تقدير إستراتيجي: أزمة الائتلاف الحكومي الإسرائيلي ، بقلم : د. أشرف بدر
مقدمة
يهدف هذا التقدير إلى دراسة وتحليل الأزمة التي يمر بها الائتلاف الحكومي الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو، في ضوء الاحتجاجات والمظاهرات التي اندلعت في أعقاب محاولة إقرار التعديلات القضائية. ويحاول الإجابة عن سؤال مستقبل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي، من خلال وضع سيناريوهات محتملة لتأثير هذه الاحتجاجات والتناقضات، من خلال تتبع سير الأحداث، وتحليل خطاب الفاعلين السياسيين الإسرائيليين، وخطاب المحيطين الإقليمي والدولي، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية. كما يجادل بعمق الأزمة وتأثيرها الملموس في مستقبل دولة إسرائيل، وترجيح سيناريو عدم إكمال الائتلاف الحاكم لمدته القانونية.
الخلفية
تصاعدت الاحتجاجات الجماهيرية في داخل الكيان الصهيوني على التعديلات القضائية، التي أدخلتها حكومة نتنياهو المسيطر عليها من اليمين المتطرف، والتي تهدف إلى إضعاف السلطة القضائية التي لا يهيمن عليها اليمين المتطرف في الوقت الحاضر، وتقف (أحيانًا) حجر عثرة في سنه لبعض القوانين العنصرية في الكنيست، التي تخالف القانون الدولي، وقد تتسبب بعزلة إسرائيل.
اتسعت رقعة الشرائح السياسية والاجتماعية المنضمة إلى الاحتجاجات، ومن بينها قيادات إسرائيلية محسوبة على “اليمين” السياسي، مثل: أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب إسرائيل بيتنا، وليمور لفنات، الوزيرة السابقة عن حزب الليكود، فضلًا عن مجموعة من كبار ضباط الاحتياط والطيارين في الجيش الإسرائيلي، ومجموعة من مديري شركات الهاي تك، بالترافق مع سحب بعض الشركات أموالها من إسرائيل؛ ما أثر في قيمة عملة الشيكل، وتسبب في زيادة الأسعار. كل ذلك، وفي الخلفية، ما زال شبح عدم استقرار الحياة السياسية في إسرائيل ماثلًا، والمتجسد في تفكك حكومات عدة، وإجراء خمس انتخابات للكنيست خلال ثلاث سنوات.
تزامنت الاحتجاجات مع تصاعد التوترات داخل الائتلاف الحكومي على خلفية تنازع الصلاحيات، بين بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب الصهيونية الدينية، وزير المالية (الذي يشغل أيضًا منصب وزير في وزارة “الأمن”، ومسؤول عن الإدارة المدنية)، ويوآف غالانت، وزير “الأمن” الليكودي من جهة، وبين غالانت وإيتمار بن غفير، زعيم حزب “العظمة” اليهودية، وزير “الأمن الوطني”، وكذلك بين بن غفير وكوبي شبتاي، المفوض العام للشرطة، على خلفية عدم امتثاله الكامل لأوامر الأول بتفعيل قوة أكبر ضد المتظاهرين.
صرح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إن من يظن أن “الحرب الأهلية هي حدّ لن نصل إليه، فهو لا يفهم”، فيما علق ياريف ليفين، وزير القضاء الإسرائيلي، على تتابع الأحداث والدعوات إلى تجميد “الإصلاحات القضائية” بقوله: “إن الوضع الذي يفعل فيه الجميع ما يشاؤون قد يؤدي إلى سقوط الحكومة فورًا وانهيار الليكود. علينا جميعًا أن نبذل قصارى جهودنا لتحقيق الاستقرار في الحكومة والائتلاف”.
أبدى بعض الليكوديين استياءهم من طريقة نتنياهو في تشكيل الائتلاف الحكومي، وتوزيعه للحقائب الوزارية، وخضوعه لابتزاز شركائه من اليمين المتطرف، وكذلك طريقة إدارته للأزمة. وفي مقدمة المستائين ارتفع صوت ديفيد بيتان، رئيس اللجنة الاقتصادية البرلمانية، الذي يقدر أن هذه الحكومة لن تستكمل مدتها إن لم تصل إلى تفاهمات مع المعارضة؛ حيث قال: “ستستمر هذه الحكومة أقل من أربع سنوات. أذكركم بأنني قلت إن حكومة التغيير (نفتالي بينيت/يائير لبيد) ستستمر لمدة عام واحد فقط، وكنت على صواب، وربما تستمر هذه الحكومة لمدة عامين”.
على الجانب الآخر، قلل البعض من تأثير هذه الاحتجاجات والتناقضات في مستقبل الحكومة والكيان الصهيوني، وفي مقدمتهم سموتريتش بقوله: “يهدف الاحتجاج إلى خلق الفوضى، وإلحاق الأذى بإسرائيل، من أجل الإطاحة بالحكومة اليمينية، والذهاب إلى الانتخابات السادسة، وهذا لن يحدث”. ومن هنا برزت الإشكالية التي يعالجها هذه الورقة.
محاولة لتحليل الأزمة
يصعب تحليل الأزمة الداخلية الإسرائيلية بسبب تعقيد الأوضاع وتشابكها، فالتناقضات الإثنية والطبقية والفكرية والهوياتية التي بنيت عليها دولة إسرائيل، والتي استطاعت الحركة الصهيونية “صهرها” في مرحلتي التأسيس وتدعيم بناء الدولة؛ تحوّلت في مرحلة الاستقرار “النسبي” للمشروع الصهيوني إلى شروخات وجروح في جسد المجتمع الإسرائيلي آخذة بالاتساع والتعمق، بالتزامن مع افتقار الطبقة السياسية الإسرائيلية إلى وجود قيادات وازنة تقدم مصلحة المشروع الصهيوني، على مصالحها الشخصية، من طراز الآباء المؤسسين للدولة.
يتمفصل الشرخ الإثني (بين يهود شرقيين وغربيين) مع الشرخ الطبقي بين الفقراء والأغنياء، والهوياتي بين علمانيين ومتدينين. وبالتالي، يصعب الجزم بالمسبب الحقيقي للأزمة التي تعيشها إسرائيل منذ سنوات. فلو فرضنا أن الصراع يدور بين الشرقيين (السفراديم) والغربيين (الأشكناز)، لوجدنا أن معظم قيادات الحكومة الحالية والمؤثرين في صناعة القرار هم من أصول غربية، فباستثناء حزبي شاس بقيادة آرييه درعي، و”العظمة اليهودية” بقيادة بن غفير، نجد أن باقي الفاعلين في الحكومة من أصول غربية، وعلى رأسهم نتنياهو (الليكود) وسموتريتش (الصهيونية الدينية)، وكذلك قيادات حزب الحرديم الغربيين “يهودات هتوراة”. وحتى الصراع في داخل الحكومة ومؤسساتها لا يمكن تصنيفه تحت مظلة الصراع الإثني، فبن غفير ومفوض الشرطة شبتاي ينحدران من أصول شرقية، فيما ينحدر سموتريتش وغالانت من أصول غربية.
يجب الالتفات في شأن الصراع الإثني إلى أننا نعايش في الوقت الحالي الجيل الثالث من المستعمرين الصهاينة؛ بمعنى أن معظم الجيل الحالي من القيادات قد ولد في داخل الكيان أو ولد لأبوين ولدا فيه، وبالتالي أصبح هذا الجيل أقرب لتعريف نفسه بوصفه إسرائيليًا أكثر من كونه منتسبًا إلى المكان الذي ولد فيه وأتى منه ليستعمر في فلسطين، كما كان حاصلًا في الجيل الأول، علاوة على انخفاض حدة التمييز ضد الشرقيين واضطهادهم (وإن كان التمييز ما زال موجودًا) مقارنة بالخمسينيات وحتى السبعينيات، وذلك بفعل إدماجهم في المجتمع الإسرائيلي وتذويبهم.
وإذا نظرنا إلى الأزمة بما هي نتيجة للصراع بين الطبقة الفقيرة (الممثلة بالأحزاب الدينية في الحكومة) والطبقة الوسطى والعليا (الممثلة في المعارضة بحزب يوجد مستقبل)، فسنجد في الحكومة هيمنة لحزب الليكود الذي أنشئ أساسًا لتمثيل الفكر الرأسمالي والطبقة الوسطى. مع الأخذ بالحسبان تقلص الطبقة الفقيرة في الكيان الصهيوني بفعل الرخاء الاقتصادي، وكذلك عدم دقة التعميم السائد بأنّ الأحزاب الدينية ممثل حصري للطبقة الفقيرة.
أمّا إذا نظرنا إلى الصراع على الأساس الهوياتي بين العلمانيين والمتدينيين أو اليسار واليمين، فسنجد أن الأب الروحي لمشروع التعديلات القضائية والقائم عليها هو الليكودي ياريف ليفين، ذو التوجهات العلمانية والمنحدر من أصول غربية. وغني عن القول إن تصنيف الصراع على أنه خلاف بين “اليسار” واليمين، هو تشخيص يجانب الصواب، فمعظم قادة المعارضة الحاليين يتباهون بمواقفهم السياسية اليمينية (وخصوصًا في الموقف من القضية الفلسطينية)، بل إن من بين اثنين من أبرز قياداتها (جدعون ساعر وليبرمان) كانا أصلًا يعملان في مكتب نتنياهو.
بناءً على ما سبق، يصعب الجزم بأنّ الأزمة التي تعيشها إسرائيل ناتجة من عامل أو مسبب واحد، ففي واقع الأمر تتمفصل الأسباب السالفة الذكر خلف الأزمة، وربما يكون الأنسب لو شُخِّصت بوصفها أزمة لكيان استعماري بني على تناقضات جوهرية، توحد بفعل الخوف من الآخر، ونجح في إخفاء خلافاته المزمنة من خلال توظيف عقيدة “الخطر الوجودي” الدائم على الكيان من أعدائه. لكن، تغيرت المعادلة عندما شعر أفراد هذا الكيان الاستعماري بالأمان والاستقرار “النسبي” عقب تحييد أعدائه في المحيطَيْن الإقليمي والعربي، بواسطة توقيع اتفاقيات تطبيع من دون ثمن، وتمتين وضعه الاقتصادي الذي يعدّ متقدمًا مقارنة بباقي دول العالم، فضلًا عن ترسيخ تحالفه الإستراتيجي مع القوة المهيمنة على العالم (الولايات المتحدة)، التي تغطي ظهره في المحافل الدولية والأزمات.
بدأ الصراع على كعكة السلطة وكيفية إدارة المشروع الصهيوني (عقب الشعور بالاستقرار) بين النخب التي تقود إسرائيل. فالصراع حول التعديلات القضائية لا يدور في جوهره حول الخشية على “هوية” الدولة أو ديمقراطيتها، فهنالك شبه إجماع بين الأحزاب الإسرائيلية على الهوية اليهودية، وتوافق عريض بين الأحزاب الرئيسة على ديمقراطيتها الإثنوقراطية العنصرية، التي تعامل الفلسطينيين بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية. كما أن الأحزاب الدينية لا تطرح في برنامج الحكومة الحالية تحكيم الشريعة التوراتية (وإن كانت تطرح بعض القوانين المتوافقة معها)، فهي لا تملك الأغلبية لتمرير ذلك، وما زالت بحاجة إلى التحالف مع أحزاب علمانية كالليكود للوصول إلى الحكم.
كما يصعب تشخيص الصراع على أنّه صراع بين ما يطلق عليه البعض “الدولة العميقة” واليمين، فبعد تقلد اليمين الحكم في العقديْن الأخيريْن، وسيطرته على مؤسسات الدولة من الإعلام والجيش وغيرها، صبغ اليمين مؤسسات الدولة بصبغته، وسيطر على مفاصلها، وإذا صح التعبير يمكننا القول إن اليمين يمثل حاليًا “الدولة العميقة”، فعهد هيمنة حزب “مباي/العمل” ومشتقاته من الأحزاب انتهى منذ فترة طويلة.
يمكننا الإدعاء بأنّ الصراع يدور في أحد أوجهه حول السيطرة على كعكة السلطة، والهيمنة على أدوات القوة في الدولة، على اعتبار أن السلطة القضائية حتى اللحظة غير مهيمن عليها من النخبة السياسية المتسيدة حاليًا، ويتم توظيف البعد الهوياتي والطبقي والإثني في هذا الصراع، لكن ذلك لا يعني عدم وجود أزمة حادة وخطيرة في الكيان الصهيوني، أو أن هذه الأزمة لن تؤثر في مستقبله، فما يحصل على الأرض من توظيف للتناقضات الإثنية والهوياتية والطبقية مثل اللعب بالنار في حقل متفجر، قد يخرج عن السيطرة ويحرق أحلام هذا الكيان بالاستمرار.
يمكن القول (على الرغم مما سبق ذكره) إنّ الصراع بين فريقي الحكومة والمعارضة لم يحسم بعد لصالح أي طرف، على الرغم من تعرض الائتلاف الحاكم لهزة شديدة عقب تجميد التعديلات القضائية، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الخيط الناظم له (حتى الآن) هو شخص نتنياهو الذي استطاع ترسيخ زعامته في الشارع الانتخابي، ونجح في تكديس الأصوات التي جعلت منه فرس الرهان في أي انتخابات، على الرغم مما تعرض له من ضعف أخيرًا نتيجة الاحتجاجات وتراجعه عن التعديلات القضائية.
في المقابل، نجد فريق المعارضة، الذي يفتقر معظم أحزابه إلى البرنامج أو الطرح البديل الذي قد يميزه جوهريًا عن نتنياهو، فمشكلة بعض أحزاب المعارضة، مثل حزب المعسكر الرسمي، ليست في الطرح الأيديولجي أو السياسي لحزب الليكود، ومعظم قادة المعارضة (لبيد، ساعر، غانتس، ليبرمان) يعلنون بأنّهم لا توجد لديهم مشكلة في الانخراط في حكومة ائتلافية مع حزب الليكود إذا تخلى عن زعامة نتنياهو، أو حتى الصهيونية الدينية (وقد حصل ذلك سابقًا بتحالف (لبيد/بينيت)، فخلافهم الأساسي مع شخص نتنياهو الذي يتهمونه بالفساد، وطريقه إدارته للحكم التي تحرمهم من نصيبهم من كعكة السلطة.
السيناريوهات في ظل استمرار الاحتجاجات
يمكن استبعاد تحقق سيناريوهين، وهما: سيناريو الحرب الأهلية الذي قد يؤدي إلى زوال إسرائيل، وسيناريو الانقلاب العسكري، على الأقل في المستوى المنظور. فبعد حوالي عقدين من سيطرة اليمين على الحياة السياسية ومؤسسات الدولة، بما فيها الجيش وقياداته، يستبعد حدوث انقلاب عسكري.
أمّا الادعاء بأنّ هذه الاحتجاجات والمظاهرات ستقود إلى سيناريو الحرب الأهلية الذي سيقود إلى زوال إسرائيل، فيفتقر إلى مؤشرات تحقق هذا السيناريو، فحتى اللحظة ما زالت هذه الاحتجاجات ضمن سيطرة قوى الأمن، وما زالت المظاهرات (في مجملها) غير عنيفة، وكمؤشر على ذلك لم نشهد سقوط قتيل واحد، على الرغم من خروج مئات الآلاف. والأهم من هذا كله العبرة المستخلصة مما حصل في دول الربيع العربي، وهي أنّ الدول والأنظمة لا تنهار بمجرد الثورة عليها أو التظاهر ضدها، بل تنهار إن لم تجد من يدافع عنها. ففي دول الربيع العربي خرجت شعوب ضد أنظمتها، وفي بعض البلاد تحولت الثورة إلى “حرب أهلية”، لكن هذه الأنظمة، صمدت؛ لأنها وجدت من يدافع عنها داخليًا وخارجيًا.
وبالتالي، وفي ضوء وجود مدافعين عن المشروع الصهيوني داخل الكيان وخارجه، إقليميًا ودوليًا، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، من المستبعد انهيار الكيان (في المستوى المنظور)، فالمشروع الصهيوني هو رأس الحربة للمنظومة الإمبريالية في المنطقة، وفي اللحظة الذي قد تتحول فيه الاحتجاجات إلى خطر يهدد وجود إسرائيل، ستتدخل هذه القوى، وتضع حدًا لها، وحتى أشد المتظاهرين عنادًا وشراسة لن يستمر في تظاهره إذا شعر بأن المشروع الصهيوني مهدد بالفناء، ولن يقبل أحد من الحكومة أو المعارضة أن يهدم المعبد على رؤوس الجميع.
وهنا يجب الأخذ بعين الاعتبار أن استبعاد سيناريو الحرب الأهلية لا يعني عدم استمرار الأزمة وتعمقها وتأثيرها في مستقبل الكيان الصهيوني، فالمرجح أن تستمر مفاعيل هذه الأزمة، وتأثيرها في مستقبل الكيان.
بناءً على ما سبق، فإن السيناريوهات المحتملة تدور حول سيناريوهين، وهما: استمرار الحكومة الحالية واستكمال مدتها، أو سيناريو سقوط الحكومة الحالية، الذي يتفرع بدوره إلى سيناريوهين، وهما: استبدال الحكومة الحالية بحكومة أخرى (حكومة وحدة وطنية) منبثقة من الكنيست الحالي، أو استمرار الحكومة لفترة سنة أو سنتين ثم تسقط.
السيناريو الأول: استمرار الحكومة الحالية
سيتعزز هذا السيناريو إذا استطاع الائتلاف الحاكم اجتياز الأزمة الحالية، والالتفاف على الاحتجاجات، وهذا ما نلمس مؤشراته بتجميد نتنياهو للتعديلات، ودعوته إلى الحوار.
ويعزز هذا السيناريو المكاسب التي حققتها أطراف الائتلاف الحكومي، فالليكود رجع إلى الحكم بعد جلوسه في مقاعد المعارضة لمدة سنة، والصهيونية الدينية بأحزابها الحريدية والتيار الديني القومي، حصلت في هذه الحكومة على مكاسب سياسية واقتصادية لن تجازف بالتخلي عنها. فالائتلاف الحاكم بما يملكه من أغلبية في الكنيست (64 مقعدًا من 120) يعدّ ذلك فرصة ذهبية للاستمرار في الحكم، في ضوء عدم الاستقرار السياسي الذي مرت به إسرائيل في السنوات السابقة، واللجوء إلى خمس انتخابات خلال مدة قصيرة نسبيًا.
توجد مؤشرات عدة تضعف من تحقق هذا السيناريو، من بينها إعلان نتنياهو نيته تمرير التعديلات وإعادة طرح الموضوع بعد التوصل إلى توافق مع المعارضة، ففي حال لم يتم التوصل إلى توافق أو كانت مسألة الحوار برمتها مجرد مناورة من نتنياهو لتنفيس الاحتجاجات، فمن المتوقع أن تعود الاحتجاجات، كما يرجح ألا تنجح الحكومة في تمرير هذه التعديلات (بشكلها الحالي) من دون ردة فعل من الجهاز القضائي، الذي يتوقع رفضه لها وإعادتها إلى الكنيست؛ مما سيدخل إسرائيل في مأزق دستوري، ويزيد من تعميق الأزمة الحالية، فحتى أطراف الحكومة غير متفقين على التمرد على قرار العليا في حالة رفضها للتعديلات، فعلى سبيل المثال صرح نير بركات، وزير الاقتصاد الليكودي، أنّه لا يؤيد “الذهاب بشكل أعمى نحو أزمة دستورية”، وأنه “في حال رفضت المحكمة العليا الإصلاح القضائي، فسأحترم قرار المحكمة”.
وكمؤشر إضافي على إضعاف تحقق سيناريو الاستمرار، يمكننا الاستشهاد بحالة الاستياء في أوساط الليكود من تحكم الأحزاب الأخرى في الائتلاف بالوزارات، إضافة إلى إقالة نتنياهو للوزير غالانت؛ ما قد يمهد لتطور الاستياء إلى تمرد على قيادة نتنياهو، ولربما يتصدره غالانت في أي انتخابات داخلية مقبلة لليكود، علاوة على ذلك، يمكن الإشارة إلى حالة التناقض بين بعض الوزراء كما أسلفنا، التي قد تقود إلى عدم القدرة على تسيير الحكومة ضمن التركيبة الحالية.
ربما كان المؤشر الأهم الذي يضعف هذا السيناريو ما يجري على الأرض من تفاعلات، ففي الوقت الذي تطمح فيها أحزاب الصهيونية الدينية إلى إنفاذ برامجها القائمة على تعزيز الاستيطان، واستخدام العنف في قمع الفلسطينيين، من دون الالتفات إلى ردة فعل المجتمع الدولي أو المحيط الإقليمي أو ردة فعل الشعب الفلسطيني، جاء الضغط الخارجي ليمنع الحكومة من التمادي في انتهاجها للقمع. فالضغط الذي مارسته الولايات المتحدة على نتنياهو من أجل تهدئة الأجواء، دفعه إلى تأجيل إخلاء الخان الأحمر، وإلى محاولة كبح جماح المستوطنين الذين عربدوا في حوارة عقب العملية الفدائية. وهذا قد يقود إلى تململ في قائمة الصهيونية الدينية التي ستظهر بمظهر الفشل أمام جمهور ناخبيها، وخاضعة للضغوطات الخارجية على حساب مصلحة المستوطنين؛ ما قد يدفعها في حال استمر نتنياهو بالتماهي مع رغبة القوى الخارجية إلى مغادرة مقاعد الحكومة، بهدف المحافظة على رصيدها الانتخابي.
السيناريو الثاني: سقوط الحكومة الحالية
يتفرع هذا السيناريو إلى سيناريوهين رئيسيين، وهما:
(1) سيناريو حكومة الوحدة الوطنية
يبقى هذا السيناريو واردًا، وخصوصًا إذا تصاعدت الاختلافات داخل الائتلاف الحاكم، أو مارست الولايات المتحدة ضغوطًا جدية على نتنياهو لعدم التساوق مع مخطط الصهيونية الدينية لحسم الصراع، عبر تكثيف وزيادة وتيرة (الاستيطان، والتهجير، واستخدام العنف)، أو لوقف التعديلات القضائية وتخفيف حدتها (مما سيفرغها من مضمونها)، وقد ظهرت مؤشرات لذلك عبر اتصال الرئيس الأميركي جو بايدن بنتنياهو، لحثه على عدم الذهاب إلى إصلاحات قضائية من دون وجود تأييد جماهيري واسع لها، طالبًا منه التوصل إلى تسوية وحل وسط مع أحزاب المعارضة[8].
قد يقود تحقق ذلك إلى انسحاب قائمة الصهيونية الدينية من الحكومة، بعد أن هدد بن غفير بذلك[9]، واضطرار نتنياهو خشية من الذهاب إلى انتخابات جديدة) إلى تقديم تنازلات لبعض أحزاب المعارضة، وإبرامه اتفاقًا مع أحزاب كحزب “المعسكر الرسمي” بقيادة بيني غانتس، من أجل إقامة حكومة وحدة وطنية.
وقد يتعزز هذا السيناريو في حال تطورت الأمور على أرض الواقع إلى مواجهة عسكرية في المنطقة، وخصوصًا مع إيران؛ ما سيدفع الإسرائيليين إلى تجاوز الخلاف الحالي، والذهاب إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية.
(2) سيناريو سقوط الحكومة خلال سنة أو سنتين
يمكن أن يتحقق هذا السيناريو في حال تصاعدت التناقضات الداخلية بالحكومة، وربما يكون من أهم المحطات التي قد تساهم في تعزيز هذا السيناريو، هي مرحلة إقرار الموازنة في النصف الثاني من عمر الحكومة؛ إذ إن الحكومة الحالية نجحت في الكنيست بتمرير موازنة لمدة سنتين، وحتى تستكمل الحكومة مدتها القانونية (4 سنوات)، تحتاج إلى إقرار موازنة جديدة للسنتين المتبقيتين.
ففي حال تعمقت الأزمة الاقتصادية في داخل الكيان بسبب الركود العالمي، وإذا تحققت تقديرات شعبة الموازنات بوزارة المالية الإسرائيلية، بأنّه في حال قادت التعديلات القضائية إلى خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل فإن ذلك سيتسبب في فقدان المرافق الاقتصادية مبلغ 100 مليار شيكل، وسيتراجع مدخول الضرائب بنحو 30 مليار[10]؛ فحينها سيضطر نتنياهو إلى تقليص الموازنات التي وعد بها شركاؤه في الائتلاف، والتي تقدر بالمليارات، (وزارة بن غفير وحدها اتفق على منحها 40 مليار شيكل)؛ ما سيدفعهم إلى إسقاط الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة.
خاتمة
من الصعب الجزم بأي سيناريو في ظل المتغيرات السريعة في المنطقة، والتحولات الجارية على النظام الدولي، الذي نلمسه بدخول الصين إلى المنطقة ومنافسة الولايات المتحدة، عبر عقد اتفاق الهدنة بين السعودية وإيران.
لكن، وفي ظل التقلبات المتكررة، اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، وترجيح احتمالية التصعيد في الوضع الأمني على الساحة الفلسطينية بفعل القمع الإسرائيلي، واستمرار التناقضات الداخلية داخل الائتلاف الحكومي، يرجح سيناريو سقوط الحكومة الحالية، وعدم إكمالها لمدتها القانونية. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل سنرى انتخابات جديدة خلال سنة أو سنتين، أم سنشهد تشكيل حكومة وحدة وطنية في حال تحقق هذا السيناريو؟