بِكَلِمَاتٍ خُطَّتْ بِحِبْرِ حَنِينِ المشتاقينَ إلَيْك
فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ تَكْتَمِلُ الذِّكْرَى،
يَصِلُ البَدْرُ مُبَكِّراً مِنْ كُلِّ صَفَرٍ،
يَتَقَّدَّمُ الثَّانِي عَشَرَ مِنْهُ عَلَى الخَامِسِ عَشَرِ،
يَوْمٌ يَسْتَعْجِلُ بُزُوْغَكَ،
يَسْتَأصِلُ بُعْدَكَ،
يُخْرِجُكَ مِنَ الصُّدُوْرِ،
يُدْنِيكَ أَكْثَرَ مِنَّا،
وَأَنْتَ القَرِيبُ،
الرَّاحِلُ الّذي لَمْ يَذهَبَ،
وَلـمْ تُفَارِقْنَا رُوْحُهُ الطَّيِّبَةُ أَبَدَاً.
***
بِوَجَعِ الحُضُورِ نُصَافِحُ الأَنِيْنَ،
ضَيْفٌ نَشْتَاقُ زِيَّارَتَكَ،
نَحْلُمُ بِضَمَّةٍ فِي حِجْرِكَ،
تَكُونُ لنَا السَّلْوَى،
نَفْتَرِشُ مَنَاضِدَ الكَلامِ بِشَرَاشِفِ التَّذَّكُرِ،
وَبَاقَاتٍ مِنَ الضَّرَعَاتِ،
نُجْثِيْهَا عَلَى قَبْرِك،
لِتَنْشُرَ عِطْرَ سُمْعَتِكَ الطَّاهِرَةَ،
مِمَّنْ خَلَّفْتَ بَعْدَكَ،
نُأثِّثُ اللَّحَظَاتَ بأُمْنِيَاتٍ كَبِيْرَةٍ،
نَحْمِلُ قُرّآنَنَا،
وَشِفَاهُنَا تَلْهَجُ بِالدُّعَاءِ،
قُلُوبُنَا تَنْبِضُ بالرَّجَاءِ،
وَالدَمْعٌ مُحْتَبِسٌ تُغَرْغَرُ بِهِ المآقِي المُشتَعِلةِ،
يَتَّدَّفَقُ الكَلامُ بِأَلْسِنَتِنَا صَمْتاً،
وَأَبْصَارُنَا مَرّفُوعَةٌ إِلى سَقفِ وَجْدِكَ،
نَتَرَّقَبُ أَفوَاهَنَا،
وَمَنْ سَيَجْرُؤُ عَلَى البَدْءِ،
يَخْتَلِطُ الشُّعُورُ بِدَورَةِ حَيَاتِنا،
وَالفَرَحُ يَنْدَسُّ بِجُيُوبِ أَحْزَانِنَا،
أَيْتَامٌ غَدَوْنَا،
نَقْتَاتُ بِكَسَراتٍ مِنَ الحَنِيْنِ،
وَالصَّبْرُ مَلاذٌ لنَا،
نَقُوْمُ اللَّيَالي مُخْبِتِينَ،
آمِلِيْنَ باسْتِجَابَةِ رَبِّ العَالَمِين،
عَاكِفِينَ مَضَاجِعَنَا هَاجِعِيْنَ،
نَرَى قَدُّكَ فِي السَّمَاءِ مُنِيْرَاً،
كُلَّمَا نَظَرْنَا إِلَيْكَ،
شَاهَدْنَاكَ،
يَتَلأْلأُ مُحَيَاكَ بَيْنَ أَنْجُمِ المَاضِي،
وَالأَمْسُ الَّذِي حَوَانَا بِإطَارِ حُنُوِّكَ لأُسْرَتِنَا،
وَكُلٌّ مَا جَمَعنَا فِيكَ حَاضِراً الآنَ،
مِنْ رَحِمِ الإِخْلاصِ،
نَبْعَثُ إلَيْكَ صَوتَنَا،
قَارِئَاً عَلَيْكَ السَّلامَ.
***
لِلحُزْنِ تَارِيْخٌ مَعِي يَا وَالِدِي،
مَعَ عُمْريِ أَخَذَ يَكْبُرُ،
يَنْتَظِرُنِي كُلَّ عامٍ كَيْ أفْتَحَ أَلْبُومَ حَيَاتِي،
وَأُقَلِّبُ الفِكْرَ صُوَرَاً،
كَمَا اعْتَدْتُ السِّنِينَ وَحِيْداً بِذَاكِرَتِي،
أَستَقِبلُ أَلَـمِي عَلَى فِرَاقِكَ،
وَمَنْ أَحَبُّوكَ مِثْلِي حَوْليِ يَجْتَمِعون سِنِيْنَاً،
أَوْ يَتَّفَرَّقُون سُنُونَاَ،
سِيَّانَ عِنْدِي،
أَنْ يَكونُوا أَو لا يَكونُوا،
وَمَنْ زَالوا عَلى عَهِدِ حُبِّكَ أَيْضَاً،
أُوْلئِكَ الَّذيْنَ يُحِيطُونَنِي بِأَذْرُعِ الحُبِ،
وَأيُّ وَلَهٍ وَتَوقٍ يُغْنِينِي عَنْ نَظرةٍ وَاحِدةٍ منْ مُقْلَتَيْكَ !
المُوَاساةُ مِنْهمُ قُرْبَاناً مَا فَتِئوا يُقَّدِّمُوْنَهَا،
يُحَاوِلونَ تَعْوِيْضِي عَنْ فَقْدِك،
أَبِي..
لَعَّمْرِي مَافَقَّدْتُكَ،
لَكِّنَ شَيْئَاً مِنْ ذَاتِيَ فُقِدَ بَعْدَ الرَّحِيْلِ.
***
يَا والِدي..
حَتَّى الَّذيْنَ لَمْ يَشْهَدُوْنَكَ،
وَلا أَنْتَ قَد شَهِدْتَهُم،
كُلُّ الخَلائِقِ مَدعُوُّون اللَّيْلَةَ لِمُشَارَكَتِي،
حَاضِرُوْنَ جَمِيعَاً،
إِحْيَاءً لِذِكرَاكَ الخَالِدةَ فِي نٌفوسِنَا،
وَقُلُوبُنَا لَمْ تَزَلْ عَامِرَةً بِكَ،
وَأَنْتَ السَّاكِنُ فِي عُقُولِنَا مُذْ رَحَلت،
مَا تَرَبَّعَ فيِ الدَّارِ وَالفُؤادِ بِمَكَانِكَ بَشَرٌ قَط،
وَلمْ نُبَدِّلُكَ بِحَبِيبٍ،
عَلَى الوَعْدِ مَضَيْنَا مُخْلِصِيْنَ،
بَحَسرةٍ وِأَنَنينٍ نُمَرِّرُّ اللَّيَالِي.
***
يَشهَدُ النَّهَارُ بُؤْسَ كَدَرِنَا بِخَسَارَتِكْ،
وَاللَّيْلُ شَاهِدٌ كَيْفَ نَقُومُ لِكَسْبِ لِقَائِكَ مِنْ جَدِيْدٍ،
كُؤُوْسُ الرِّضَا امْتَلأَتْ صَبْرَاً فِي أَكُّفِّنَا،
وَالسَّوَاعِدُ سَاجِدَةٌ تُخَرْخِرُ مَا فِي جَوفِهَا،
يَا رَاحِلاً بِقَضَاءِ اللَّهِ،
الرَّحْـمـَةُ عَلَيْكَ،
فِي ذِمَّةِ المُعْطِي أَنْتَ لا تُضَامُ،
وَمَنْ يَسْكُنَ عَيْنَ الذِي لا يَنَامُ لا يُهَانُ،
غَفَرَ اللَّهُ لَكَ الدُنْيَا،
وَمَا جَرَىَ فِيهَا،
نَسْأَلُ الله لَكَ العَفْوَ،
منَّاً لا يُحْصَى،
بِدُعَاءِ وَلَدٍ صَالِحٍ أَحْسَنْتَ تَرْبِيَّتَهُ،
وَزَوْجَةٌ طَيِّبَةٌ صَانتْ عِرْضَكَ وَمَالَكَ وَبَنيْكَ،
مِنْ بَعْدِكَ،
فكَانَتْ نِعمَّ الأُمِّ وَالأَبِ لَنَا.
***
نَسْألُ اللّهَ القُبَولَ،
بِأَفْوَاهِ مَنْ قَرَأُوا كَلامَنَا،
وَالضُّيُّوْفُ الذَّيْنَ لَبُّوا نِدَائَنَا وَفَاءً لِذِكْرِكَ،
حَوْلَ أَسْطُرِي التَّفوا مُرَّدِّدِيْنَ،
اللَّهُمَ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا،
وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا،
كَبِيْرُنَا وَصَغِيْرُنَا،
اللَّهُمَ ارْحَمْهُ فَوْقَ الأَرْضِ وَتَحْتَهَا،
وَيَوْمَ العَرْضِ عَلَيْكَ إِلهَنَا،
اللَّهُمَ قِهِ عَذَابَكَ يَوْمَ تُبْعَثُ عِبَادَكَ،
اللَّهُمَ اجْعَل قَبْرَهُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الجَنَّات،
اللَّهُمَ نَوِّر عَلَيهِ قَبْرَهُ وَوَسِّع مُدْخَلَهُ وَآنِسْ وَحْشَتَهُ،
اللَّهُمَ أَبْدِلهُ دَارَاً خَيْرَاً مِنْ دَارِهِ،
وَأَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلِهِ،
وَذُرِّيَّةً خَيْراً مِنَّا،
وَأَدْخِلَهُ الجَّنَةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا سَابِقَةِ عَذَاب،
وَارْزُقْهُ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلى وَجْهَكَ الكَرِيْم،
وَالشَّوْقُ إلى لِقَائِكَ،
اللَّهُمَ إنِّي أسْألَكَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى نُزُلاً لَهُ،
بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنِ.
***
تَوَقَفْ يَا قَلَمِي،
وَلتُكْسِر بَقِيَّةَ السُّطورِ،
هِيَ رَنَّةُ المَأْسَاةِ تَدُقُ أَحْرُفيِ وَتَدَاً لِلوَرَق،
كَيْ تَحمْلَ خِيَامَ بَوْحِيَ الثَّقِيْلَ،
وَتَقْوَى عَوَاصِفَ النَّفسِ،
لا فَوَاصِلَ،
وَلا حَرَكاتٍ بَعْدَ انتِهَاءِ الخَميْسِ،
وَانْقِضَاءُ الأُسْبُوعُ،
لنُطْفِئْ الشَّمْعَةَ التَّاسِعَةَ عَشَرَ عَلَى فَقْدِكَ
وَلنَبْدأُ بِتَرتيْلِ مَا يُضْيئ مَسْكَنَكَ الآخَرَ،
لِنَبْتَهلَ وَنَزِيدُ دُعَاءَنَا،
الذي مَا قُطِعَ يَومَاً لأجْلِكَ،
أَيُّهَا الغَاليِ،
بُعْدُكَ لَمْ يَكُ سِوَى بِالجَسَدِ عَنَّا،
فَأَنْتَ الحَاضِرُ البَاقِيُ مَعَنَا،
يَا حَبِيْبَ الرُّوحِ،
سَلِ الأَيَّامَ التِّي شَهِدَتْ مِنَّا ذِكرُكَ،
وَاستَزِدْ مَنَ الثَّوانِي التِّي تُشَّكِّلُ اشْتِيَاقَنَا إِلَيكَ،
عَمَلاً كَانَتْ،
أَمْ قَوْلاً،
أَو رَجَاءً تَضَرّعْنَا فِيهِ للهِ.
البَقَاءُ للّهِ يَا وَالِدَ صَدِيقِي، وَوَالِديِ أَيْضَاً.
المحبين للأبد: أم حنين وأبو حنين
رشا السرميطي