ما نتعلّمه نحن العرب من الاحتجاجات الإسرائيلية ، بقلم : أسامة أبو ارشيد
لنضع جانباً خلفيات الصراع الإسرائيلي ــ الإسرائيلي على مشروع التعديلات القضائية الذي حاولت حكومة بنيامين نتنياهو فرضه عبر الكنيست، قبل أن تضطرّ إلى تأجيل التصويت عليه تحت وطأة ضغوط شعبية هائلة، وأخرى من داخل مؤسّسات الدولة، بما فيها الجيش والأجهزة الأمنية، متوازية مع ضغط أميركي غير مسبوق، ولننظر إلى جانب آخر من الصورة لا يبدو أنه حظي باهتمام كبير. أغلبنا، نحن معشر الكتاب والموصومين محلّلين سياسيين، انشغل بالحديث عن تداعيات انهيار الإجماع الوطني الإسرائيلي، والشقوق والتصدّعات البادية للعيان في بنية الدولة وسيناريوهات تفكّكها المحتملة، بل أسهب بعضهم في استشراف حرب أهلية إسرائيلية، تأسيساً على تحذيرات مسؤولين إسرائيليين كبار، وهي أمور شديدة الأهمية، وتملك رصيداً عالياً من المشروعية.
لكننا، في خضم ذلك، قد نكون غفلنا عن جانب يسجّل في رصيد المشروع الصهيوني، نفتقده، للأسف، نحن العرب، ويتمثل ذلك في وجود ثقافة سياسية حية، وبنية قانونية صلبة، تسمح بوجود معارضة إسرائيلية حقيقية ومجتمع مدني نابض، لهما حقوق مضمونة وحماية من بطش السلطة وتغولها، في وقت تجعل من احتمالات الانقلاب العسكري ضئيلة.
هنا قد يُطرح اعتراضٌ مصيبٌ أن ذلك لا ينسحب إلا على المجتمع اليهوديِّ الصهيونيِّ، بمعنى أنه يستثني الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية، كما أثبتت التجربة، أيضاً، من قبل، أنه لا يشمل اليهود ذوي البشرة السوداء، دع عنك طبعاً الفلسطينيين من غير حملة جنسية الدولة العبرية الخاضعين لاحتلالها الوحشيِّ الهمجيِّ. ولذلك، لا خلاف قانونياً وحقوقياً على تكييف إسرائيل على أنها دولة أبارتهايد، كما أنها دولة عنصرية مؤّسسياً. لكن ما نحن بصدده هنا مختلف، إذ مع الإقرار بكل ما سبق، لا ينفي ذلك أن الكتلة الأساسية للمجتمع الصهيوني، بتلويناته الإيديولوجية المختلفة، تتمتع بتجربة سياسية داخلية نتمنّى نحن العرب نظيرها. يكفي أن تحاول تخيّل كيف كان أي نظام عربي سيتعامل مع مثل هذه الاحتجاجات الشعبية، أو على الأقل الصادرة عن جزء أساسي من المجتمع، رافض لتعديلات دستورية أو قانونية أو ثقافية تمسُّ بقواعد العقد الاجتماعي التي تحكم دولهم. في الحقيقية. لسنا مضطرين هنا للحديث عن خيالات أو سيناريوهات نظرية، فالتاريخ البعيد والقريب والراهن ينبينا بالجواب البائس.
لن أخوض كثيراً في تجارب ما اصطلح عليه ثورات “الربيع العربي”، إذ رأينا كيف حاولت الأنظمة العربية سحقها بوحشية. نجحت بعض تلك الثورات مؤقتاً، بعد تضحياتٍ جسام، قبل أن تستعيد “الدولة العميقة” توازنها، بدعم خارجي ومن نظام عربيٍّ رسميٍّ جَمَعِيٍّ سلطويٍّ، فأحكمت قبضتها على زمام الأمور من جديد، كما في مصر وتونس والسودان. وفشلت ثوراتٌ أخرى وسفكت دماء مئات آلاف من الأبرياء، كما في سورية واليمن وليبيا. ذلك تاريخ حالي. لكننا، شهدنا في التاريخين، القريب والراهن، دساتير يعبث بها وبرلمانات ومجالس بلدية تحلّ وتنظيمات قضائية تلغى وتعدّل من دون أن تأبه الأنظمة لرفض الشارع أو قواه الحية. ألم يجر هذا في مصر والأردن وغيرهما، وهو واقع هزليٌّ معاش لا يزال مستمراً في تونس؟
كعربي، لا يسعني إلا أن أعقد المقارنات بين فضاء الحرية الذي تملكه البنية الصلبة لمواطني الدولة العبرية وضيق الكبت الذي نحياه نحن الشعوب العربية، أبناء الأرض الأصليين. لا أجدني قادراً على تجاهل حقيقة أن مطالبنا المشروعة، نحن الشعوب، إما أن تنتهي مسحوقة تحت مدرّعات “جيوشنا الوطنية”، أو بانقلاب عسكري على نظام آيل للسقوط قبل أن يتفرّغ لنا، لسحقنا أيضاً. مرة أخرى، قد يثار اعتراضٌ جديدٌ مصيبٌ مفاده بأن الغرب دخل مسانداً لما يزعمه “قيماً ديمقراطية” في إسرائيل، في حين أنه ضنَّ بها على العرب. لا شك في ذلك. لكن، لا يسعنا هنا إنكار أن هذا الكيان الإحلاليَّ الإلغائيَّ الإجراميَّ العنصريَّ طور تجربة ديمقراطية انتقائية لم ننجح نحن العرب في الاقتراب من كلها ولا نَصفِها. إنه اعتراف قاسٍ وبائس، غير أنه في ظني سليم.
عايشتُ، أنا المواطن الأميركي، محاولات الرئيس السابق، دونالد ترامب، الانقلاب على الدستور ومساعيه الحثيثة للعبث بالمنظومة القيمية الأميركية، التي يجادل كثيرون أن بعضها نظريٌ لا عملي. كنت ممن نزلوا إلى الشارع في أميركا احتجاجاً على ما رأيته تخريباً ترامبياً. قبل ذلك كنت نزلت مرّات عدة إلى الشارع العربيِّ خلال موجة “الربيع العربي”. أبعد من ذلك، كتبت، من قبل، غير مرّة عن سيناريوهات سوداوية قد تكون أميركا تقف على أعتابها جرّاء التمزّق المستمر في نسيجيها الاجتماعي والسياسي. لكن هذا لم يمنعني يوماً من أن أقرّ أن التجربة الأميركية لا زالت قادرة على توفير فضاء وزخم للتدافع السياسي والمجتمعي واستطاعة على ضبط التداعيات. من أسف، أجد نفسي مضطرّاً اليوم أن أقرّ لإسرائيل بالأمر نفسه، من دون أن يعني ذلك أن الشقوق والتصدّعات الحاصلة في الجدارين الأميركي والإسرائيلي قد لا تقود في المستقبل المنظور إلى انهياراتٍ جزئيةٍ أو كلية فيهما. لكنهما لم يصلا بعد إلى تلك النقطة، وهما يملكان من آليات الإصلاح الذاتي ما يمكّنهما من تدارك الأعطاب والخرق قبل أن يتسع على الراقع. يبقى الأمر رهينة الرغبة والقدرة على فعل ذلك.
أتمنّى، أنا الإنسان العربيٍّ، أن نصل إلى مرحلة بناء كتلة تاريخية واسعة وعميقة، متجاوزة للحساسيات الدينية والعرقية والإيديولوجية والسياسية، لفرض عقد اجتماعي تفكّر أنظمة جورنا ألف مرّة قبل أن تتجرأ على المسِّ به أو العبث بقواعده. ليس الإسرائيليون أحسن منَّا، بل نحن الأفضل، ويكفي أنَّا لسنا طارئين على أرضنا ولا سارقين بلاد غيرنا. كما أننا لن نكون مكشوفين أمام حيل الأجنبي وبيادقه المحلية إن نجحنا في تحصين كتلتنا التاريخية ضد الاختراق والتلاعب بها. ورحم الله الشاعر التونسي، أبو القاسم الشابي، القائل: إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياة/ فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ. … لكن، هل فعلاً أراد الشعب العربي ونجح في حماية إرادته وتحصينها؟