لماذا يتهرّب النموذج الليبرالي من شبكات الأمان الاجتماعي؟ بقلم : بشارة مرهج
النموذج الليبرالي الذي تروّج له المؤسسات الأميركية المختلفة، والذي يتحمّس له كثيرون في لبنان والعالم العربي، يجب التعمّق في بحث مكوّناته ومعرفة خصائصه قبل تبنّيه أو رفضه.
صحيح أنّ هذا النموذج يؤمّن هامشاً من الحرية الفردية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أنه من ناحية ثانية يطلق العنان للاحتكارات والكارتيلات كي تتلاعب بالأسعار وتحقق أرباحاً غير مشروعة، وأحياناً خياليّة، تنقل الأموال من جيوب المواطنين إلى جيوب المحتكرين في دينامية مستمرّة تعتمد على الخداع والغشّ والاحتيال وتعطيل أجهزة الدولة الرقابية.
إلى ذلك تؤدّي الليبرالية، التي أثبتت قدرتها على التوحّش واحتواء سلطات الدولة في آن، إلى تدمير قيَم التعاون والتآخي والمشاركة في المجتمع وإعلاء شأن الأنانية والتبذير والفساد بدلاً منها. وهذا الأمر يحوّل المجتمع الى غابة تضيع فيها حقوق الناس والمؤسسات وتبرز فيها سلطات ونفوذ العصابات والطغم المالية والسياسية التي تتحكم بالأسواق والمؤسسات على حدّ سواء، دون أيّ اهتمام جدّي منها بالقطاعات الإنتاجية أو التربوية أو الصحية، وبدون أيّ اكتراث لإقامة شبكات أمان اجتماعي تحمي المسنين والنساء والأطفال والعاطلين قسراً عن العمل، فضلاً عن الطبقات متدنية الدخل والمتضرّرة من هيمنة وتسلّط النافذين والطفيليين. فالنموذج الليبرالي الغارق في زهوه وعجرفته يعتبر، دون أن يعلن عن ذلك، أنّ شبكات الأمان الاجتماعي تقلص أرباحه التي يريدها بدون سقف.
ومن خلال متابعتي لهذه القضايا كنت ألاحظ دائماً انّ دعاة الليبرالية، سواء كانوا مسؤولين في الدولة، أو في المؤسسات الدولية، أو في الأسواق، يحرصون على اختتام أطروحاتهم أو خطاباتهم بالتركيز على أهمية وضرورة إيجاد شبكات أمان اجتماعي ترافق أيّ مشروع اقتصادي يتطلب زيادة في الأسعار، بغية التخفيف من آثاره الاجتماعية على الطبقات الأشدّ حاجة والحفاظ على التوازنات المطلوبة في مجتمع يشكو من تفاوت في الدخل وتركز في الثروة بيد قلة مسيطرة تتناقص باستمرار فيما تشتدّ سطوتها على مفاصل الدول وتشتدّ قسوتها على الجماهير ومكوّنات المجتمع الأخرى.
كما كنتُ ألاحظ، كلما انطلق المشروع، تحت مظلة الشروط المنوّه عنها أعلاه، كيف تتساقط الاعتبارات الاجتماعية تباعاً تحت ذريعة تخلف أو تأخر الجهة المانحة عن توفير الاعتمادات اللازمة، أو ذريعة الفوضى التي تسود عمليّة تنفيذ المشروع نتيجة تدخلات السياسيين وأصحاب المصالح الكبرى.
وعندما يبدأ السجال حول مصير شبكات الأمان الاجتماعي في مجلس النواب أو وسائل الإعلام تتضارب المعلومات وتشتدّ الاتهامات المتبادلة وسط ضباب كثيف من الإشاعات والأقاويل التي ترهق الجمهور، خاصة بعد شحنه بمعلومات خاطئة تتكفّل بها أجهزة إعلام محترفة تعرف دورها في التغطية على الحقائق وإثارة الشكوك، فتكون النتيجة في معظم الأحيان فقدان ذوي الحاجات لشبكات الأمان الموعودة وفوز أصحاب المشروع والمروّجين له بكلّ الفوائد والأرباح المشروعة وغير المشروعة الناتجة عنه. وأبلغ مثال على هذه الظاهرة يتجلى في الوعود التي أغدقتها الطبقة الحاكمة، بالتعاون مع جهات دولية، على الجمهور اللبناني تطمئنه فيها بأنه سيكون بمأمن من الآثار السلبية لسياسات رفع الدعم التي ينبغي اتباعها في مختلف القطاعات لإعادة التوازن للاقتصاد الوطني ودفع عجلته إلى أمام بعد الكارثة الكبرى التي شهدتها البلاد منذ انهيار المصارف عام 2019.
وحين كانت تلك السياسات تأخذ طريقها الى التنفيذ كانت الوعود المقابلة تتسلل هاربة تاركة الجمهور يواجه وحده الغلاء الفاحش في أسعار الخدمات الأساسيّة التي ينبغي للدولة أن تعتني بها عناية خاصة نظراً لمضمونها الاجتماعي، لا سيما في ميادين السلع الأساسية والصحة والأدوية وغذاء الأطفال والتعليم والمواصلات.
تبيّن التجارب أنّ الطغمة المالية الميليشياوية الحاكمة في لبنان لا تستطيع الوفاء بوعودها، وأحياناً كثيرة لا تريد ذلك على الإطلاق، لأنها تستسيغ احتكار الثروة ومراكمتها الى مستويات خيالية كي تضمن نفوذها وتسلطها على الطبقات محدودة الدخل. هذه الطبقات التي ترى مدّخراتها تتبخّر أمام أعينها، وترى مداخيلها تتقلّص بصورة دراماتيكية بسبب الغلاء الجنوني الذي يطاول السلع والخدمات من ناحية، وبسبب ارتفاع مستوى الرسوم والضرائب التي تفرضها الدولة بحجة توفير المال اللازم للأنفاق ودفع الرواتب.
إنّ هذه الطبقة المالية ـ السياسية التي تتهرّب من اعتماد شبكات الأمان الاجتماعي تستبدّ بثروات البلاد وأموال المواطنين على حدّ سواء. وهي بعدما ذاقت طعم الثروة وأخذتها العزة بالإثم أصبحت تنظر للمال نظرة مادية خالصة. فالمال ضروري لتأمين رغد العيش ولكنه ضروري أيضاً لممارسة النفوذ والسلطة على الناس في كلّ الأوقات، إذ أنّ سطوة المال المبهرة قادرة، في نظر هذه الطبقة المركبة، على احتواء معارضة البعض، كما هي قادرة على تأمين قاعدة ولاء واسعة ومستقرة في معظم الأحوال.
ولذلك يعمل أفراد هذه الطبقة على مراكمة الأموال الضخمة، مستخدمين كلّ وسائل الغش والخداع لأنهم يعتبرون الثروة مرادفة للقوة، وكلما زادت ثرواتهم زادت قوّتهم. وهذا يفسّر جشع هذه الطبقة وأحياناً إهمالها لحقوق الآخرين أو للناحية الاجتماعية في العملية الاقتصادية. وإذ يصبح الهدف الحفاظ على السلطة فلا حدود لجشع الاحتكار الذي يعتبر أنه لا مجال للتراجع في السباق المحموم نحو المال الذي يضمن شراء الذمم وتعطيل الأحكام وتزوير الحقائق وتثبيت التفاوت الطبقي الهائل في المجتمع.
وعندما يصبح المال هو الهدف بعينه بالنسبة للاحتكار تسقط الكثير من الاعتبارات الأخلاقية وتسقط التقاليد الاجتماعية الحسنة وتبرز آليات التلاعب بالأسعار وطبع العملة وليّ عنق القوانين وتعطيل مؤسسات الدولة التي تتحوّل بعهدة الاحتكار الى أداة رخيصة بيد الأثرياء المعجبين بأنفسهم الكارهين لأيّ نوع من أنواع الضوابط الاجتماعية أو القانونية بما فيها قوانين السرية المصرفية والإثراء غير المشروع، تلك القوانين التي تعترف بها وتتشبّث بأحكامها متى كانت الدفة لصالحها والتي تتنكّر لها وتهمّشها متى كانت الدفة لصالح الاقتصاد الوطني.