عن الاعتراف بدولة إسرائيل ، بقلم : نهاد أبو غوش
في دورته الثالثة والعشرين المنعقدة اواخر نيسان ومطلع أيار 1918، كلّف المجلس الوطني الفلسطيني اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ” بتعليق الاعتراف بإسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران 67 وإلغاء قرار ضم القدس الشرقية ووقف الاستيطان”.
جاء هذا القرار في معرض إعادة تقييم علاقة الشعب الفلسطيني مع دولة الاحتلال، فأكد المجلس أنها علاقة تقوم على الصراع، وجاء القرار بعد الأخذ بعين الاعتبار أن دولة الاحتلال تنصلت من جميع الاتفاقات المبرمة، وأنهتها بالممارسة والأمر الواقع.
جدير بالتنويه أن جلسات المجلس المركزي التي سبقت دورة “الوطني” وكذلك الجلسات التي تلت الدورة، أكدت هي الأخرى على قضية “تعليق الاعتراف”، وغنيّ عن القول أن شيئا من ذلك لم يتحقق، ولم ينفذ، مثله مثل القرارات التي تكررت مرارا من عدة هيئات قيادية ومن بينها اجتماع هيئة الأمناء العامين. ما يؤكد أن هذه الهيئات ليست هيئات قيادية في الحقيقة، وأن قراراتها هي توصيات وليست ملزمة، بحيث يمكن الأخذ بها أو تأجيلها أو عدم الالتفات إليها بتاتا، وفي أحسن الأحوال يجري التلويح بها للتأثير على العدو وداعميه، مع أن كثرة التلويح بها من دون تطبيق يفقدها القيمة التي تنطوي عليها.
يعود اعتراف القيادة الفلسطينية بإسرائيل إلى “رسائل الاعتراف المتبادلة” بين الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين في أيلول/ سبتمبر 1993، قبل أيام من توقيع اتفاق أوسلو، واللافت أن الاعتراف الفلسطيني تضمن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية “بحق دولة إسرائيل في الوجود في سلام وأمن”، بالإضافة إلى نبذ “الإرهاب” وغيره من أعمال العنف، بينما اقتصر الاعتراف الإسرائيلي على أن منظمة التنحرير هي ممثل الشعب الفلسطيني، وأن إسرائيل ستبدأ معها المفاوضات في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط.
شتان بين الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل الدولة، وبحقها في الوجود بسلام وأمن، وبالتخلي عن أدوات النضال الرئيسية التي كانت قائمة قبل ذلك، وبين اعتراف بالمنظمة لم ينطو على الإقرار بأي حق وطني من حقوق الشعب الفلسطيني، وهنا ينبغي طرح السؤال المهم: هل إسرائيل التي اعترفت بها منظمة التحرير عام 1993 هي نفسها التي يرفض بعض وزرائها الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، فيما تستبيح حكوماتها المتعاقبة كل ما هو فلسطيني من أرض ومقدسات وحقوق وصولا لحياة كل فرد، وإلى المطالبة بترحيل شعبنا خارج دياره إذا ظل متمسكا بممارسة حقوقه الجماعية؟
ربما يرى البعض أن إسرائيل هي نفسها لم تتغير، وإنما تلونت وتبدلت قشرتها الخارجية، بينما هي في الواقع كيان غاصب قام على المذابح والإرهاب وعلى شطب وجود الشعب الفلسطيني، بينما يرى آخرون أن إسرائيل تغيرت منذ اغتيال رابين ثم استقرار حكم اليمين، إلى صعود اليمين الفاشي المتطرف. وهذه التحولات كانت مرصودة منذ سنوات، وتجسدت بتنصل كل الأحزاب الإسرائيلية من “حل الدولتين”، وتبنيها برامج وممارسات تهدف إلى تأبيد الاحتلال وجعله سقفا لطموحات الشعب الفلسطيني، وهذا ما بدا واضحا في توجهات الهيئات القيادية الفلسطينية التي أقرت صراحة في المجلسين الوطني والمركزي بإعادة تعريف العلاقة مع الاحتلال ودولة إسرائيل بوصفها علاقة تقوم على الصراع بين شعبنا وقوة الاحتلال، ودعا المجلسان بناء عليه إلى إعادة النظر في كافة الالتزامات المتعارضة مع ذلك.
ما يهمنا في هذا المقام هو ما آلت إليه الأوضاع وخيارات الحكم في إسرائيل التي تتغير من إدارة الصراع أو تقليصه، وصولا إلى محاولات حسمه بالقوة المسلحة بمعزل عن أي مفاوضات. فخلال ثلاثين عاما من عمر اتفاق أوسلو، تنكرت حكومات إسرائيل المتعاقبة لكل الالتزامات التي أعلنتها ظاهريا، وصولا إلى رفضها بحث أي موضوع سياسي مع السلطة، واقتصار اللقاءات القليلة التي جرت على المحورين الأمني والاقتصادي، وذلك ما يشير إلى الوظيفة التي تريدها إسرائيل من السلطة.
لم تكتف إسرائيل بذلك بل عمدت إلى مواصلة إضعاف السلطة وإنهاكها من خلال قرصنة أموال المقاصة، وتوسيع الاستيطان بوتائر غير مسبوقة في كل المناطق، ومواصلة الاجتياحات والاقتحامات، ومنع السلطة من القيام باي نشاط حتى لو كان إنسانيا أو اجتماعيا في القدس والمناطق المصنفة (ج)، إلى دعم الانقسام واعتباره مصلحة استراتيجية إسرائيلية.
لم يعد موضوع السلام وإنهاء الاحتلال يحظى بأية أهمية لدى الأحزاب الإسرائيلية ولا لدى المجتمع الإسرائيلي، بل إن الحزب الوحيد الذي كان يتبنى هذا الطرح، أي “ميريتس” فشل في دخول الكنيست وبات خارج معادلة السياسة الإسرائيلية. لم تعد إسرائيل تنظر إلى القضية الفلسطينية إلا بوصفها مشكلة إرهابية أو ديمغرافية، وأنها لا تعدو كونها شأنا أمنيا داخليا لا يحق للعالم التدخل فيها.
هذه التحولات ليست مجرد مواقف عابرة للحكومات، بل شقت طريقها لقوانين الأساس التي تقوم مقام الدستور، فقانون أساس القومية يعتبر أن حق تقرير المصير في فلسطين التي يسميها “أرض إسرائيل” هو حق حصري بالشعب اليهودي، وذلك ما تضمنه بيان نتنياهو في جلسة منح الثقة لحكومته الحالية، وأن الاستيطان هو قيمة قومية على الدولة دعمها وتشجيعها.
إذن ثمة في سلوك الحكومة الإسرائيلية وسائر مؤسسات دولة الاحتلال، ما يزيد ويعزز الأسباب التي دعت الهيئات الفلسطينية لاتخاذ قرار إعادة تعريف العلاقة مع الاحتلال، وتعليق الاعتراف بإسرائيل، يكفي وجود اشخاص مثل سموتريتش وبن جفير في هذه الحكومة ( الأول ينكر وجود الشعب الفلسطيني أصلا ويكشف عن أطماع الاتجاه الذي يمثله في الأردن وأراضي سوريا ولبنان والسعودية والثاني لا يعرف سوى لغة القتل والتدمير والتنكيل) لتعليق الاعتراف، لكن ذلك يتطلب بالطبع إعادة ترتيب الوضع الفلسطيني بشكل شامل بما يمكن من الإقدام على تنفيذ مثل هذا القرار وتحمل نتائجه.