عندما تنغمس بين الأشجار والسهول والحقول، وإذا ما فقدت الألوان كلها وعمَّ الأخضر نابضاً في البساتين بصور الأشياء والكائنات هناك، اعلم أنك في أقدم مدينة تاريخية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط – يافا – تلك الأخت الكنعانية التي شهدت إزدهاراً تجارياً منذ آلاف السنين، نظراً لموقعها الجغرافي على الساحل، إحدى المدن المنكوبة عام ألف وتسعمائة وثمانٍ وأربعين، لقد أصبح اليوم معظم سكانها من اليهود، بعد الهجرة القسرية التي تعرض لها الفلسطينيون المقيمون هناك إبّان الحرب، عام 1948م، ولم يبقى منهم الآن سوى أقلية مسلمة ومسيحية.
لم تكن ﻟﻴﻠﺔ الرحلة ﺍﻟﻰ يافا ﻟﻴﻠﺔ عادية، لم أستطع النوم حينها، رغم محاولاتي المتكررة. لكم انتظرت هذا اليوم منذ صغري، ولكم حلمت بالتجوال في مناطق الثماني والأربعين من أرجاء فلسطين المحتلة، ولم يكن هذا الحلم قابلاً للتحقق في ظل أسري داخل منظومة الهوية الزرقاء، وإقامتي في القدس، كي أحقق المواطنة، وأستعيد حريتي. جهزت نفسي والقلق والتوتر محاطاً بي، أمام مغامرة أحتاج إليها. في لحظة، تملكني الضيق، ورغبت بشدّة أن ألتقي البحر، وأفرغ له ما يختنق في صدري من الآمال والأحلام التي صارت تشعر ببعد المنى شيئاً فشيئاً، بدا اليأس متسللاً لداخلي، حتى كان اليوم الذي قلت فيه لنفسي: سأفعلها والله معي سيكون. كأنه العيد برغم اقتصاره على زيارة ضيقة الحدود، كان بالنسبة لي فرح لا يحصى وحزن شديد، بين تناقض مريع، وقعت روحي آنذاك في شرك المخاطرة.
عانقنا القدس وقبلنا ثراها، ضمتنا بأذرع الحب والحنان، ودعنا المسجد الأقصى باشتياق، وعاهدنا قبة الصخرة المشرفة بأن نعود، سألنا الله السلامة والأمان، واستودعنا أنفسنا أمانة عند الملك سبحانه الذي لا تضيع عنده الودائع، ثم أتخذنا إلى الغرب طريقاً يبلغ خمسة وخمسون كيلو متراً، حالمين بوصولنا إلى البوابة الغربية من فلسطين المحتلة. يافا- العاصمة الثقافية، منبر الأدب والنشر والتدوين، أم الصحف الفلسطينية والمجلات قديماً. لقد بات الميناء مغلقاً، لا سفن ولا تجارة، ولا اصطياد بلا صيادون، بساتين الحمضيات بائسة، تفتقد أذرع المزارعين، رغم اكتساء الأراضي بعباءتها الخضراء. كان الحزن جلياً، على عروس فلسطين، مدينة البرتقال والمتنزهات الجميلة.
كانت حديقة الحيوانات المبنية على نهر الجريشة، ويسمونها الإسرائيليين حديقة (رمات جان). بعد الإحتلال، تم تحريف اسم النهر ليصبح، نهر اليركون، أول محطة أفرغنا فيها حقائب الشوق والحنين لمدينة يافا المحتلة، كأننا نحمل أثقال عمر طويل من التعب في ظل الإحتلال، وكأننا بوصولنا هناك حرّرنا المكان. انطلقت متفرجة، متعطشة، ألتهم بشراهة المناظر الطبيعية الخلاّبة بمقلتي، ومعي عدستي التي خلدت لي المشهد كي أنقله للقرَّاء، رغم أنه راسخ في عقلي، ولن يمحى يوماً، لكنَّ الصور العظيمة يصعب علينا التعبير عنها. تنقلت بين الماء والهواء، وكثير من النباتات الخضراء، وداعبت البط والطيور المختلفة هناك، كأنني أعرف المكان، والمكان يعرفني، لم أشعر بالغربة أبداً في أحضان وطني، رغم زيارتي الأولى، تذمرت صديقاتي من وحدتي وابتعادي قليلاً عنهنَّ، لكن الروعة التي كانت تغمرني فاقت كل شيء، وعلا الشعور في داخلي، حتى شعرت بروحي غادرت جسدي، وأخذت تحلّق في سماء يافا سامية بشرف العروبة الحقيقية. تملكني شيء من الحزن العميق على كل “يافاوي” كان هناك وتم تهجيره ليصير لاجئاً، مهاناً في المخيمات، ينتظر رحمة وكالة الغوث لتجيره، وجور حكامنا الذين يفرطون في حقوقنا تباعاً.
وصلنا وسط المدينة ظهراً، فاستقبلتنا الساعة الكبيرة، ورحبت فينا معربة عن سرورها بزيارتنا، رغم الإنقطاع الطويل، آثرت الصمت بعقاربها جميعاً على تقديم العبرة الزَّمنية لنا، ومنها، توغلنا وصولاً للجامع الكبير، ومنه تنقلنا في زقاق الشوارع والدكاكين متنقلين بين أسواق المدينة، ولأنَّ اللحظات الجميلة تمضي مسرعة كالضوء، بلمح البصر، تقتطع الوقت وتذهب، أدركنا العصر، فتوجهنا لمسجد (حسن بيك) وأدّينا الصلاة فيه، يا له من صرح صامت يتكلم بعنفوان الرجولة الفلسطينية، كان محاطاً بنخلتين مثمرتين على جوانبه، ومأذنته العالية ترفرف فرحاً بنا، كأنَّه مثلنا لم يزل حالماً بعودة يافا للفلسطينين، استقبلنا مرحباً بالذكريات واستعاد معنا أيام الحرب والمقاومة، مروراً بنكبتنا ونكستنا، وصولاً إلى انتفاضاتنا الأخيرة، فلا شيء يفوق مآذن الجوامع في فلسطين، قوة تذود أمام الغاصب المحتل لتقول: الله أكبر.
من الجامع إزددنا ولوجاً للأحياء القديمة مروراً بسوق (الكرمل)، ذاك الممر النابض، الذي تترامى على جانبيه المحال التجارية، التي تبيع ما لذّ وطاب من الطعام والشراب، والأغراض المنزلية. حينها قالت لي نفسي: يا أسفي على جنة يسكنها اليهود، أعداء الله والدين الإسلامي ! مؤلم أن تذهب كمثل هذه الزيارات ومعك سفير من الماضي، يقص عليك حكايات الأمس القاتم، ويروي لك تاريخ بحور الدماء التي سقت يافا، من أرواح الشهداء المبذولة في سبيل الله إبّان الحرب، قتلوا جميعاً، وهُجّر البقية منهم، لكننا مهما مرت السنون، سنظل على عهدهم باقون، ولن نتخلى عن حلم العودة، وقصة التحرير، لأن فلسطين عربية، وعاصمتها القدس الشريف، هذه حكاية أزلية، لن نتخلى عنها يوماً.
وأخيراً توجهنا إلى الشاطئ، فشاهدنا مغيب الشمس في بطن البحر، وأخذنا سحر الشفق نحو أطياف من ذكرياتنا الأصيلة، وصلت إلى حيث كنت لاهثة منذ بداية رحلتنا، لا أصدق عيناي ولا أذناي، أراني أمام البحر، وصوت الموج يعانقني، يرويني عطر الصخر، ويغويني صدف البحر، لا يمكنني وصف هذه اللحظة، مهما امتلكت من البلاغة في الأدب والنحو، فهناك حروف تعجز في هذا المقام عما يقال، لكنها أبجديات ليوم لن ينسى.
رشا السرميطي