الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا بعيداً عن التبعية الامريكية ، بقلم : عوض سليمية
التصريحات الواردة من بكين على لسان الرئيس الفرنسي الزائر ايمانويل ماكرون، بعد ختام لقاءاته بالقيادة الصينية على مدار ثلاثة ايام، ومحورها إعلان نظريته القائمة على “الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا” و”التي من المفروض ان تقودها فرنسا، لكي تصبح قوة عظمى ثالثة”.
و”أن تقلل اوروبا من اعتمادها على الدولار الأمريكي (خارج الحدود الإقليمية)، الى جانب، “تتجنب الانجرار إلى مواجهه بين الصين وأمريكا بشأن تايوان”.
حملت في طياتها جملة من الرسائل السياسية غير المعهودة من قادة اوروبا منذ قرابة عقد من الزمان، وبعثت برقيات جديدة ستصل سريعاً الى بريد البيت الابيض، تعكس حالة الغضب السائد لدى قادة اوروبا على الاقل من الرئيس الفرنسي، من استمرار واشنطن في مصادرة قرارهم السياسي والعبث باستقلالهم، والدفع بهم في جحيم معارك جانبية، واصبحت تهدد اقتصاداتهم بمزيد من الغرق، تحت مبررات حفظ الامن القومي للقارة العجوز.
من ناحية، فإن الحفاوة الكبيرة التي تعمد الرئيس شي جين بينج إظهارها لضيفه خلال مدة الزيارة. -على الرغم من مشهد الطاولة المستديرة ذات المسافات المتباعدة التي جلس عليها الرئيس وضيفيه، تؤكد على قناعة القيادة الصينية ان ضرب الوحدة عبر الاطلسي، من خلال تشجيع باريس على أخذ مكانها كـــ قطباً دولياً مؤثراً في العالم وليس تابعاً لواشنطن، هي في قمة أولويات سياسات بكين الخارجية.
من ناحية اخرى، يبدو ان الاغراءات الاقتصادية التي تلقاها ماكرون -رافقه العشرات من رجال الاعمال الفرنسيين، من نظيره شي، كانت بمثابة وقود سرعان ما تفاعل داخل أوردة الزعيم الاوروبي.
مما دفعه لاطلاق هذه التصريحات، وتذكير زملائه الاوروبيين، “بمدى خطورة الاعتماد شبه الكلي لدول الاتحاد على واشنطن في الأسلحة والطاقة على استقلالهم الاستراتيجي.
وان الوقت قد حان لتركز اوروبا على تطوير صناعاتها الدفاعية بنفسها”. وبصورة مماثلة، ضرورة النئي بالنفس عن الانخراط في التوترات الصاعدة بين القوى العظمى حفاظاً على مصالحهم.
يقول ماكرون للصحفيين: “المفارقة هي أنه، بعد التغلب على الذعر، نعتقد أننا مجرد أتباع لأمريكا. وأضاف “السؤال الذي يحتاج الأوروبيون للإجابة عليه…
هل من مصلحتنا تسريع [أزمة] تايوان؟ لا. أسوأ شيء هو الاعتقاد بأننا نحن الأوروبيين يجب أن نصبح أتباعا لهذا الموضوع، وأن نأخذ إشارتنا من الأجندة الأمريكية ورد الفعل الصيني المبالغ فيه”.
تباين المصالح قفزت الى الواجهة، وأظهرت إنقساماً حاداً في المواقف الصادرة عن الرئيس الفرنسي ومفوضة الاتحاد الاوروبي فون دير لاين، والتي رافقت ماكرون في جزء من زيارته، بخصوص قضية تايوان والحرب في اوكرانيا. بينما أظهر الرئيس ماكرون تفهماً لمواقف الصين، عكستها تصريحاته المتزنة.
أبدت رئيسة المفوضية موقفاً متشددأ واكثر التصاقاً بالموقف الامريكي. وفقاً لصحيفة بوليتيكو، قالت ديرلاين أن “التهديد باستخدام القوة لتغيير الوضع الراهن في مضيق تايوان غير مقبول”. وكان رد شي حاضراً بقوة، “إن أي شخص يعتقد أنه يمكن أن يؤثر على بكين في تايوان مخدوع”. ولاحقاً، تم تجاهلها من جدول اعمال الزيارة، وغادرت بكين منفردةً.
ضمن هذا السياق، فإن تصريحات الرئيس الفرنسي يمكن إدراجها في إطار الطموح المشروع لدى باريس، في ضرورة ان تكون اوروبا مستقله في سياساتها الخارجية بعيداً عن التبعية الامريكية، والرغبة القائمة لدى ماكرون في اقناع زملائه بان من مصلحة اوروبا تغيير شكل النظام العالمي، وان تكون كل من الصين وروسيا أقطاباً عالمية. وهو بهذه التصريحات، يحاول ان يكون مبادراً لدفع الضلع الثاني للمساعدة في هذا التوجه الاستقلالي، وهي المانيا.
والتي يعاني مستشارها اولاف شولتز من ضغط امريكي شديد، يحظر عليه حتى تشكيل لجنة مستقلة للكشف عن الجهة التي تقف خلف تفجيرات السيل الشمالي1 و2، والذي الحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الالماني، وفاقت الخسائر المترتبة عن هذا التخريب ملايين الدولارات. الى جانب إجباره على الانخراط في الحرب ضد موسكو من خلال الاعلان عن تزويد اوكرانيا بدبابات ليوبارد2.
مثلما لعب الرئيس ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر “ورقة تايوان” لعزل الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة عن الصين، يلعب الرئيسان فلاديمير بوتين وشي جين بينغ أوراقهما في محاولة لاحتواء القيادة العالمية للولايات المتحدة، ويتقاسمان الادوار بحكمة، بينما يقاتل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الارض في اوكرانيا، مُعلناً بدء العد التنازلي لنهاية القطبية الاحادية بقوة النيران، تحارب الصين بالتوازي بدبلوماسيتها الناعمة المعهودة على الساحة الدولية، واصبحت تؤرق واشنطن بل تخترق حلفائها.
فبعد نجاحها في طي الخلافات بين طهران والرياض، كانت اولى الثمرات حاضرة باعلان الفرقاء في اليمن جاهزيتهم لانهاء الحرب الاهلية في اسرع وقت.
وفيما تقدمت بكين بمبادرة جادة لانهاء الازمة الاوكرانية، تشجع فرنسا الان للخروج عن التبعية لواشنطن. بالمقابل، تجري في الغرف المغلقة في موسكو مفاوضات جادة بين دمشق وانقرة، لانهاء الوضع غير الطبيعي القائم في شمال سوريا. في الوقت نفسه، تستمر الرياض في توثيق العلاقات مع كل من بكين وموسكو وتغرد بعيداً عن النهج القديم.
سواء تمكن الرئيس ماكرون من إنفاذ تصريحاته منفرداً و/أو إيجاد مسارات مساندة بإقناع نظرائه الاوروبيين خاصة المانيا، بأهمية إستراتيجيته الجديدة “الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا”، وان المشهد السياسي العالمي آخذ بالتبلور في عكس اتجاهاتهم، من عدمه.
إلا ان حقيقة واحدة لا يمكن تجاوزها، وهي: أن الصين نجحت الى حد ما في توسيع الفجوة القائمة بين ضفتي الاطلسي، على الاقل في مسألة تايوان، وسلطت مزيداً من ضوء النهار عليها. في حين سافر الرئيس الفرنسي برفقة المفوضة الاوروبية في محاولة لتجنيد الرئيس الصيني شي للانقلاب على حليفه بوتين، تمكنت الدبلوماسية الصينية البارعة من عكس المهامة وجندت الرئيس الفرنسي للعمل ضد سياسات واشنطن. هل يفعلها ماكرون؟؟.
الدكتور عوض سليمية
- باحث في العلاقات الدولية
- مدير وحدة الابحاث والدراسات الدولية
- زميل ابحاث ما بعد الدكتوراة مدرسة العلاقات الدولية SOIS
- جامعة اوتارا ماليزيا University Utara Malaysia UUM