول جنوب جنوب كمنبع وأداة للمقاومة الثقافية الواسعة للإمبريالية والنيوليبرالية الجديدة. قاد اليسار الأرجنتيني الأصولي، في 31 أيّار 2010، الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي، دعماً يسارياً أرجنتينياً للأسطول التركي المتوجه إلى غزة في مواجهته مع الجيش الإسرائيلي، آملاً باكتساب تأييد العديد من الحركات الاجتماعية والتحالفات السياسية المتنافسة لليسار الجديد الناشئ في الأرجنتين.
قدم هذا الرمز، كرمز عالمي وحكاية مقاومة للنيوكولونيالية، إطاراً مفيداً للرؤى المتنافسة حول طريقة تقدم اليسار المحلي في الأرجنتين.
…
ملاحظات
العنوان الأصلي:
The Question of Palestine in the Argentine Political Imaginary: Anti-Imperialist Thought from Cold War to Neoliberal Order
المؤلف: Jessica Stites Mora