طوال التاريخ الإنساني الحديث لم تتحقق وحدة واتحاد لإنشاء كيان سياسي موحد، قوي، دون حروب وسفك للدماء، حتى تلك التي تعد من كبرى الاتحادات الوطنية التي حدثت، مثل الولايات المتحدة الأميركية، لم تتمكن من المحافظة على اتحادها ووحدتها إلا بعد حرب أهلية مضنية استمرت لأكثر من أربعة أعوام (1861م – 1865م)، وذهب ضحيتها أكثر من 620,000 جندي، خلافاً لتلك الأعداد الكبيرة من الضحايا المدنيين اختلفت التقديرات حولها. ورغم أن العصر الحالي أثبت أن في الاتحاد قوة، وفي توحيد الكلمة ورص الصفوف تمكين وعلو وسبق في كافة المجالات الإنسانية، وأن المشاريع الوحدوية تنعكس إيجابياً على الشعوب والمجتمعات، إلا أنه تبقى هناك نزعات انفصالية تطمح إلى الاستقلال في كيانات تقوم على أساس عرقي أو ديني أو قومي.. وثمة نزعات تقف وراءها طموحات شخصية.
فاطمة المزروعي
بالطبع، لم يكن اختلاف الناس وتنوع ثقافاتهم واهتماماتهم في أي يوم من الأيام عائقاً أو عقبة في وجه أي مشروع وحدودي، ما دام هذا المشروع يحقق للجميع القوة ويساعد في مواجهة التحديات والصعوبات، فضلا عن كونه من أهم عوامل نجاح البناء الحضاري والتقدم في كافة مجالات التنمية البشرية من الصحة إلى التعليم والعمل وغيرها كثير..
النموذج الأوروبي
يقدم لنا النموذج الأوروبي دليلاً في هذا السياق، فالدول الأوروبية التي سعت للاتحاد في كيان سياسي واقتصادي واحد، بدأت مساعيهم لتحقيق الوحدة الأوروبية قبل عام 1957م، وهو العام الذي أعلنت فيه مجموعة من الدول الأوروبية إنشاء “المجموعة الاقتصادية الأوروبية” التي قامت أساساً على الاقتصاد، فكانت هويتها اقتصادية بالدرجة الأولى.
واليوم، ونحن في العام 2012م ، نرى جملة من الأخطار التي تهدد الوحدة الأوروبية، فالبناء الوحدوي لم يكن عنوانه الرئيسي إلا عنصر واحد وهو الاقتصاد، لذا فإن أول المخاطر التي تهدده اليوم هي العملة الأوروبية نفسها – اليورو – ويقال بأنها هي القشة التي ستقصم ظهر البعير، وأنها هي التي ستتسبب في تفتيت هذا الاتحاد.. شواهد ودلالات مثل هذا التفكك ماثلة في الأزمات الاقتصادية التي تعيشها الشعوب الأوروبية نفسها، مثل اليونان. ولا ننسى أن واحدة من كبرى الدول الأوروبية – انجلترا – لم تنضم للوحدة النقدية وحافظت على عملتها – الجنيه الاسترليني – بسبب رفض الإنجليز عندما تم استفتاؤهم لأنهم تشبثوا بعملتهم القومية العريقة، فضلا عن مخاوفهم من أن يتدهور وضعهم المالي والاقتصادي.
الاتحاد الأوروبي يعاني أيضاً من نزعات انفصالية في نفس جسم دوله المختلفة؛ في إسبانيا – مثلاً – يتم الحديث عن انفصال كتالونيا، ناهيك عن وجود نزعات انفصالية لدواعي قومية في دول أخرى من دول الاتحاد الأوروبي.
لقد ركز الأوروبيون على جانب وحدوي وهو الاقتصاد وأغفلوا معالجة جوانب عديدة ومتنوعة هي روافد لأي عمل وحدوي، فعملية فتح الحدود وإلغاء القيود الجمركية لم تكن في أي يوم مدعاة أو سبباً لوحدة تصمد أمام الأخطار والصعاب. الأوروبيين تجاهلوا بناء اتحادهم من الداخل على أساس المصير المشترك لجميع أعضاء الاتحاد، والاقتصاد الذي يجمعهم اليوم هو الذي قد يفرقهم في الغد، والشاهد هو الحالة اليونانية التي ما إن أفلست حتى ارتفعت أصوات من داخل الاتحاد الأوروبي نفسه ترفض مساعدتها، وترى أن عليها أن تواجه مصيرها لوحدها، وتطالب بإخراجها من منطقة اليورو التي هي نفسها تعيش أوقاتاً صعبة، وأخيرا وبعد مفاوضات شاقة تم دعم اليونان، وفق حزمة من الشروط والخطط التقشفية التي شلت الحياة وجعلت الشعب اليوناني يدخل في إضرابات احتجاجية على هذه السياسات الاقتصادية القاسية حتى يومنا هذا.
النموذج الإماراتي
عندما تلتقي رغبات الشعوب وآمالها مع قادة مبدعين يملكون الذكاء والحكمة ورؤية سليمة وواقعية للمستقبل، فإن هذه التطلعات تتحقق وتنجح. وتنطلق عجلة الحراك الإيجابية لتحقق التقدم الاجتماعي في مجالاته كافة. لذا فإن وجود القائد المحنك الحكيم نعمة لا تقدر بثمن. في هذه البلاد الطاهرة الحبيبة، رزقنا الله بصاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمة الله رحمة واسعة، هذا القائد الذي أخذ على عاتقه بناء دولة حديثة متطورة متقدمة، تضاهي دول العالم، فعمل للاتحاد مع إخوانه حكام الإمارات، شعاره الحب والسلام، وأن الوحدة والاتحاد قوة ورفاه وعزة للجميع، ولأن النيات صادقة بيضاء، ولأن القلوب نقية مؤمنة، التقت هذه الرغبات فظهرت شمس الإمارات العربية المتحدة، على خارطة الكرة الأرضية واحدة من أكثر الدول عصرية ورفاهاً وتسامحاً وإبداعاً وتطوراً.
كان الشيخ زايد، رحمه الله، يعلم أن الاتحاد، والعمل المشترك هو مصير الشعوب المتحضرة القوية، لذلك تمكن من إنجاز هذا الاتحاد بالتفاهم والحوار، متجنباً الدخول في متاهات الاختلافات والجزئيات التي تضر ولا تنفع؛ وبسبب حكمته وبعد نظره نجح في بلورة فكرة الاتحاد وتحويلها واقعاً عيانياً، وفي ظهور الاتحاد على خارطة العالم.
كان الشيخ زايد رحمه الله يملك رؤية وتطلعات وحدوية واسعة لا تقف عند حدود الإمارات بل ترنو إلى الخليج، فهو من أصحاب فكرة إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وقد تحققت هذه الرؤية الحكيمة في عام 1981م في أبوظبي. فكان بحق رجل الوحدة والاتحاد، ويكفي أن نلقي نظرة اليوم على مجلس التعاون الخليجي، لنعرف أن هناك جملة من مؤسسات ومشاريع عربية وحدوية قامت ثم انهارت لأن بناءها لم يكن على أسس سليمة. أما مجلس التعاون الذي انطلق من عاصمة الإمارات العربية المتحدة، أبوظبي، فيكمل اليوم أكثر من ثلاثين عاماً من النجاح والتنسيق، وفي كل يوم نقرأ ونسمع عن إجراءات وحدوية جديدة بين دوله.
الحديث عن الشيخ زايد، رحمه الله، حديث طويل ومتشعب، ورحلته نحو الاتحاد والعمل من أجله عمل موسوعي يحتاج لكتب ترصده وتحلل مواقفه وكيف تعاطى مع المواقف والأحداث المختلفة؟ وكيف ظهرت حكمته وبعد نظره؟ بل حتى سياسته في إدارة الدولة داخلياً وخارجيا تحتاج لوقفات وبحث من جانب دراسي العلوم السياسية. أما مواقفه على الصعيد العربي والعالمي ونظرته للأحداث الدولية وكيفية إدارتها سياسياً فقد أثبتت الأيام أنها كانت تنبع من صميم عقل عربي أصيل يؤمن بشدة وعمق بالحق العربي ويقف مع العرب وقضاياهم بكل صدق وشفافية، ولن نذهب بعيدا فهو الذي دونت كتب التاريخ كلمته الشهيرة التي أطلقها عام 1973م أثناء حرب أكتوبر عندما قال: “النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي” ثم أصدر قراره بوقف النفط عن العالم بأسره.
وأما على المستوى الداخلي، فقد بدأت رؤيته في الظهور منذ العام 1946م عندما تولى “رحمه الله” حكم العين. تلك الفترة التي تقدم لنا جوانب مختلفة من ثقافة هذه العقلية الفذة، وكيف جابه تحديات كثيرة وابتدع حلولاً لمشاكل شتى: ندرة المياه وقلة الإمكانيات والأمية والتعثر الاقتصادي وانتشار الفقر وغيرها؟
في هذا الإطار، أصدر الشيخ زايد قراراً يعد من أهم القرارات في تاريخ العين، عندما أمر بإعادة النظر في ملكية المياه وجعلها على ندرتها متوفرة للجميع، بل وتخصيص جزء منها للزراعة فانطلقت عجلة الإنتاج الزراعي وزادت المساحات الخضراء. كما قام بافتتاح مدرسة النهيانية، وهي أول مدرسة في العين، لتعليم الناس، ومستشفى طبي لمعالجة الجميع دون استثناء، فضلاً عن أمره لتجميع المحال التجارية وترتيبها لتكون نواة لإنشاء أول سوق تجاري كبير. وكان لهذه القرارات وغيرها صدى كبيراً، وظهرت آثارها سريعاً: تغيرت معالم الأرض الصحراوية لتصبح أرضاً خضراء تنتج صنوفاً من المنتجات الزراعية، وازدهرت التجارة وحركة البيع والشراء، فضلا عن انتشار التعليم.
كان الأب الشيخ زايد، رحمه الله، فريداً في خصاله وفي مواهبه وفي حكمته، وهي دعوة لرجال القلم من الأدباء، للتوقف أمام مسيرته وسيرته، والنهل منها وتدوينها لتبقى في ذاكرة الأجيال المتتالية من أبناء هذا الوطن الغالي.
في هذه الأيام الجميلة العطرة نستعيد ذكرى اتحاد دولتنا الفتية، وهي ذكرى عزيزة دون شك ليس على قلوب الإماراتيين بل وعلى العرب وكل إنسان نهل من خير هذه الأرض الطيبة التي أعطت دون منٌ أو أذى، بل بحب وتسامح ولا زالت تعطي وتقدم. ولم يكن كل هذا ليتم ويتحقق على أرض الواقع لو أن الشيخ زايد، رحمه الله، غفل عن الكلمة الطيبة وعن التسامح والقيم النبيلة والحكمة والنظرة العميقة البعيدة المدى للمستقبل، وما كان له أن يغفل عنها وقد نشأ عليها وتعلمها من الآباء والأجداد، ثم علّمنا كيف نتعامل بها ونعيش معها.. ونحن بدورنا، سنحافظ بحول الله وقوته على هذه القيم وجمالها.
شاهد أيضاً
اللجنة الرياضية لمحافظة سلفيت تزور نادي سرطة الرياضي
شفا – بتوجيه من محافظ سلفيت اللواء د.عبدالله كميل، نفذت اللجنة الرياضية في محافظة سلفيت …