الصهيونية والفاشية ومستقبل فلسطين ، بقلم : جلبير الأشقر
جاؤوا بعشرات الآلاف يوم سبت بعد سبت منذ بداية هذا العام الجديد، وقد بلغ حشدهم في تل أبيب أكثر من مئة ألف رجل وامرأة يوم السبت في 21 يناير/ كانون الثاني. تظاهرات قد يخفق القلب لها من حيث المبدأ: أفلا يصرخ المتظاهرون «لا للدكتاتورية» ويدعون إلى صيانة «الديمقراطية»؟ أوَليس هذا مطلب الشعوب البديهي كما بدا في موجتي الانتفاض في المنطقة العربية في عامي 2011 و2019، كما في شتى القارات والبلدان من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا جنوبي الصحراء، ومن إيران إلى الصين؟
لكن قلوبنا تعجز عن أن تخفق لتظاهرات تل أبيب، وذلك لسبب عظيم الشأن: لأنها تظاهرات «بيضاء وزرقاء» تتجلى في بحر من الأعلام الإسرائيلية يموج في ساحة تل أبيب الرئيسية. وقد أراد المتظاهرون بهذه المزايدة في التعبير عن تعلقهم بدولتهم أن يبيّنوا لحكومة أقصى اليمين التي يحتجّون عليها أنهم لا يقلّون عنها تمسكاً بأساس هذه الدولة الصهيوني، إن لم يكونوا أكثر إخلاصاً منها له.
فهم يرون في تولّي أقصى اليمين الفاشي خطراً على «الديمقراطية» الخاصة بهم، والتي يسميها عن حق بعضُ ناقديها «ديمقراطية عرقية» لكونها قائمة على التمييز العرقي ومحصورة بالتالي بصنف واحد من الناس، هم اليهود بالطبع في حالة إسرائيل التي لا تجد إحراجاً في الادعاء أنها «دولة يهودية وديمقراطية» وهي عبارة قائمة على تناقض صارخ. كما يرى المتظاهرون في حكومة أقصى اليمين خطراً على أمن دولتهم، إذ إن من شأنها مفاقمة انحطاط صورة إسرائيل الاصطناعية والمغشوشة بوصفها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» وبالتالي توسيع الهوة التي باتت قائمة بين الدولة الصهيونية والرأي العام الديمقراطي العالمي بما يكتسي خطورة عظمى بالنسبة إلى دولة مطلَقة الارتهان بالدعم الخارجي منذ ولادتها.
هذا وقد نقل أحد التقارير الإعلامية عن تظاهرات تل أبيب خبر وجود لوح كرتوني وسط بحر الأعلام البيضاء والزرقاء، كُتب عليه «لا ديمقراطية مع الاحتلال». ونحن شاكرون لنوايا من رفع تلك اللوحة، لكنّ رسالتها مضلَّلة هي أيضاً إذ إن احتلال سنة 1967، وهو المقصود بالطبع، إن ذلك الاحتلال لا يعدو كونه استكمالاً لاحتلال آخر جرى قبله بعشرين عاماً وقد قامت الدولة الصهيونية على أساسه، مستولية على معظم أرض فلسطين وحارمة معظم سكانها الأصليين من الاستمرار بالعيش فوقها.
فالحقيقة هي أن لا ديمقراطية ممكنة مع بقاء الصهيونية بذاتها، وهي القائمة على الاحتلال بالفطرة كما على التمييز العرقي، وقد سعت منذ ولادتها وراء خلق دولة خاصة باليهود من خلال عملية استيطان في أحد البلدان الخاضعة للاستعمار، بدل أن يكون الأمر في إحدى مناطق الكثافة اليهودية في أوروبا. أو كما اقترح ديفيد بن غوريون نفسه على الجنرال دوايت أيزنهاور، عندما زاره في ألمانيا المحتلة سنة 1945 إثر هزيمة النازية، وقد كان أيزنهاور آنذاك الحاكم العسكري لمنطقة الاحتلال الأمريكي، اقترح عليه أن يقيم الأمريكيون دولة يهودية في ولاية بافاريا الألمانية تعويضاً عن الإبادة التي ألحقها النازيون باليهود. طبعاً، لم يقصد بن غوريون ذلك بديلاً عن مشروعه في فلسطين، لكنه اقتراحٌ كان أقرب إلى الحق بما لا يُقاس مما هو قيام الدولة الصهيونية في فلسطين!
فإن مصير الصهيونية الراهن إنما هو المصير الطبيعي المنسجم مع جوهرها الفطري، وكل من عوّل على «حل سلمي» مع دولتها إنما كان حالماً ساذجاً في أحسن الأحوال. أما أن تعلن «السلطة الوطنية» قطع تعاونها الأمني مع الاحتلال الصهيوني مثلما جرى قبل أيام (وهي ليست المرة الأولى التي يصدر مثل هذا الإعلان عن تلك الهيئة الفاقدة لأي سيادة) فإعلانها دلالة بحد ذاته على أنها هي أيضاً نقيض تسميتها، لا تمت بصلة إلى الوطنية، بل هي في حقيقة الأمر سلطة شبيهة بكافة السلطات التي أقامها المحتلون (الفاعل) في شتى أنحاء العالم للإيهام بأن شعب البلد المحتل (المفعول) راض عن خضوعه للاحتلال.
وعليه، فلن ينبعث السلام من استشهاده في «وطن السلام» سوى على أنقاض الصهيونية، عندما يحصل الفلسطينيون على حقهم في العودة إلى أرض أسلافهم وتعود أرض فلسطين وطناً لجميع سكانها بحقوق متساوية وبلا تمييز عرقي، وهي المبادئ التي طالما نادت بها حركة التحرر الوطني الفلسطيني وخذلها مشروع أوسلو البائد. وهذا لا يمرّ عبر عودة البندول في الدولة الصهيونية من اليمين إلى اليسار في حدود طبيعتها الفطرية، بل بانتقاله من الفاشية التي وصل إليها إلى نقض الصهيونية، أي عندما يدرك قسم كبير من اليهود الإسرائيليين أن مآل الصهيونية الطبيعي هو الفاشية وأن رغبتهم في العيش بديمقراطية وسلام لن تتحقق سوى عندما يستعيد شعب فلسطين كافة حقوقه. وحتى ذلك الحين سيستمر هذا الشعب بالمقاومة العنيدة والبطلة، بكافة أشكال المقاومة من العسكري إلى السلمي الجماهيري مع التفاعل الضروري بين الشكلين.
بهذا المعنى فإن مجيء ائتلاف الفاشيين إلى الحكم في إسرائيل إنما هو مفيد للنضال الفلسطيني حتى ولو بدا هذا الكلام مدهشاً. ومن حسنات هذا المجيء الإضافية أنه أربك سائر المتعاونين العرب مع الاحتلال الصهيوني الذين باتوا يترددون في عقد اجتماعهم القادم في النقب للتنسيق الأمني مع دولته. لقد ربطوا مصيرهم بمصير الصهيونية وسوف يرتدّ الأمر عليهم لا محال، إذ إنها لثورة حتى النصر، كما ورد على شعار «حركة التحرير الوطني الفلسطيني» (فتح) وهو وعدٌ نسيه منذ أمد طويل قادتها الرسميون، لكن شعب فلسطين لم ولن ينساه، بل أعاد الجيل الجديد العمل به بصورة مستجدة.