الحياة وتضادّاتها المربكة ، بقلم : بسمة النسور
في سياق تأملاته في الحياة والوجود، يقول الطبيب والكاتب والشاعر الأميركي أوليفر وندل هولمز (1809 – 1894): “يقرص الموت أذني ويهمس لي باستمرار: عش فأنا في الطريق إليك”. ويضيف في عبارة أخرى: “ما يجعل الحياة تستحقّ أن نحياها الإيمان بشيء والتحمّس لشيء”. وكذلك يقول: “العبرة ليست بمكان وجودنا الآن، إنما بالاتجاه الذي نُبحر إليه، فنحن أحيانا نبحر مع التيار، وأحيانا أخرى نبحر ضده. المهم أننا نواصل الإبحار، لا نقف ولا نترك الريح تلعب بنا”…
يختصر هولمز في هاتين المقولتين وغيرهما الكثير في منجزه الأدبي والفلسفي والمعرفي فكرة الحياة ومعناها، فينطلق من الموت باعتباره توأم الحياة اللصيق ومصيرها الحتمي، ويجد فيه المحفّز الحقيقي لعيش اللحظة بكل محمولاتها من حزن وفرح وقلق وأمل ويأس وإنجاز وإخفاق وخيبة وصعود وهبوط، من دون أن نكفّ عن المحاولة، وألا نركن إلى اليأس والقنوط والعدمية، لا بد من وجهة نظره الإيمان بشيء ما مهما كان، حتى لو كان وهماً بالنسبة للآخرين، لأن يرى في الإيمان قوة وسندا نفسيا يصعب العيش مجرّدين منه. وكذلك يرى هولمز أن علينا التحمّس لشيءٍ ما، بمعنى أن يكون لدى الواحد منا هدف، حتى لو بدا مستحيل التحقّق، يسعى إليه بكل طاقته ورغبته في التميز والاختلاف، كي يمنح حياته معنى وقيمة وجدوى. لذلك، يحثّنا على مواصلة السعي في مناكبها مبحرين في دروب الحياة من دون توقّف أو تردّد، حتى نجعل أنفسنا أفرادا فاعلين متمكّنين، غير مستسلمين للريح تلعب بنا على هواها، بل يكون لنا دورٌ في تحديد مسار حياتنا وترك بصمةٍ ما، لعلنا ننجو من استنتاج العبثية التي تحيق بنا وتهدّد تصالحنا مع ذواتنا.
حقّا إنها وصفة جديرة بالتأمل وإعادة النظر، غير أن الكلام يظل سهلا وممكنا، طالما بقي في دائرة التنظير غير المكلفة. يرى الوجوديون أن الحياة أكثر تعقيدا وأقلّ براءة، ولا يبدو لهم التصدّي لشروطها القاسية المجحفة بهذه البساطة، بل إنها تتطلب قدرةً خارقة غير اعتيادية، كي نمضي بها وهي تناصبنا العداء منذ الصرخة الأولى التي نواجهها بها، ناقمين ساخطين غير مدركين سرّ هذه الورطة المحفوفة بالأحزان والمآسي المتلاحقة، التي لم يكن لنا قرارٌ فيها من حيث المبدأ. ومع ذلك، إننا مكرهون على تحمّل تبعاتها التي يتوّجها الموت محصلة نهائية لا مفر منها.
في الكتاب المقدّس، يهتف صوت في سفر الجامعة “باطل الأباطيل الكل باطل”. وفي القرآن الكريم “إن الإنسان لفي خسر”. وعند أبي العلاء المعري الحياة ليست أكثر من جنايةٍ، التزم على شاهد قبره أنه لم يرتكبها بحق أحد. وفي التدليل على هشاشتها، قيل عنها في أغنية جميلة “ريشة في هوا طايرة من غير جناحين …”. وهكذا، تتعدّد تعريفات الحياة والوجود عند الفلاسفة والمفكرين والشعراء والفنانين في شتّى العصور، كل بحسب منطلقاته الفكرية، ويبقى المنظور الشعبي البسيط هو الأكثر تصالحا وانسجاما وانصياعا وتسليما. ويزدحم الموروث بالمقولات التي تعكس هذا التصالح الفِطري المنسجم مع ذاته، غير المعني بالتنظير والفلسفة وطرح أسئلة الوجود الكبرى التي توجع الرأس من دون طائل، فيواجهون المصائب بالتسليم المطلق مردّدين باستسلام “اللي بطيح من السما تتلقّاه الأرض واللي كسرها بيجبرها”. وكذلك يقولون، في توصيف بليغ مكثف لمأزق الوجود: “اللي خلق علق واللي ابتلى يصبر”.
ورغم كل ما سلف، تظل الحياة، بكل ما فيها من تضادّات مضنية مربكة، المعشوقة المشتهاة المتمنعة التي سنظلّ نحبّها مهما أذاقتنا من مرار.