ما يحدث في العالم العربي، وبخاصة في تلك الدول التي شهدت إطاحة بالأنظمة السابقة، يحتاج لقراءة متمعنة، فما شهدته تلك الدول هو في حقيقة الأمر إطاحة بنظام الحزب الحاكم أو الفرد الحاكم، ، والحراك الشعبي الذي بات يعرف بالربيع العربي جعل التخلص من حقبة اللون الواحد هدفاً له، على مدار عقود عدة حاولت الأنظمة السابقة أن تجعل من التيارات الإسلامية فزاعة لشعوبها، واستأثرت على مقاليد الدولة بيدها دون أن تتيح الفرصة لغيرها مشاركتها في الحكم، وأمام ذلك كان من البديهي أن يذهب خيار المواطن في الانتخابات التي أعقبت الإطاحة بتلك الأنظمة إلى نقيضها المتمثل في التيارات الإسلامية سواء كان ذلك حباً في موسى أو كرهاً في فرعون، المواطن أراد أن يتخلص من ظاهرة الاستحواذ على كل شيء والتفرد بمقاليد ومفاتيح الحكم، وعلى اعتبار أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، فقد تبنت التيارات الإسلامية هجوماً على كل ما هو سابق من بوابة الفساد، وهي العصا السحرية التي تمكنت من خلالها مخاطبة عواطف المواطنين وكسب أصواتهم، وإن كانت التيارات الإسلامية قد نجحت في ذلك وحصدت ثماره في الانتخابات، إلا أن استمرارها في ذات النهج بعد الانتخابات أوقعها في ذات الأخطاء.
فالتيارات الإسلامية منذ الإطاحة بالأنظمة السابقة جعلت ما بات يعرف بمصطلح “الفلول” فزاعة للمواطنين، دون الأخذ بعين الاعتبار الحضور الذي تمثله القوى الأخرى بما فيهم القريبة من الأنظمة السابقة الذين لم يلحق بهم شبهات الفساد، فلو أخذنا بعين الاعتبار نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية، لوجدنا أن الفارق بين ما حصل عليه الرئيس المصري د. محمد مرسي “مرشح الإخوان المسلمين” من أصوات والسيد أحمد شفيق، الذي حاولت جماعة الإخوان المسلمين أن تلصق به صفة “مرشح الفلول”، لوجدنا أن الفارق يتعدى بقليل نسبة1%، فهل من المنطق في شيء اعتبار نصف المجتمع المصري من “الفلول” الواجب ملاحقتهم وعدم السماح لهم بالمشاركة في الحياة العامة؟، إن هاجس النظام السابق بات يسيطر على عقلية وسلوك القوة الحاكمة الجديدة، وهذا ما دفعها لسلوك طريق إقصاء الآخر تحت مسمى التطهير لمؤسسات الدولة، وبالتالي دخلت إلى نفس متاهة التفرد بالحكم التي عاشت عليها وتواجدت فيها الأنظمة السابقة.
من البديهي أن تفقد التيارات الإسلامية الكثير من جماهيريتها ومصداقيتها من جراء هذه الفلسفة العقيمة التي منيت بهزيمة ساحقة، وهذا ما عبر عنه صراحة السيد راشد الغنوشي في تونس بخشيته من فوز حزب نداء تونس في الانتخابات القادمة، والشيء ذاته يحدث في مصر مع تنامي المعارضة لسيطرة الإخوان المسلمين على مؤسسات الدولة، كان من الأفضل على التيارات الإسلامية أن تبتعد عن هذا المنزلق، وأن تؤسس لمرحلة مغايرة تشرك الجميع معها في تحمل المسؤولية، لتبني الوطن القائم على المشاركة لا على الإقصاء.
الدول التي عانت من الظلم والاضطهاد وتحكم فئة دون غيرها بمكونات الدولة، وأرادت أن تشيد قواعد سليمة لحكمها بعد الإطاحة بهذه الأنظمة دخلت في مرحلة “العدالة الانتقالية”، كي تحقق المصالحة المجتمعية كركيزة أساسية نحو التنمية والاستقرار، وهذا لا يعني التوقف عن ملاحقة رموز فساد النظام السابق، وإنما بذلك توصد الباب في وجه الانتقام والإقصاء واستنزاف مقدرات المجتمع في الخلافات الداخلية.
ما نخلص إليه أن المواطن لم يعد يهضم تفرد حزب أو فصيل بالحكم، حتى وإن أعطته الانتخابات الأغلبية المطلقة، بل يتطلع إلى لوحة حكم يشارك الجميع في تحمل المسؤولية، وأعتقد أن الشيء ذاته ينطبق علينا، وكون الاحتلال ما زال يجثم على صدورنا، فمن الأولى أن يدفعنا ذلك لترسيخ مبدأ الشراكة السياسية، وإن حاول البعض وضع العراقيل أمام ذلك تحت ذريعة التباين والاختلاف في البرامج السياسية للقوى السياسية الفلسطينية، إلا أن حقيقة الأمر أن ما يتوفر بينها من خطوط مشتركة يوفر لها الأرضية الصلبة لاعتماد الشراكة السياسية، خاصة وأن التحديات التي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني اكبر من أن يتحملها فصيل بعينه، وكي نصل إلى ذلك نحن بحاجة لتعديل الكثير من ثقافتنا التي جعلت الانتماء الحزبي يتفوق في كثير من الأحيان على الانتماء الوطني.