إضافات نظريه للدكتور جورج حبش ، بقلم : د. أحمد قطامش
في ذكرى رحيل الحكيم تستحضرني مقوله عرّف بها نفسه ( أنا ماركسي ، يساري الثقافه ، والتراث الاسلامي جزء أصيل في بنيتي الفكريه والنفسيه. أنا معني بالاسلام بقدر أعتناء أي حركه سياسيه إسلامية. كما أن القومية العربية مكون أصيل من مكوناتي… إنني في حالة انسجام مع قوميتي ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية وماركسيتي التقدمية).
ومنذ البدايات ربط المصير الفلسطيني بالمصير العربي ، النضال الوطني بالنضال القومي . فقضية فلسطين هي قضية عربية وجوهر الصراع العربي ، ولا حل للقضية الفلسطينية إلا في إطار حل عربي ولا انتصار للقضية إلا بانتصار عربي. وكان خلافه أو تقاطعه مع الأحزاب القومية والشيوعية ينطلق من هذه الزاوية.
في رسالته ” للداخل” ، في أواسط الثمانينات ، استعار رموزاً عربية ” علينا أن نكون أصحاب رسالة كمحمد وعيسى وأن نتحلى بشجاعة خالد وعدالة عمر “، أما بعد انهيار النظام السوفييتي في أواخر الثمانينات وتفكك سبيكة الدولة، فقد كتب ” إن تأثري بالانهيار أقل من سواي فأنا أعرف أن الرأسماليه ليست خالدة وأن البشرية تحلم وتسعى للعدالة “.
وفي المرحلة العولمية حيث تفاقم التقاطب الطبقي وأستشرى أحتكار الأقلية فيما إزدادت الأغلبية فقراً وقهراً ، فلا حل للتناقض في الرأسمالية بين تطور قوى الإنتاج وجمود علاقات الإنتاج ، إلا بتجاوز التشكيلة الاقتصادية -الاجتماعية ، فالتاريخ لا يتوقف ولا نهاية له .
وعليه فالركن القومي والركن الأيديولوجي ركنان أصيلان وأداتا تحليل في البنية الفكرية – السياسية للحكيم وهو يسترشد بهما ولا ينفصل عنهما أبداً . و كثّف ذلك بمقولة شهيرة ” لا ينبغي أن ينتهك التاكتيك الاستراتيجية ولا أن تنتهك السياسة الأيديولوجيا “.
قد يبدو سؤال القومية وسؤال الماركسية مركباً ومتناقضاً ، ولكن من يتتبع الحكيم وممارسته السياسية يكتشف حلاً وعلاجاً.
بداهة ، إن سؤال القومية والماركسية كبير وغامض ، والغوص في إرث الحكيم وبراكسيس الحكيم ، مسألة متشعبة أيضا . فالحكيم أورثنا مسيرة لم تحظ بالتّعمُل البحثي بعد ، رغم ما كتبه عشرات المثقفين العرب عنه. فشرط التّعمل البحثي أن يتم تصنيف ونشر إرثه المكون من آلاف الصفحات ” لقد جمعت 95 % منه ” حسب تعبيره. ومثل هذا الملف الضخم لمفكر ومنظّر وقائد سياسي في آن ، لا ينبغي حجزه في الرفوف أو السماح بتقادم الزمن عليه ، فهو يتخطى في أهميته حدود الفصائلية الفلسطينية إلى مراكز البحث والطلبة الدارسين وحركة الثورة العربية عموماً ، والذي يعرف عن صلات الحكيم العالمية يعرف أن أهميته لا تنحصر في المنطقة العربية أيضاَ.
وفي عجالة يفرضها منطق السؤال ومساحة المكان ، أسوق جواباً ، لعله يغطي ما يكفي من جزالة السؤال والتباسه ، بما يتطلبه ذلك من تفكيك وإعادة تركيب ، منوهاً إلى أن فضاءات واسعة من رؤيه الحكيم إنما ارتبطت وتوالدت عن الممارسة السياسية ، الأمر الذي يمنحها خصوصية وقوة بما يحررها من ” الكلامالوجيا ” و ” الأكاديميا ” دون أكاديميا ، علماَ أن الحكيم قد دأب على امتداد ستة عقود على اللقاء والحوار مع أبرز المفكرين والمثقفين العرب بما يتمتع به من خاصية الاستماع ، فهو ” يتقن الاستماع إليك ، وكأنه يريد أن يعرف منك أكثر مما تريد أن تعرف منه ، أنه تواضع الكبار الذين ينصتون إلى ايقاع الزمن المتغير ” م . درويش ، وهو الذي انتقل من أستاذ جامعي بعد أن كان معدله كطالب 96 % إلى طبيب وثوري محترف ، فجمع الثقافي والسياسي مبكراً ، الأمر الذي حدا به لتكليف مثقف هو الدكتور أحمد طوالبه لإدارة مجلة ” الرأي” التي صدرت عام 1952 ، وأيضا لم يكن مفاجئاً أن ” يتعرف إلى كنفاني وبلال الحسن وفضل وعصام النقيب وأحمد خليفة ” منذ تلكم الفترة …. مثلما لم يكن مفاجئاً أن يتناغم مع الدكتور وديع حداد بمزاياه الاستثنائية والنقابي – المثقف أحمد اليماني بإحساسه الطبقي الممزوج بالقاع الشعبي.
كانت النكبة – التطهير العرقي عام 1948 ، كتراجيديا تاريخية لم تنفك فصولها مستمرة لهذا اليوم ، بمثابة المنعطف الذي قرر شخصية الحكيم وهو الذي أفنى عمره لدحر هذه النكبة ودحر أثارها . ومنذئذ استخلص أن ” التخلف العربي والتجربة العربية هما السبب …” وبالتالي ” سقطت النظم التقليدية والاقطاعية ” دون أن يسقط حلمه الذي تشبث به ولم يتزحزح عنه ” تحرير فلسطين ، كل شبر ” كموقف وطني وقومي ثابت رافضاَ قرار التقسيم عام 1947 الذي يمنح الييشوف اليهودي 56 % بينما لم يكن لليهود سوى 5،6 % من الأرض ومقاوماً ” ما تمخض عن نكبة 1948 …. وهو في الوقت الذي امتدح الدور الوطني للحاج أمين الحسيني راح يمهد لبناء حركه سياسيه – ثقافيه – اجتماعيه جديدة.
محطات قوميه في فكر الحكيم وممارسته
كانت البداية تأسيس حركة القوميين العرب التي بدأت ارهاصاتها في مطلع خمسينات القرن الماضي واكتسبت هذا الاسم رسمياً عام 1956 كما يشير في كتاب ” الثوريون لا يموتون أبداً ” وقد امتدت إلى معظم الأقطار العربية.
صحيح أن الحكيم استند الى نتاجات ساطع الحصري وقسطنطين زريق ، وقام مع رفاقه الأوائل بدرس التاريخ العربي والديانات ….. ولكنه أكد أن ” القومية انتماء نابع من الجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة والثقافة ” فهي ليست مقحمة أو متخيلة، إنها سيرورة وصيرورة في آن وتتمايز على سواها من القوميات.
وأعرب عن اعجابه المبكر ” بالثوره ” الناصرية ومنجزاتها، بل انخرط القوميون في حكومة الوحدة المصرية – السورية عام 1958. وتشير لقاءات الحكيم مع عبد الناصر أن الحكيم انتقد غياب الديموقراطية، وأن هذا الغياب عامل كبير في انفراط عقد الوحدة والبيئة التي استفاد منها أعداء الوحدة …. “إذ لا يمكن تعبئه الجماهير إلا من خلال الديموقراطية …. الحرية والديموقراطية هما الشرط للسير نحو الوحدة والتطور والتنمية واستثمار إمكانات الأمة ومواجهة الأعداء القوميين “.
كما أن فرع القوميين العرب في اليمن قاد النضال التحرري ضد المحتل البريطاني وانتزع الاستقلال لليمن الجنوبي. فيما فرعهم في إقليم ظفار خاض قتالاً ضارياً.
دون التهوين من دور الحركه في نشر الثقافه التنويريه والنهضويه المنحازة للعلم والعقل والمواطنة والمطلب الديموقراطي التعددي والانتخابي … جنباً إلى جنب مع تبني سياسات قومية معادية للاستعمار ومعسكر الأعداء وتبيان الترابط بين حلقاته.
أما هزيمة حزيران 67 فقد اعتبرها الحكيم ” هزيمة للنظم وبرامجها ” ولا تنتقص من قدرة الأمة العربية على النهوض والانتصار ….. وبالتالي هلّل كثيراَ للانتفاضه الكانونيه 1987 كمبادرة شعبية وضعت الاحتلال في حالة دفاع ، وكان يردد بغتة في أحاديثه أو أثناء تناوله وجبه طعام ” لا شيء يعلو على صوت الانتفاضه ” ، و الأمر نفسه كان في انتصار المقاومه اللبنانيه عامي 2000 و2006 … وبالتأكيد كان يمكن أن يرى في انتصار الجيشان الأنتفاضي التونسي اليوم مصداقاً لثقته بالشعوب ورهانه على الأمة.
وحتى عندما حكم عليه القضاء السوري بالإعدام في بداية الستينات واعتقاله عام 1968من قبل رئيس المخابرات الجنيدي الذي ذهب لمقابلته لعله يحصل على تسهيلات لنشاط المقاومة ، ليجد نفسه في زنزانة انفرادية لمده ثمانيه أشهر إلى أن حرره الشهيد وديع حداد في عملية ذكية دون إراقة دماء … اختلف مع عبد الناصر على مشروع روجرز 1970 ، واجتثاث البندقية الفلسطينية من الأردن ودوره مع فصائل المقاومة الأخرى في تثوير وإسناد الحركة الوطنية اللبنانية التي سيطرت على 82 % من البلد عام 1976 قبل أن تذبحا … وكامب ديفيد 1978 وأوسلو 1993.
والحكيم وقف مليا وعن كثب على التحولات الطبقية – الاقتصادية – السياسية – الثقافية التي طرأت على مصر في فتره السبعينيات وأفضت لكامب ديفيد ، وبين أبعاد ذلك على الأمة العربية والقضية الفلسطينية ، وما نتج عن ذلك من سلخ مصر عن جبهه الصراع وو…. ولم تهتز ثقته بالقومية العربية.
أما خلاف الحكيم مع سياسات الرئيس صدام فلم تمنعه من المجازفة والسفر من دمشق لبغداد وسط قرع طبول الحرب ، وهو يعلم أنه قد يمنع من العودة ل سوريا ، غير أن الرئيس الأسد قال ” هذا رجل قومي صادق وإن اختلفنا معه ” وهو أكد للرئيس الأسد ” أنا عربي ومن حقي الإقامه في سوريا”. وبالتالي مشاركته في مؤتمرات شعبية عربية عديدة ضمت كافة ألوان الطيف السياسي والفكري.
فالحكيم حكاية قومية. وحكايته تبدأ من أرض القضية القومية الأولى ( قضية فلسطين ) والتي كرّس حياته لها ، بكل ما في الكلمة من معنى ، صانعاً للتاريخ ومشاركاً في خلجاته ومخاضاته ومعاركه ، بما تعرضت له الثورة من مذابح سياسية وعسكرية ، و( كانت بنيته الفكرية والأخلاقية الواضحة شديدة الإحكام والتماسك والعناد ) م . درويش … وهو لم يتردد في التلاحم المصيري مع شقيقه أبو عمار في معركه بيروت الكبرى عام 1982 والخلاف الاستراتيجي معه على خيار أوسلو ورفضه العودة ” تحت راية أوسلو، ودون عودة ملايين اللاجئين ” وتصديه المثابر للميول اليمينية التي تمسس بالحقوق التاريخية والوطنية “.
وسواء نشاط حركه القوميين العرب التي قادها كرجل أول أو تأسيس الجبهه الشعبيه وقيادتها كرجل أول أيضاً ، عندما كانت قوة ثانية تملأ الدنيا بحضورها ، إنما كان الهدف ” تحرير فلسطين وعودة أهل البلاد لوطنهم “. والجبهة مسيرة متشعبة ، تستحق كما سواها من الفصائل الأساسيه إجراء دراسات بحثية حولها، وفي الطريق كتاب لي على صله بالأمر.