ليس هنالك شعب فلسطيني! بقلم : جوزيف مسعد
أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش (وهو سليل مستوطنين يتحدرون من بلدة سموتريتش الأوكرانية) الأسبوع الماضي في باريس أنه “لا يوجد شيء اسمه الفلسطينيون لأنه لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني”. وقد قوبلت تصريحاته بتصفيق صاخب من الجمهور. وقد وصف سموتريتش الفلسطينيين بأنهم “شعب مخترع”، وأكد أنه في الواقع هو وعائلته هم الفلسطينيون الحقيقيون.
ولطالما كان هذا الادعاءُ متداولاً من قبل المسؤولين الإسرائيليين وأنصارهم اليهود الأمريكيين. ولم يكن سموتريتش وحده من بين قادة إسرائيل الحاليين في زعمه هذا في الآونة الأخيرة، فقد قام بذلك من قبله رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو (سليل مستوطنين بولنديين غيروا اسم عائلتهم من “ميليكوفسكي” إلى “نتنياهو”) في عام 2019، عندما أعلن أنه “لا توجد صلة بين الفلسطينيين القدماء والفلسطينيين المعاصرين، الذين جاء أسلافهم من شبه الجزيرة العربية إلى أرض إسرائيل بعد مرور آلاف السنين”. وقد أكد نتنياهو مؤخراً أنه عندما بدأ اليهود الأوروبيون مشروعهم الاستيطاني في فلسطين، كانت البلاد “فارغة من السكان عملياً”.
وكي لا يعتقد القارئ أن هذه المزاعم من تخصص اليمين الإسرائيلي، وجب التذكير بأن المستوطنة اليسارية الأوكرانية غولدا مئير (واسم عائلتها الأصلي “مابوفيتش”)، رئيسة وزراء إسرائيل عن حزب العمل الاشتراكي، كانت قد أدلت لصحيفة لندن صنداي تايمز في حزيران/ يونيو 1969 بالتالي: “لم يكن هناك أي شيء يمكن تسميته بالفلسطينيين”. وأوضحت أنه “لم يكن هناك شعب فلسطيني في فلسطين يعتبر نفسه شعباً فلسطينياً، فجئنا نحن وطردناهم وأخذنا بلادهم منهم. فهم لم يكونوا موجودين أصلاً”.
من أين تعلّم هؤلاء المستعمرون الأوكرانيون والبولنديون اليهود هذه المزاعم الدعائية؟ الإجابة المختصرة هي: من الصهاينة البروتستانت البريطانيين.
في عام 1843، كتب ألكسندر كيث، رجل الدين التبشيري التابع لكنيسة أسكتلندا البروتستانتية، الذي كان يؤمن بـ”إعادة” يهود أوروبا إلى فلسطين، في أحد كتبه التبشيرية الشهيرة، أن اليهود “شعب بلا وطن؛ حتى لو كانت أرضهم، كما سيتضح لاحقاً، هي إلى حد كبير بلد بلا شعب”. وقد زار كيث فلسطين في عام 1839 وعام 1844. وقد التقط العديد من الصهاينة البروتستانت الإنجليز والأمريكيين هذه العبارة من بعده واستخدموها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتقطتها من بعدهم الحركة الصهيونية اليهودية في أوائل القرن العشرين كشعار لها.
في عام 1901، كان يسرائيل زانغويل، الإنجليزي الجنسية، أول يهودي صهيوني يروج للشعار الصهيوني البروتستانتي بأن فلسطين هي “بلد بلا شعب.. لشعب بلا بلد”. لكنه فيما بعد، وبعد إقراره بأن هناك بالفعل شعبا يعيش في فلسطين، أيد زانغويل “ترحيل” العرب الفلسطينيين إلى خارج بلادهم لإفساح المجال للاستيطان اليهودي.
لقد كرر رئيس المنظمة الصهيونية حاييم وايزمان صياغة زانغويل البروتستانتية الصهيونية في عام 1914 عندما صرّح بأن “هنالك بلدا يسمى فلسطين، بلدا بلا شعب، وعلى الطرف الآخر، هنالك الشعب اليهودي، وليس له بلد”. وقد حذا وزير الخارجية البريطاني، البروتستانتي الصهيوني التبشيري والمعادي للسامية آرثر بلفور، حذوه في إعلانه سيئ السمعة المعروف بـ”وعد بلفور” في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1917، عندما أشار على نحو هامشي إلى مئات الآلاف من الفلسطينيين الأصليين على أنهم “مجتمعات غير يهودية موجودة”، لها “حقوقها المدنية والدينية” التي لا يجوز التعدي عليها، ولكن ليس لها حقوق وطنية على الإطلاق.
في ذلك الوقت كان المستعمرون اليهود يشكلون حوالي 9 في المئة من سكان فلسطين، وكان عددهم حوالي 50.000 مستعمر يعيشون بين السكان الفلسطينيين الأصليين من المسلمين والمسيحيين الذين كان عددهم يزيد عن نصف مليون، لكن لم يشكل وجودهم أية أهمية لدى بلفور. فقد أصر بلفور لاحقاً على أن الفلسطينيين لم يكونوا أكثر من سكان في البلد الذي وعد اليهود الأوروبيين به: “سواء كانت على صواب أم على خطأ، جيدة أو سيئة، فإن الصهيونية متجذرة في تقاليد قديمة، وفي احتياجات حالية، وفي آمال مستقبلية كلها ذات أهمية أعمق بكثير من رغبات وتحيزات الـ700 ألف عربي الذين يسكنون الآن تلك الأرض القديمة”.
وقد نفى حاييم وايزمان أن الفلسطينيين كانوا أمة، وتنطع في عام 1929 مصرحاً بأنه لا يمكن للفلسطينيين عدّ أنفسهم على أنهم “يمتلكون البلاد بالمعنى الذي يمتلك به سكان العراق أو مصر بلادهم”. وشدد على أن منح الفلسطينيين حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي أو “مجلسا تشريعيا… سيكون بمثابة منح البلد لسكانها الحاليين”، وإلغاء التزام وعد بلفور “بطريقة مخادعة” بمنح وطن قومي يهودي في فلسطين.
وقد استمر إنكار هوية الفلسطينيين الوطنية حتى أواخر السبعينيات، لكن تم إبطال إنكار غولدا مئير في عام 1969 لوجود الشعب الفلسطيني من خلال اعتراف مناحيم بيغن بوجود الفلسطينيين بعد عقد من الزمن. فالمرة الأولى التي قبلت فيها إسرائيل رسمياً وجود شعب فلسطيني، أو بشكل أكثر تحديداً “شعوب فلسطينية”، والذين لم يتم إدراجهم كما جرت العادة في فئة “الشعب العربي”، كانت في اتفاقيات كامب ديفيد لعام 1978. فقد دعت الاتفاقيات إلى “حكم ذاتي” في الضفة الغربية وقطاع غزة على أنه بمثابة تحقيق لما أشارت إليه بأنه “الحق المشروع للشعوب الفلسطينية ومتطلباتها العادلة. وهكذا سيقوم الفلسطينيون بالمشاركة في تقرير مستقبلهم”، على الرغم من أن باقي نصوص الاتفاقية أشارت فقط إلى “سكان الضفة الغربية وغزة” وليس إلى “الشعوب الفلسطينية”.
لكن المسؤولين الإسرائيليين استمروا في المراوغة بشأن هذه القضية. وفي عام 1984، نشرت صحفية يهودية أمريكية مغمورة كتاباً دعائياً بعنوان “منذ الأزل” استندت فيه إلى أدلة زائفة، وزعمت فيه أن الفلسطينيين لم يكونوا موجودين أصلاً وأنهم قد هاجروا إلى فلسطين من بلاد مجاورة بعد أن بدأ يهود أوروبا في استعمارها، حيث اجتذبهم، كما زعمت، رأس المال الاستعماري اليهودي والوظائف التي أتاحها. على الرغم من أن أكاديميين يهودا أمريكيين بارزين مؤيدين للصهيونية قد أشادوا بالكتاب، إلا أنه سرعان ما انكشف أمر الكتاب (وصاحبته) على أنه استند إلى أدلة ملفقة ولم يكن أكثر من دعاية سياسية.
أخيراً، وفي اتفاقيات أوسلو لعام 1993، ورداً على اعتراف رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بـ”حق دولة إسرائيل في الوجود بسلام وأمن”، اعترف الإسرائيليون بوجود الشعب الفلسطيني. وقد جاء اعترافهم عن غير قصد، عندما قرروا “الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني والبدء في مفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية، في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط” تحديداً لكن ليس خارجها، حيث لن يمتد هذا الاعتراف المشروط خارج إطار تلك المفاوضات. وقد كان هذا في الواقع تراجعاً عن الاعتراف الإسرائيلي بأن للفلسطينيين “حقاً مشروعاً” والذي اعترفت به إسرائيل في اتفاقيات كامب ديفيد.
لكن الاعتراف بوجود الفلسطينيين أو حتى بوجود منظمة التحرير الفلسطينية بعد عام 1993 لم يلزم إسرائيل بالاعتراف بأي حقوق قد تطالب بها المنظمة، ولهذا السبب، وبمجرد أن أنهى نتنياهو ما يسمى بـ”عملية السلام” في عام 2014، لم يعد بحاجة حتى إلى التحدث مع السلطة الفلسطينية التي ولدت من رحم اتفاقيات أوسلو كبديل عن منظمة التحرير الفلسطينية.
أما فيما يتعلق بالصهيونية الرسمية وإسرائيل في السنوات الـ125 الماضية، فقد يكون هنالك شعب يُعَرِّف نفسه بشكل غريب وخاطئ على أنه “شعب فلسطيني” بطريقة واهمة، لكن ليس لديه أي حقوق في فلسطين أو إسرائيل، وأنه بالفعل، وخارج هذه الأوهام التي يعتنقها، غير موجود.
لكن الاعتقاد المستتر الذي يفشيه هذا الإنكار الرسمي الصهيوني والإسرائيلي العنيد في النهاية هو أن اليهود الصهاينة المستعمرين كانوا سيُعتبرون مجرمين متوحشين لو كانوا بالفعل قد استعمروا وطن الفلسطينيين، ولكن بما أن الفلسطينيين لم يكونوا موجودين أصلاً، فليس ثمة ضرورة لأن يشعر اليهود المستعمرون بأي ذنب على الإطلاق مما اقترفته أيديهم.
ورغم ذلك، فإن قلة من القادة الصهاينة كانوا قد اعترفوا بأن للفلسطينيين حقوق في وطنهم، وإن كان الصهاينة سيحرصون على حرمانهم منها، وأن قيامهم بذلك لن يؤدي إلى شعورهم بالذنب. على سبيل المثال، فقد اعترف فلاديمير جابوتنسكي، الزعيم اليهودي الأوكراني للصهاينة التصحيحيين (الحركة التي انبثق عنها حزب الليكود فيما بعد)، في وقت مبكر بأن الفلسطينيين هم الشعب الأصلي في فلسطين، وشبههم بقبيلة “السو” الهندية في الولايات المتحدة. وكان قد نفد صبر جابوتنسكي من نفاق الصهاينة العُماليين فرد عليهم:
“أن نتصور، كما يفعل المتخصصون في الشأن العربي من بيننا، بأن [الفلسطينيين] سيوافقون طواعية على تحقيق المطامع الصهيونية، مقابل الراحة المعنوية والمادية التي يجلبها معه المستعمر اليهودي، هو مفهوم صبياني، مبني في أساسه على ازدراء الشعب العربي. أي أنهم يحتقرون العرق العربي، الذي يعتبرونه رعاعاً فاسداً يمكن شراؤه وبيعه، وأن عرب فلسطين على استعداد للتخلي عن وطنهم الأم من أجل نظام سكك حديدية جيد… لا يوجد مبرر لمثل هذا الاعتقاد. قد يكون بعض الأفراد العرب يقبلون الرشاوى، لكن هذا لا يعني أن الشعب العربي في فلسطين ككل سوف يقوم ببيع تلك الوطنية الحماسية التي يحرسونها بغيرة شديدة، والتي لن يبيعوها… كل السكان الأصليين في العالم يقاومون المستعمرين طالما أن لديهم أدنى أمل في أن يتمكنوا من التخلص من خطر الاستعمار”.
لم يكن جابوتينسكي وحده في فهمه الواضح لما يقوم به الصهاينة، بل شاركه فيه الزعيم اليهودي البولندي للمستعمرين، دافيد بن غوريون (واسم عائلته الأصلي “غرون”)، الذي أعلن أيضاً بضمير مرتاح:
“لماذا يجب على العرب صنع السلام؟ لو كنت زعيما عربيا، فلن أوافق أبدا على عمل ذلك مع إسرائيل. وهذا هو الوضع الطبيعي: فقد أخذنا بلادهم. نعم، وعدنا الله بها بالتأكيد، ولكن لماذا عليهم أن يكترثوا لذلك؟ فإلهنا ليس إلههم. نحن من إسرائيل، هذا صحيح، ولكن هذا كان منذ ألفي عام، فلماذا يكترثون لذلك؟ لقد كان هناك معاداة السامية، والنازيون، وهتلر، ومعتقل أوشفيتز، لكن هل كان ذلك ذنبهم؟ إنهم يرون شيئاً واحداً فقط: لقد جئنا إلى هنا وسرقنا بلادهم. فلماذا يقبلون ذلك؟”.
أما بالنسبة إلى الأساطير التوراتية والأوهام الكبرى التي ابتلي بها معظم الصهاينة اليهود الأوروبيين ومعلموهم الصهاينة البروتستانت بأن أصلهم من فلسطين (وليس من أوروبا)، وأن فلسطين ليست أصل الشعب الفلسطيني الأصلي، فإن هذه التخيلات تظل حجر الزاوية في “القيم” التي يقال إن إسرائيل تتشارك فيها مع أوروبا المسيحية ومع الولايات المتحدة المسيحية للغاية.
يقال للشعب الفلسطيني بأنه يجب وينبغي عليه أن يقبل هؤلاء المستعمرين اليهود وأحفادهم كمحتلين شرعيين ومستعمرين لوطن الفلسطينيين، وأنه إن قاومهم الفلسطينيون، فإن الولايات المتحدة، من خلال نائبها الإمبراطوري المحلي، منسق الأمن الأمريكي الفريق مايكل فينزل، سوف تتولى وترعى قمعهم من قبل قوة فلسطينية مرتزقة تابعة لأجهزة أمن السلطة الفلسطينية المتواطئة مع الاحتلال، وستقوم الولايات المتحدة بتمويلها، وسيدربها الأردنيون والمصريون، حلفاء الولايات المتحدة وإسرائيل.
ورداً على تصريح سموتريتش الأخير، فقد عقدت الولايات المتحدة اجتماعاً قبل بضعة أيام في مدينة شرم الشيخ المصرية، وهي مستوطنة إسرائيلية سابقة، وأصدرت توجيهاتها للمصريين والأردنيين والسلطة الفلسطينية حول أفضل السبل لمساعدة إسرائيل في تقويض المقاومة الفلسطينية بشكل نهائي.
فإذا لم يكن الشعب الفلسطيني موجودا أصلاً، كما يتوهم الأمريكيون والإسرائيليون، فلماذا يسمح بوجود مقاومة فلسطينية؟