في ذكرى النكبة … فلسطين تقود ، بقلم : لميس أندوني
في الذكرى الخامسة والسبعين لها، تستمر نكبة فلسطين باستمرار المشروع الاستيطاني الصهيوني العنصري، لكن صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته يفرضان استحقاقات على الجميع. فمن إقرار الأمم المتحدة بجريمة النكبة، إلى إعلان جدّة، حتى لو كان لفظياً، بمركزية القضية الفلسطينية، يعني أن لا أحد يستطيع تجاهل استمرار مقاومة الشعب الفلسطيني، بمختلف أشكالها، وإصراره على نيل حقوقه الوطنية والتاريخية.
لا ترسم هذه السطور صورة وردية، وهذا ليس تهرّباً من واقع استمرار التطبيع وخطره على القضية الفلسطينية وعلى الأمن القومي العربي، لكنها دعوة إلى عدم الاستسلام، بل وللاعتراف بكل فعل مقاوم وكل إصرار على الصمود، وبأن الترسانة العسكرية الصهيونية المموّلة أميركياً لم ولن تكون العامل الحاسم في تقرير مصير الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل التحرر.
تبقى النكبة ذكرى وواقعاً أليماً، وتذكيراً بفقدان وطن، لاجئ يحتفظ بمفتاح دار، لوعة على عقود من الانتظار، ففلسطين قريبةٌ من حيث المسافة، بعيدة عن التوق للدفن في أحضان ترابها. هي ذكرى وواقع من يعيش في سخنين والناصرة والنقب، ويقاوم الأسرلة وعزله عن بقية الشعب الفلسطيني. هي ذكرى وواقع في رام الله ونابلس، فالتمدّد الاستيطاني تجسيد عملي وموجع للنكبة المستمرة، وظهور أجيال تقاوم وتقضّ مضاجع حكام ورؤساء، أي لولا هذا الضجيج لكانت كلمة فلسطين قد حُذفت من قاموس القمم العربية، ومن الأمم المتحدة والعالم بأجمع.
تذكّرنا فداحة النكبة بأن ردّ العالم هزيل وضعيف، وأحياناً يفتقر إلى أدنى مستويات التعاطف الإنساني. ولكن من الخطأ التقليل من أهمية تأثير استمرار النضال، بالرغم من الانقسامات، وشراسة قمع الجيش الصهيوني. فاعتراف الأمم المتحدة بذكرى النكبة لن يحرّر فلسطين، لكنه اعترافٌ ضمنيٌّ بجريمة إقامة الدولة الصهيونية، ودخول النكبة كمصطلح إلى الإعلام الغربي مهم، فحرب المصطلحات في أهمية المقاومة المسلحة وغير المسلحة، فجزء من هدف المقاومة تحدي الرواية الصهيونية وتكسيرها وتعريتها.
عربياً، لن يحرّر الإقرار بمركزية القضية فلسطين، ولن يوقف عمليات التطبيع، لكنه دليل على أنه لا يمكن تجاهل الشعب الفلسطيني، ودليل على أن الأنظمة العربية، حتى المطبّعة منها، تقرّ وتعترف، ولو ضمنياً، أنه رغم تبعية معظم الأنظمة لواشنطن، فإن تمسّكها اللفظي (بغض النظر عن صدقه من عدمه) بالقضية الفلسطينية مصدر قوة وحماية لها، لا حباً بالقضية والقدس، بل خوفاً من عواقب استشراس الحكومة الإسرائيلية وتطرفها، وإطلاق عنان المستوطنين. لذا، هو تطور مهم، لكنه لا يرقى إلى خطورة التهديد الإسرائيلي، فمعاهدات التطبيع نفسها تشكل خرقاً أمنياً واقتصادياً لن تفلت منه أي دولة عربية بإعلان التزامها مركزية القضية الفلسطينية.
عليه، الشعب الفلسطيني، ولا أقول السلطة الفلسطينية، أكثر حرية وتحرّراً من سطوة الصهيونية الأيديولوجية من معظم الأنظمة العربية، لأنه استطاع تحويل نكبته المستمرة إلى مقاومة مستمرّة، ترفض الخنوع والخضوع والتخلي عن حقوقه وتراثه وتاريخه وروايته، فيما انجرّت أنظمة، وحتى عدد من المثقفين، إلى فخ استعمار العقول، بمصطلحات تزييف الحقيقة، فحديث بعضهم عن “حوار أديان” و”سلام وإخاء” بين أبناء النبي إبراهيم أكبر أكذوبة، تهدف إلى نسيان فلسطين وهويتها. القضية ليست دينية، وإن كانت إسرائيل سعت وتسعى لإشعال حرب دينية، مع المسلمين بشكل خاص، مستثمرةً في تيارات الإسلاموفوبيا والاستشراق الاستعماري، وكأن مشروعها الكولونيالي لم يقتلع أبناء فلسطين المسيحيين ويشرّدهم أو يقتلهم..
في ذكرى النكبة، يخوض الفلسطينيون أكثر من معركة من رفض فلسطينيي الداخل (1948) أسرلة هويتهم الثقافية والوطنية، بل بدورهم في تحقيق وحدة ساحات المقاومة، فهبّة الكرامة عام 2020 المكملة لهبّة أيار في حيّ الشيخ جراح في القدس وكل مدن الضفة الغربية وقراها، والمقاومة المسلحة في قطاع غزة، فمفهوم وحدة الساحات كان محصلة وحدة الفلسطينيين في هبّة أيار 2020، فالشعب الفلسطيني يواجه خطراً واحداً هو خطر مصادرة أراضيهم وبيوتهم، أي خطر اقتلاعهم من وطنهم.
لا يخفّف ذلك من مصيبة مجازر جيش الاحتلال في حوّارة وعقبة جبر وغزة وجنين ونابلس، واعتراف الأمم المتحدة ليس كافياً مقابل هذه التضحيات المهولة ولا بيان قمّة جدّة، كلها هزيلة أمام تضحيات الشعب الفلسطيني، لكن، لا بد أن نقرّ بأنه لولا مقاومة الشعب الفلسطيني، لما كان هناك إقرار بالنكبة، وهو إنجاز كبير قاومته إسرائيل عقوداً، فكلمة “النكبة” لوصف ما تحتفي به إسرائيل على أنه عيد استقلالها بحد ذاتها تشكيك وتقويض أخلاقي للدولة الصهيونية، فلا قرارات مجلس الأمن ولا دعم أميركي يستطيع منح إسرائيل الشرعية الأخلاقية التي طالما كان يتحدّث عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس الكيان الراحل شمعون بيريز.
نعود هنا إلى اتفاقيات التطبيع بين دول عربية وإسرائيل. فمن منظور إسرائيل، لا تهدف هذه الاتفاقيات إلى فرض هيمنة الكيان الصهيوني على المنطقة فحسب، بل إلى إضفاء شرعية أخلاقية على دولة دخيلة على المنطقة، فدمج إسرائيل في المنطقة الذي تسعى له أميركا لا يعني الاستسلام لقوتها العسكرية فحسب، بل يتطلب نسيان القضية الفلسطينية بل واسم فلسطين. ومن هنا يجب أن لا نقلل من قيمة أي إقرار عربي في زمن التطبيع بمركزية القضة الفلسطينية، بل واتخاذه حافزاً ومحرّضاً لمقاومة التطبيع.
ليس هناك أوهام حيال نتائج قمّة جدّة، ولم تكن واشنطن بعيدة عن أجواء القمة. وفي الوقت نفسه، الدفع الأميركي، والضغوط المستمرّة من أجل الوصول إلى اتفاقية تطبيع علنية بين إسرائيل والسعودية مؤشر ودليل على أن كلاً من واشنطن وتل أبيب تحملان على أي إحياء لمركزية قضية فلسطين في أي من القمم العربية، وتؤكّدان أنه غير مقبول، ولذا تتصاعد الأصوات في أميركا وإسرائيل مطالبة إدارة الرئيس جو بايدن بالتخلي عن التريث في جعل السعودية تدخل في الاتفاقيات الإبراهيمية.
واشنطن وتل أبيب لا تهتمان بالأفعال فقط، بل تعملان على تغيير الخطاب السياسي، أكان صادقاً أم كاذباً، تجاه فلسطين، فالخطاب السياسي العلني، وفقاً للرؤية الاستراتيجية الأميركية، يساهم في تشكيل الوعي الجمعي العربي، ولذا، تعمل أميركا على التخلص من طغيان مصطلحات العداء لإسرائيل، وإن كانت مشاهد التطرّف العنصري الصهيوني في فلسطين تعرقل كل عملية تشويه للوعي العربي، وتدفع الأنظمة إلى العودة، ولو شكلياً، إلى مواقف تقر بمركزية القضية الفلسطينية.
قد لا يتفق معي بعضهم، لكن، بما أن التحرّر هو نتيجة عملية نضالية تراكمية، فالشعب الفلسطيني في ذكرى نكبته، وبالرغم من المعاناة الرهيبة من قساوة القتل الإسرائيلي لأطفال غزّة ووحشيته، يقود العالم العربي بفعل الصمود والفعل المقاوم، وهذا يعني أن إسرائيل ستزداد وحشية وهمجية في عقاب شعب يرفض النسيان.