لا أدري متى يتوقف حزن المآذن في مدينتي، كلَّما رفع المؤذِّن صوت الأذان على مسامعنا، تذَّكرت ما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث الصحابيّ الجليل جابر بن عبدالله رضي الله عنهما فيما عندما قال: “من قال حين يسمع النِّداء: اللَّهم ربَّ هذه الدَّعوة التَّامة والصَّلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه اللهم مقاماً محموداً الذي وعدتَّه، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة”. وما إن انتهى، كنت قد أنهيت وضوئي، لأهمَّ إلى الصَّلاة.
كلَّما سمعت الأذان، أشعر بإحساس غريب ينتابني، يرتدُّ صداه إلى نفسي ويقول: الله أكبر من الفانية، ومن جبروت كلِّ من عليها طغى، أشهد أن الله لا إله إلاَّ هو، ولسوف يأتي موعد لن يُخلف الملك ما وعدنا به، من حلاوة الصَّبر على الدُّنيا ومغرياتها، لننال جزاء العمل كلٌّ من نوعه، كما ورد في القرآن الكريم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي ورثَّنا خرائط الجنَّة، وبيَّن لنا حدود الطريق التي توصلنا إليها، بإتباع نهجه صلى الله عليه وسلم، وما ورد في السُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، كي نبلغ الفردوس ونعيمها الذي لا يُحصى- ليس الوصول إلى جنة الله بيسير- فالأنبياء رضوان الله عليهم بما أوتوا من بصيرةٍ ونهى، وما أكرمهم الله به من مكانةٍ تميَّزوا فيها على البشر، إلاَّ أنهم سألوا الله الجنة، رحمةً من عنده تنهمر عليهم وعلى أقوامهم والتابعين الأولين واللاَّحقين، يقول: حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على فلاح الدُّنيا وعمل نجيئ به في الآخرة من الفائزين، كأنَّه يسأل الله لنا بأن نكون الفالحين؛ الصَّلاة .. الصَّلاة.. الصَّلاة، قد قامت الصَّلاة، الله أكبر.
أنصت إليه، منذ ولدت حتى الآن، وهو يُعيد ذات الكلمات في اليوم، خمس مرات على السَّامعين، الذين هم لأمر الله طائعين، وبالصلاة إليه يسجدون تقرُّباً، راجين القبول وعبور الصِّراط مستقيمين بثبات كانوا به على الدُّنيا، إلى المنتهى يتأمَّلون رحمة الله، كأنَّ المؤذِّن يطلب مني أن أكتب، ويرجو من الله أن تُقرأ حروفي بحركاتها السَّليمة، متجاهلاً قانون النحوِّ الدُّولي، في حالة إعرابية جديدة، تتماشى مع القرن الإلكترونيِّ، يهمس بصوت خافت، لحبر قلمي، أنِ اكتُبْ، وأملئ الورق بما يؤرقني، بعدما مُنعت المآذن في مدينتي أن تنشد النِّداء إلى الله، بصوتٍ عالٍ، خوفاً من إزعاج اليهوديِّ والنَّصرانيِّ، لأنَّ الله أكبر، تؤذي مشاعرهم، وتخدش روحانيَّتهم، ولأنَّ صلاتنا في مساجدنا باتت إرهاباً نُعاقب عليه، ونخضع لمحاكم الفُجَّار، بتهمة الدِّين الإسلامي. أمَّا نحن، فلا يهمهم أمرنا البتَّة، يقول: أيُّها المسلمين العرب الأعاجم، هبُّوا إلى نجدة الأرض المقدَّسة، فأين نحن من نداء الله، والمؤذِّن، وذاك الصوت الخافت في داخلنا، الذي يهمس لنا ونحن نتأهبُّ بالنِّيَّة الصَّادقة للذهاب إلى الصلاة.
إلى متى؟ سؤال يستصرخ ما تبقى من ضمائرنا، وينادي والمؤذِّن قائلان: للقدس شموخ، ولقبابها عزَّة نفس فلسطينية، عبر تاريخ طويل من البطولات الإعلامية، التي شهدنا جزءاً منها، أو تلك التي أُخبرنا بالكتب نيابة عمَّا جاء فيها، من أجزاء الحزن الأكبر، الذي خفي عنَّا، وكسى أوراق الوطن قبل أن نولد.
وهى الشباب ، و امتلأ الكتاب بالزَّلل، وكثير منَّا لم يبلغه أنَّ الجلود إذا استشهدت نطقت ! ومازالت الدُّول تتفرَّجُ علينا، كمسلسل تركيٍّ حلقاته طويلة، بلا مللٍ ولا كللٍ لم نزل متسمِّرين بأماكننا، دون جديد يخرجنا من هذا الضِّيق. ضيَّعنا الأخلاق بعد أن كنَّا خير أمَّةٍ تحتذي بها الأمم، كنَّا أمجاد حضارةٍ وعلمٍ وعمارةٍ، استنبط الغرب من ديننا نظماً باتوا علينا بها متفوقين، ونحن أبدلنا الدِّين بديانات أخرى، وخلطنا الشَّرائع، فصار المشروعُ ممنوعٌ، والمحرَّم محلّل بأيامنا، اتَّهمنا المتَّبِع لكتاب الله سبحانه وتعالى، والمُلتزم بسنَّة نبيِّه، بالرَّجعي والمتخلِّف. وماذا بعد؟ أما علمنا أنَّ النَّار للعصاة خُلقت ! وإنَّها لتحرق كل ما يُلقى فيها، جفَّت مآقينا، وقست قلوبنا، وبات الفرد منَّا لا يسأل عن أخيه، فكيف بقبيلته وذويه؟ وكيف بزهرة المدائن، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ؟
سلوا القبور عن سكَّانها، يا من أسمعكم عبر وسائل الإعلام، تجددُّون الولاء، للنِّضال الفلسطينيّ، تقولون إصبروا في أرض الرِّباط، وأنتم أحللتم رباط الإسلام بيننا، كفاكم نفاقاً أيُّها النَّافذون – و استخبروا اللُّحود عن قطَّانها تحت الثرى، لتخبركم بخشونة المضاجع، وتُعلمكم أن الحسرة قد ملأت المواضع، و المسافر يودُّ لو أنه راجع، فليتعظُّ الغافلون وليراجع أنفسهم التائهون، لرُّبما التقينا معاً، في درب رضي الله عنَّا فيها، وأرضانا بنصرٍ قريب على الغاصب المحتلّ، نعلنه فجراً حرَّاً يصدح به المؤذِّن منادياً إلى الصلاة، هبُّوا إلى نجدة بقعةٍ أخرى يا مسلمين.
رشا السرميطي