اليوم، وكما هي حالنا في كل يوم، يشتعل الإنسان هنا، في هذا العالم العربي المفتون بجهله وتخلفه ومُستبديه ومُخرّفيه، وقوداً لأحلام أشبه بالهلوسات الهذيانية التي لا تعني شيئا أكثر من كونها مجرد : هذيان.
الإنسان هنا يتم تقديمه ثمناً لكل شيء، بينما لا شيء يتم دفعه مقابل بعض هذه الفرص الضائعة التي كانت تتضمن إمكانية انتشال الإنسان من سياق هذا السعار الإيديولوجي الآخذ في تشيئة الإنسان.
عندما نُلملم شعث الأزمة العامة التي بات مصير غزة مرهوناً بها، ونرتاد الإشكالية من أطرافها بقدر ما نرتادها من أعماقها ؛ ندرك أنها أكبر من كونها أزمة غزة المحدودة، التي لا تتعدى – في سياق مقاربة العقل – أن تكون مجرد مثال. الأزمة كامنة في الوعي العربي بكل مكوناته، وخاصة فيما يتعلق بموقفه من الإنسان، وليست – فقط – في غزة التي تعطينا اليوم نموذجا حيا على كيفية تعاطي هذا الوعي مع الإنسان.
إن ما جرى ويجري في غزة ليس استثناء عابرا، بل هو مجرد إعادة تدوير لنفايات العقل العربي المتكدسة منذ أقدم العصور، والتي زاد مستوى تكدسها وتكلسها بفعل ما أفرزته حركات الانبعاث القومي والديني من روح انفعالية هوجائية ذات نفس شوفيني، هذه الحركات التي عمّقت العداء لمنطق العقل ولمنطق الحضارة ولمنطق الإنسان، ومنحت كل تلك النفايات العقلية حصانة لم تحظ بها حتى بدهيات المنطق العقلي في عصر الأنوار.
ما لم نبدأ في عملية تجريف لمكونات هذا الوعي العربي المشحون بطاقة طغيانية تسترخص الإنسان ؛ فإن كل إنسان عربي سيصبح غزاوياً بمعنى ما، أي بتحوّله إلى مجرد مادة أولية للاستهلاك الإيديولوجي وللاستقواء السياسي. وحينئذٍ، لن تكون غزة مدينة واحدة، بل ستصبح كل مدينة في هذا الفضاء العربي الفسيح غزة، غزة الهزيمة، وغزة المأساة، وغزة الدمار، وغزة القتلى بلا مغزى، وغزة الجموح العابث، وغزة المصير الضائع، وغزة الأمل التائه، وغزة الغرقى في طوفان المستحيل.
إن ما يحرك المأساة في كل دورة من دوراتها التي تتغذى بغباء القادة في حماس، سواء في البداية (= إشعال الفتيل )، أو النهاية (= التهدئة / الهدنة )، هي الحسابات السياسية. وهذا يصدق على الفلسطينيين؛ كما يصدق على الإسرائيليين فالجميع لا يتحرك من خلال الواقع، من خلال واقع الإنسان، وإنما يتحرك من خلال الوعود السياسية الضيقة الخاصة بهذا الفصيل أو ذاك ؛ مع أن السياسي الإسرائيلي يفرق عن الحمساوي في أنه (= الإسرائيلي) يأخذ في اعتباره – إلى أقصى حد – الخسائر البشرية الإسرائيلية ؛ لأن من ورائه وعياً عاماً يمتلك حساسية عالية تجاه أية خسائر بشرية مهما كانت محدودة. وهذا عكس ما يجري على الضفة الأخرى (= حماس)؛ حيث الإنسان آخر ما يقع في الحسبان.
ما يهمنا هو الإنسان، الإنسان الذي يجب أن يكون هو الوسيلة وهو الغاية، وأن يكون هو مقصد الفعل في الواقع، وهو معنى الشعار المعلن. هذا ما يجب أن يكون، وهو – للأسف – مفقود في كل صدام يقع بين الحركات التي ترفع راية المقاومة، وبين قوى الاحتلال. ولهذا لا تمتلك إلا أن تدين – مهما كانت الاتهامات التي ستوجه إليك – السلوك الحمساوي الأرعن، لا لأنك تختلف معه في حساباته السياسية، فهذا حق له ولك، ولا مشاحة في الاختلاف السياسي، وإنما تدينه ؛ لأنه سلوك ذرائعي في تعاطيه مع الضحايا البشرية، بل لا يرتقي إلى مستوى الذرائعية ؛ لأنه لا يبيع الإنسان وفق معادلة واقعية عملية تضمن حدا أدنى من النتائج الإيجابية، وإنما يبيع الإنسان ببضعة أوهام لا تلبث أن تذهب أدراج الرياح.
كلنا يتذكر حرب عام 2008م بين غزة وإسرائيل، ونعلم أن النتيجة كانت : ( 1400 ) قتيل من الفلسطينيين، و(13) قتيلًا من الإسرائيليين، فضلا عن الدمار الهائل الذي لحق بالقطاع. أي مقابل كل قتيل إسرائيلي (1) أكثر من (107) من القتلى الفلسطينيين. ومع هذا احتفل قادة حماس بالانتصار الكبير، وصفق لهم – بعد أن صدقهم – الغوغائيون من المحيط إلى الخليج ؛ دونما أي حساب – ولو على هامشٍ مَنسي من ضمير ميت – لهؤلاء القتلى الذين تركوا خلفهم آلاف المآسي، فضلا عن الجرحى الذين يقدر عددهم بالآلاف.
صدّق العرب / المسلمون الأوهام التي روجتها حماس ؛ لأنهم كانوا يريدون أن يصدقوا، يريدون أن يعيشوا وهم الانتصار بعد أن عجزوا عن حقيقته، استمرأوا الكذب، بل أدمنوه ؛ عندما وجدوه ألذّ من حقائق الواقع الذي يجرعهم مرارة الاحباط.
المهم، مضت الكارثة، مضت الهزيمة (بعد أن اعتبرت نصرا إلهيا !) ؛ دون أن يقول لنا أحد من الحمساويين بصراحة ووضوح وتحديد : لماذا تم دفع هذا الثمن الباهظ إنسانياً، لماذا تم استفزاز العدو (وللتذكير فقط، نؤكد أن غزة هي التي بدأت الحرب بإطلاق مفرقعاتها في حرب 2008م وفي هذه الحرب أيضا) – بلا مُبرّر، وبلا قدرة على الرد، فضلا عن الردع – ؛ لتكون غزة هدفا للقتل والدمار ؟
لماذا تم دفع هذا الثمن، ولا هدف تحقق – كبيرا كان أو صغيرا – ؛ إلا تدعيم نفوذ دهاقنة السياسة الحمقاء ؟
الآن، في هذه السنة (=2012م) تعيد المأساة تكرار نفسها في دورة استغباء تقترب من تخوم الاستهبال، دورة يتم فيها إعادة تدوير نفايات العقل العربي مرة أخرى.
في هذه السنة، لا جديد، لا في الصورة / الشكل، ولا في المضمون، فكما حدث قبل أربع سنوات، ترتفع رايات النصر الحمساوية، ويتبادل أبناء التيار الإسلاموي والتيار العروبوي عبارات التهاني بالنصر ؛ رغم أن إسرائيل قد أوقعت أكثر من (174) قتيلا، بينما أوقعت قوى المقاومة من الإسرائيليين
(3) قتلى فقط، وكل هذا بعيدا عن المقارنات الأخرى، وخاصة مقارنة مستوى التدمير هناك بمستوى التدمير هنا.
طبعا، من الواضح أن ما حدث كان هزيمة ساحقة بكل المقاييس. ومع هذا، وبعيد توقيع الهدنة، خرج القائد الملهم : إسماعيل هنية يخطب خطبة النصر، ولتكتمل صور المهزلة العبثية، كانت خلفه جدارية قد كُتب عليها : (وانتصرت غزة)، وتم إعلان يوم الهدنة إجازة رسمية، على أساس أنه (عيد وطني للانتصار)، وقال هنية في خطبته العصماء ما نصه : ” أيها المجاهدون، ظهرت على أيديكم المعجزات، وأعدتم الانتصارات والفتوحات، وجددتم أيام القادسية “.
هكذا، بكل استغفال واحتيال، بلا حياء، بل وبلا عقل أيضا. أين هي الانتصارات فضلا عن الفتوحات، وما هي المعجزات، وما وجه القياس (ولو بالتحاكم إلى أية صورة من صور القياس) الذي يجعل دمار غزة شبيهاً بانتصار العرب على الفرس، ذلك الانتصار الذي نتج عنه – مباشرة – الاستيلاء على العراق وعلى القسم الأكبر من إيران ؟
حقيقة، يصيبني الذهول من جرأة هؤلاء على الكذب المفضوح، ولا أستطيع تصور كيف يقدمون على قلب حقائق الواقع التي لا ينكرونها (تحت ضغط لغة الأرقام)، ولكن يحرقونها بالشعارات الفارغة، وبالإحالة على معايير ما ورائية، أو مفاهيم متعالية يستحيل التحقق منها، فضلا عن التحقق من اتساقها مع ما يقولون.
ما أضيع اللغة عندما ينفصل الدال عن المدلول ؟ حينئذ يمكن للغة أن تقول أي شيء، ويمكن – بمساعدة هذه اللغة – أن يمنحنا هنية كل ما في جعبته من معجزات وانتصارات وفتوحات، تحققت كلها ببضع مفرقعات !.
هل تتصور أن هنية يصدق نفسه أو يصدقه أي غزاوي ؟
إن أمكن أن يصدق نفسه أو يصدقه جمهوره ؛ فهذا يعني – ببساطة – أنه قد تم نسيان القتلى والجرحى، وكأن (174) قتيلا، مقابل (3) قتلى، ليسوا شيئا في حسابات تُجّار الإيديولوجيا.
يبدو الأمر وكأنما هذا العدد (174) أصبح صفرا، مقابل
(3) من العدو !، أي كأنما الإنسان الفلسطيني لا يتحول إلى مجرد رقم فقط، وإنما يتحوّل أيضا – عند فورة طوفان الادعاءات الكاذبة – إلى : (صفر)، بعد أن يتم تصفير الأعداد عمدا ؛ تمهيدا لممارسة سياسة الاستغباء التام.
أيضا، القائد الأعلى، والزعيم الأشد كاريزمية : خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، يؤكد ما يقوله هنية ويزيد عليه. ففي مقابلته قبل ثلاثة أيام مع قناة الجزيرة يدافع بحماس عن حماس وعن النصر المبين. ولكي يؤكد هذا النصر الذي يستعصي قبوله على الفهم (أي فهم)، يذكر عدة أمور، وأهمها : أن التهدئة طلب إسرائيلي، وأن إسرائيل خضعت لشروطهم، بل وليزيد في التأكيد، يؤكد أنهم في أيام الحرب كانت وجوههم باسمة ضاحكة مستبشرة، بينما وجوه القادة الإسرائيليين عابسة مكتئبة ترهقها قترة كما يقول.
أعتقد أن خالد مشعل ذكر ما أريد تأكيده (وهو ما يُمثّل الفكرة المركزية في كل ما أكتبه عن حماس) من غياب الهم الإنساني من على طاولة الحسابات الحمساوية ؛ من غير أن يشعر بأن لسانه يُدينه. فالقادة الإسرائيليون يقلقون أشد القلق (ولو لاعتبارات انتخابية) من أية خسائر بشرية تسقط في صفوفهم، ويصيبهم الذعر من أية مآس إنسانية (في صفوفهم طبعا) تترتب على استمرار الحرب. وهذا هو السبب في طلبهم الهدنة، وتقديمهم بعض التنازلات، وكون وجوههم عابسة مكتئبة ؛ لأن سقوط عدد محدود من القتلى
(ثلاثة فقط) يحزنهم ويقلقهم ويستحثهم لتقديم عروض السلام، بينما القادة الحمساويون يبتسمون ويستبشرون ؛ رغم سقوط (174) قتيلاً، ورغم حجم الدمار الهائل.
لا شك أن هذا الابتسام وهذا الاستبشار (رغم فارق العددين، فالأحق بالحزن والأسى – منطقيا وإنسانيا – هم قادة حماس)، لا يدلان على نصر، ولا حتى على وهم نصر، وإنما يدلان على عدم مبالاة بالإنسان، فالضحايا البشرية – في معادلة قادة حماس – لا قيمة لها، بل هم لا يهتمون لها إلا في السياق المعكوس، أي توظيفها من أجل تضخيم التضحية من جهة، وإحراج العدو – عربيا وإسلاميا ودوليا – من جهة أخرى.
ولا شك أن هذا هو ما دفعهم إلى وضع كثير من منصات إطلاق الصواريخ على أسطح العمارات السكنية ؛ حتى يُوقعوا إسرائيل في مأزق : فإما أن تضربها ؛ فتقع حينئذٍ مأساة إنسانية ترفع من درجة الضغط الدولي على إسرائيل، وتزيد من حدة الغضب العربي والإسلامي، وإما أن تتركها ؛ فتكون حماس قد حققت ما تريد، حيث بقيت منصاتها سالمة من التدمير.
ومع هذا، فليس كل ما ذكره مشعل، وعقبنا عليه، كان صحيحاً فباستثناء حكاية الابتسام هنا، والعبوس هناك، ليس صحيحا أن إسرائيل وحدها هي من طلب الهدنة، وليس صحيحا أن إسرائيل خضعت لشروط حماس. أليس العويل الحمساوي طوال فترة الحرب، والشكوى في كل منبر، وإلى كل أحد، هو طلب صريح للهدنة، بل استجداء لها ؟
ليس شرطا أن تطلبها حماس من إسرائيل مباشرة، فمجرد طلب التدخل العربي والإسلامي والعالمي لإيقاف العدوان يُعد طلبا صريحا للهدنة، واعترافا أشد صراحة بالهزيمة ؛ وإلا لو كان ثمة نصر يستحق الذكر، لكان طلب التدخل خيانة ؛ لأنه – والحال كذلك – سيكون محاولة لمنع النصر. فإذا كنت منتصرا حقيقة ؛ فلا تطلب من أحد أن يتدخل، بل واصل النصر بلا شكوى وبلا استجداء بالضحايا وآثار الدمار.
إننا نريد الحقيقية كما هي في الواقع، وليس كما نتمناها في أحلامنا الجامحة إلى ما وراء الخيال.
نحن هنا لا نقسو على غزة، بل ولا على قادة غزة ؛ عندما نؤكد حقيقة الهزيمة من جهة، وحقيقة الخداع من جهة أخرى. نحن لا نفعل ذلك إلا بدافع الحب العميق، وعلى مقدار حبنا تكون قسوتنا. نحن في نقدنا هذا لا ننحاز إلا لغزة : الأرض والشعب بل والقادة، ولا يمكن – بأي حال – تصور أن نكون في موقف الداعم أو المتسامح مع قوى الاحتلال.
نحن – من حيث المبدأ – مع غزة في كل حال، وضد أعدائها في كل حال أيضا. لكن، لا يعني هذا أن نقلب حماقات الأحبة إلى إبداعات عبقرية، ولا الهزائم الماحقة إلى انتصارات ساحقة، ولا أن نُغالط في تحديد من بدأ بإشعال فتيل الأزمة. نحن نواجه غزة الشعب والقادة بالحقيقة (كما نتصورها) ؛ انتصارا للإنسان المسترخص في غزة ؛ وإسهاما في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبصورة أوضح، نحن في تعنيفنا لقادة غزة، وتشنيعنا على سلوكياتهم المستهترة بالضحايا البشرية، كالطبيب الذي يُعنّف الأم على إهمالها لصحة طفلها وتعريضه للهلاك بسبب جهلها أو حماقتها، فالطبيب المهتم قد تستفزه درجة الإهمال، وتردي حالة الطفل ؛ فيواجه الأم الراعية بأقسى عبارات التعنيف، بل والتوبيخ أحيانا ؛ حرصاً على سلامة الطفل الذي يراه معرضاً للهلاك على يديها بسبب الجهل أو الإهمال.
شاهد أيضاً
اللجنة الرياضية لمحافظة سلفيت تزور نادي سرطة الرياضي
شفا – بتوجيه من محافظ سلفيت اللواء د.عبدالله كميل، نفذت اللجنة الرياضية في محافظة سلفيت …